سبب أو لآخر عشت أفضل السفر السياحي والعلمي أو السفر للعمل السريع الخاطف يومين أو ثلاثة إلى بلاد عربية، عن السفر إلى بلاد غير عربية بقيت كذلك ربما لعقدين من الزمن وكانت بيروت لدي مفضلة، ودبي وظلت دمشق حلما حتى أدركته لكنني وإن أدركت غزة لم أدرك بغداد....... وفيما عدا ليماسول وليرناكا لم أزر بلدا أوربيا إلا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير حيث كانت سفرتي الأولى إلى فيينا وأذكر أن أ.د محمد غانم لامني كثيرا عندما سمع رأيي في هذا... وقد صدق في ذلك، بل اكتشفت بعد ذلك بفترة قصيرة أنني حين أكون مسافرا خارج الأراضي المصرية لا أحتاج عقاقير لأنفي ولا لصدري... بينما أنا في مصر إذا عصرتني تسيل العقاقير مذابة في مياه جسدي.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.....
لا شك أن كثيرا مما رأيته في كل مدن أوروبا التي مررت بها على طريقة يومين أو ثلاثة أثر في نفسي وأشعرني بأحقيتي أن أعيش كذلك في بلدي وسط أهلي وناسي... وهي الأحقية التي في بلدنا لا تكتشفها إلا لتأسى زيادة على نفسك،... ورغم ذلك وغيره من مقارنات مؤلمة بين سلوكيات الناس ورفاهيتهم هنا وهناك، إلا أنني لم ألمس في أي من تلك المدن ما لمسته في لندن.
أول ما كان جذبني لها كان أحمد مطر الشاعر العراقي السياسي المعروف، تمنيت أن ألقاه في لندن لأسأله كيف يعيش وهو ينتفض عروبة في ذلك البلد الإنجليزي البارد!...... ثم نسيت الشعر والسياسة إلى أن أطل علينا في مجانين أنشط مستشاريها د. سداد جواد التميمي في أواخر سنة 2010 .... أطل بوجهه العلمي الموضوعي الحليم بعدما قرأت مقاله: المرأة والرجل على الميزان عبر الشبكة العربية للعلوم النفسية.... وكنت قد نشرت له قبلها لكنني عند قراءة ذلك المقال أرسلت له خاطبا إسهامه معنا في مجانين فكان نعم المعين..... تمنيت كثيرا أن ألقاه بعدها وأن أعرف كيف يعيش في ذلك المناخ الإنجليزي البارد، لكن الفرصة لم تتح إلا بعد حوالي خمس سنوات من العمل معا في مجانين....
فأما لندن فأعطتني إحساسا مختلفا لم أجده في روما ولا فيينا ولا ميونخ. في لندن ليس الجمال فقط وليست النظافة ولا العراقة فقط ولا الصحة السوية والمرح الباديان على وجوه الناس... هناك شيء من الإحساس بعظمة المكان، وأما سداد فمنذ إطلالتي الأولى لوجهه قلت له أنت أصبى وأكثر بهجة وأرق كثيرا مما تظهرك الصور في مجانين والصور على الفيس بوك، وكان قد لقيني وأنا أجر حقيبتي من الحافلة على مدخل الفندق الذي كان في منطقة سكنية هادئة... لكنها بعيدة عن لندن الحقيقية... دخلنا الفندق فطلب أن ينتظرني في استقبال الفندق حتى أصحب حقيبتي إلى غرفتي وأظن الساعة كانت في حدود الثالثة وكنا اتفقنا على الثانية كما كان مقررا! لولا اضطراري ورفاقي من مصر للانتظار في مطار هيثرو أكثر مما كان مقررا بسبب عدم إحسان التنظيم من شركة السياحة.
بعد خمس دقائق على الأكثر نزلت من الغرفة، وجلسنا قليلا في مطعم الفندق لنحتسي فنجاني قهوة اسبرسو، قدمت له هدية بسيطة أحضرتها من الحسين، وأهداني تذكارا باسم جواد ابني الأصغر وهدية من زوجته لزوجتي ومسبحة، التقط وعرفت منه أنه سيعود إلى كاردف ليلة الأربعاء ثم يعود للقائي يوم الجمعة، ثم سألني ماذا تريد أن تفعل الآن قلت أتمنى الوصول إلى شارع أوكسفورد، لأن لدي قائمة مشتروات ولن أراك إلا الجمعة... وبالفعل قال لي إذن هيا شارع أكسفورد على بعد محطتين بقطار الأنفاق... في الطريق أعطاني بطاقة ممغنطة خاصة بركوب قطار الأنفاق وقال لي ستكفي تحركاتك وأنت في لندن... وصحبني في القطار فقلت له أحتاج إلى أخذ صورة لك لأنك مختلف كثيرا عن الصورة الموجودة لدينا على مجانين... وبالفعل أخذنا صورة سيلفي معا وأخذت له أخرى.... ممنيا نفسي بأن تكون التي سأختار لمجانين بدلا من صورته القديمة.
أسميت هذه المدونة قريبا ألتقي سدادا من طول ما رددت بيني وبين نفسي تلك العبارة وأنا أنوي كتابة مدونة أبثه فيها شوقا تشكل عبر سنوات خمس وأنا أقرأ له وكثيرا أحرر ما يكتبه بنفسي فيفيدني ويمتعني برقة أسلوبه ودقة منهجه في آن.. وظل منحنى الشوق تصاعديا.... فكرت أن أستشرف لقائنا بالكتابة عن شوقي وتوقعاتي لكنني للأسف لم أتمكن من ذلك انشغالا... أو قولوا اعتقالا في دوامة العمل مع المجانين مرضى وطلاب ومستشارين...
تسوقت -أو تسوق لي سداد حتى الثمالة- من شارع أوكسفورد ولم يمهلني الرجل وأنا أتسوق للمرة الأولى في لندن إلا لأختار الأنسب والأطيب وخلال حوالي 45 دقيقة أنجزت جزءٍا مهما من القائمة... وأسرني سداد بطيبات الحكايا.... مستقلين القطار لمحطتين ثم نزلنا وسرنا معا حوالي 15 دقيقة ويبدو أنه انتبه إلى اقتراب موعد قطاره إلى كاردف فودعني وأنا أمام الفندق غارق حرجا عرقي مرقي من المشوار وأنا محوط بالملابس الثقيلة دون داع... كما عرفت بعد... وكان يومنا الأول معا في لندن.
واقرأ أيضًا:
مقص السعدني: ربَّ أخٍ لم تلده أمك / مقص السعدني: لأنه غالٍ ثمين / شكرا سوريا: مؤتمر مختلف3