يقصد بالتربية هو نقل الموروث من جيل إلى جيل، وهي أيضًا الحفاظ على قيم وتقاليد المجتمع السائدة ونقلها للأجيال القادمة، والتربية يمكن أن نطلق عليها سلسلة غير ذات حدود من المعاني والأفكار والتطبيقات في التنشئة الأسرية والتنشئة الاجتماعية التي تستمر مدى الحياة، ويتناقلها الأفراد من جيل إلى جيل.
تختفي في التربية فكرة العقلانية أو الاعتدال المطلق، بقدر ما تظهر فكرة نقل حيثيات السلوك اليومي من الأب والأم إلى الأبناء، بدقة متناهية أحيانا، وبعشوائية أحيانا أخرى، التربية إذن قانون لا يعرف الرحمة في نقل الموروث، ولا يعرف العقلانية، لذا انتشرت في مجتمعاتنا عشوائية التربية وضاعت الدقة، وتدهورت القيم السائدة لأن بوسع أي شخص أن يصبح مربيًا في فترة قصيرة من الزمن، وشعار أي مربي أن يعلم أبناءه كما تعلم هو، وهو التعلم بالنموذج والذي يراد به توسع الاستعدادات النفسية باتجاه ما يريد بلا توازن، لذا ليس في وسع الأب أو القائم على التربية أن ينقل إلا ما في حوزته من التربية، وهو يفرض على الطفل أن يصبح لا ما هو عليه، وإنما ما يريد أن يكون هو، وهو قتل متعمد للتلقائية لدى الطفل.
يتساءل الكثير منا ممن تعلموا واكتسبوا مهارات علمية وأكاديمية أو حياتية تساؤلًا قلقا بشأن طفل أو مراهق بدأت تربيته الدينية بقوة وبعنف أو الأسرية بقسوة مفرطة أو الاجتماعية بقيم بالية، أو من خلال التنشئة بالعديد من المتناقضات التي تؤدي إلى الانحراف مثل الأفكار اللاعقلانية عن الدين والتعسف في التطبيق، أو عن نشر الغيبيات، أو عن أقوال عفى عنها الزمن عند بعض الصالحين أو السلف المشكوك في ولائهم للدين، ولكن أغدق عليهم السلطان المال وأطلقوا الأحاديث والفتاوى غير الصحيحة، أو دور الآباء الذين يخرجون أوراق قديمة من قاع تجربتهم ويرون فيها حكم وموعظة. والكثير منهم محدودي التفكير، ضيقوا العقلية وبالأخص حينما يمس ذلك الانتماء إلى المذهب أو العرق أو الدين أو العشيرة أو القبيلة، وربما تصدر منه أحكامًا مسبقة يصعب التخلص منها، تترسخ في عقل الطفل أو المراهق.
يحق لنا أن نقول ويتفق معنا معشر السيكولوجيين وممن درسوا التربية أن عشرات الملايين من الآباء يدورون حول عقدهم، وأنواع كبتهم "الكبت"، ومخاوفهم "الفوبيا- المخاوف المرضية"، ووساوسهم "الوسواس القهري- والأفكار الحوازية"، لذا فهم ينقلونها بصورة آلية ولا نغالي إذا قلنا إنها تنقل لا شعوريًا إلى أبنائهم، وهذا أمر بديهي اذا اقترن كل ذلك بنص قرآني يفسر أية ظاهرة تربوية خطأً، ويكون مدعومًا ببعض الأحاديث النبوية التي لا مصداقية لها، أو ببعض الآراء الفقهية المنقولة عبر الروايات أو أقوال بعض الأئمة والمصلحين الدينيين.
هل التمسك بالتربية الدينية هو الحاجة للأمن الداخلي لدى الإنسان؟
إنها المشكلة الحقيقية التي تخفي وراءها كم هائل من المشاكل، فالغالبية العظمى من الناس تواجه أنواع المشكلات والأزمات في الحياة الإنسانية المعاصرة مثل الخوف من المجهول، أو المخاوف من الفضائح الجنسية والأخلاقية، أو المخاوف الناشئة من الشعور بالموت وما بعده من حياة غير معروفة تماما، فيمكن عزل هذه المخاوف باللجوء إلى الدين وقبوله مهما كان به من زيف، أو تفسير غير عقلاني لأزمات الحياة، أو تقليل الكبت والعقد الناشئة عن استمراره، وهذا في الحقيقة حل!! وهذا الحل كمن يمسك بلولب لا نهاية له.
إن التربية تميل وترتكز على روح التقسيم وتصنيف السلوك، لا سيما أن السلوك كما يعرفه عالم النفس "دانيال لاجاش" هو المظاهر الخارجية والمادية البحتة، بل هو جماع الأفعال الفسيولوجية والنفسية واللفظية والحركية التي تقوم بها شخصية متصلة ببيئة لمحاولة حل التوترات التي تحفزها، ولتحقيق إمكانياتها، ويضيف "لاجاش" الخاصية الأساسية للسلوك هي أن له معنى هو ما للأفعال التي يتضمنها السلوك من قدرة على خفض توترات الإنسان والكائن الحي عموما. والدين يشكل السلوك ويعطيه سمة معينة يتميز بها كما تشكل التربية السلوك، فكلاهما يشكل السلوك، ولكن الفرق بينهما أن التربية عامة في تشكيلها للسلوك، والدين يفرز الأفراد تبعًا لمنظومات يصطنعها وتكون معيارا قيميا.
التربية المعتدلة تمنح الفرد من أن ينفتح بحرية، ولا تضيق مجاله، بينما في التربية الدينية تضيق مجال علمه، ومجال حبه أو توسع مجال كرهه!! فالتقسيمات الدينية قد تتعارض مع الآراء المنفتحة ومناقشتها، وربما تختلف مع الآخرين بذلك وتدفع البعض إلى التعصب وإلى العنف والحقد والاحتقار والتنافس الشرس في إيقاف أو نشر تلك الأفكار، فربما نجد عواطف الأطفال عكس ذلك، فحينما تتبلور تجاه طفل آخر مختلف معه في المذهب أو الدين أو العرق أو اللون أو الانتماء الجغرافي ويمارس هذه العاطفة بعفوية تامة، دون الرجوع إلى التقييمات المسبقة أو التصنيفات على أساس سني أو شيعي، مسلم وغير مسلم، وما إلى ذلك من تقسيمات مكتسبة من البيئة التي عاش فيها.
إن الطفل هو عفوي ولكن نحن نغرز في داخله ما نريده ونعلمه التعصب والتشدد ورفض الآخر، أو قبوله لا سيما أن التعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فردًا معينا أو جماعة أو موضوعا معينا إدراكًا إيجابيا محبًا أو سلبيا كارهًا دون أن يكون لذلك مايبرره من المنطق أو الشواهد التجريبية، كما ذكرته موسوعة علم النفس والتحليل النفسي. وخلاصة القول أن التربية تُكونْ اتجاها لدى الطفل ويتعقد ليصبح قيما ومن ثم يتبلور ليكون معتقدا، وليس ثمة من تربية ممكنة للطفل دون حب، حتى وإن كان بعض الآباء قساة ولكن لا تخلو من هذه العاطفة، لكي يتقبل الطفل تعاليم الكراهية أو المحبة بوساطة التربية لابد أن يرى المربي بصورة الحنون وإن كان مسيطرا عليه.
واقرأ أيضًا:
البناء النفسي في الإنسان، المعني والمبني/ أفكاري .. مزقتني؟/ النفس.. دوامة الحياة غير المنتهية/ الندم.. مدخل سيكولوجي لمحنة الذات