من المؤكد أن العمل يشكل محوراً رئيسياً في حياة الإنسان البالغ، رجلاً كان أم امرأة. وللعمل أشكال متنوعة، وهناك العمل العضلي والعمل الفكري والعمل المنزلي والعمل خارج المنزل، والعمل في الأرض وفي البحر وفي الفضاء. ويمكننا أن نقول أن "العمل حاجة واستعداد" في داخل الإنسان وأنه يرتبط بجوهر الحياة نفسها، فالحياة لا تستقيم بدون العمل بالنسبة للفرد والمجتمع على حد سواء.
والإيجابيات الأساسية بالنسبة للمرأة (وأيضاً للرجل) أن الإنسان يحقق ذاته وشخصيته ووجوده من خلال العمل، وهو يحس بالإنتاج والإنجاز والأهمية. كما أن العمل يعطي صاحبه الاستقلال المادي، ويساهم في تنمية قدرات الشخصية واغتنائها من النواحي العملية والفكرية والاجتماعية. والقيام بالعمل يشعر المرأة بالرضا والسرور والنجاح وفي ذلك مكافأة هامة وتدعيم لقيمتها وثقتها بنفسها من النواحي النفسية.
ومما لا شك فيه أن العمل يجعل المرأة أكثر قوة وأكثر قيمة في مختلف النواحي الواقعية والمعنوية. والمرأة لا تبقى ذلك الكائن الضعيف ذا القدرات المحدودة والذي لا حول له ولا قوة. والحقيقة أن الإنسان بلا عمل يصيبه الخمول والكسل والضياع والقلق، كما أنه لا ينمو ولا يعيش الحياة بشكل كامل، وكأنه يعيش الحياة أقل من غيره، ومن المعروف في العلوم الطبية أن العضو الذي لا يعمل يصاب بالضمور والضعف وهكذا الإنسان الذي لا يعمل.
وإذا تحدثنا عن السلبيات المرتبطة بعمل بعمل المرأة من الناحية النفسية نجد أن ذلك يرتبط بمدى مناسبة العمل لشخصية المرأة وقدراتها ومهاراتها، وأيضاً بنوعية شروط أداء العمل وظروفه. وأيضاً فإن العمل الروتيني الممل أو العمل القاسي الصعب يساهم بشكل سلبي في صحة المرأة النفسية. ومن العوامل الهامة والمؤثرة أيضاً الشعور بالظلم وعدم الحصول على الحقوق إضافة إلى نقص المكافآت والتشجيع.
وفي بلادنا لا تزال القيم الاجتماعية المرتبطة بعمل المرأة غير ايجابية عموماً، وفي ذلك تناقض كبير مع الواقع المعاش، حيث أن المرأة قد انخرطت فعلياً في ميادين العمل المتنوعة والضرورية، ولكن القيم الغالبة لا تزال تثمن عمل المرأة داخل البيت فقط. ويمكن لهذه الضغوط الاجتماعية أن تلعب دوراً سلبياً في الصحة النفسية للمرأة العاملة.
والعمل المنزلي له أهميته الكبيرة ولا شك في ذلك، ولكن الحياة المعاصرة بتعقيداتها المختلفة وتطوراتها ومتطلباتها قد ساهمت بتغير الصورة، وظهرت عديد من الأعمال الضرورية والأساسية والتي تتطلب العمل خارج المنزل مثل الخدمات الطبية والتعليمية والأعمال التجارية والمؤسسات الخاصة بشؤون المرأة المتنوعة وغير ذلك في حياة المدينة الحديثة. كما أن المرأة لم تنقطع عن العمل خارج المنزل بل استمرت فيه في البيئات القروية والصحراوية وفي أعمال الزراعة وتربية المواشي والأعمال الإنتاجية الأخرى المساندة.
وقد تغيرت أهمية الأعمال المنزلية مع تطور الأجهزة المنزلية واستعمال الكهرباء وتقنيات الرفاهية المتنوعة المستعملة في الغسيل والتنظيف والطبخ. كما أن تربية الأطفال ورعايتهم أصبح لها متطلبات وأشكالاً أكثر تعقيداً من حيث ضرورة الثقافة والتعليم في العملية التربوية، وفي التغذية والرعاية الصحية وغير ذلك.
كما أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمشكلات الحياتية اليومية التي تواجه مجتمعاتنا قد ساهمت في زيادة المتطلبات الاستهلاكية وفي زيادة النفقات والضرورات المادية التي تواجه الأسرة، إضافة إلى ضرورات التنمية والتحديث، وكل ذلك يؤدي إلى الاهتمام المتزايد بعمل المرأة المنتج خارج المنزل وداخله. ولا بد من تعديل القيم السلبية المرتبطة بعمل المرأة وتأكيد أهميته وجوانبه الإيجابية وعدم إطلاق التعميمات الخاطئة أو السطحية حول عمل المرأة، مما يساهم في تخفيف الضغوط والتناقضات التي تواجهها المرأة في عملها وبالتالي يدعم صحتها النفسية.
ومن السلبيات الأخرى المرتبطة بعمل المرأة زيادة المسؤوليات الملقاة على عاتقها في المنزل إضافة للعمل، وعدم كفاية التسهيلات العملية المساعدة مثل دور الحضانة في أماكن العمل وإجازات الأمومة وغير ذلك. ومن الملاحظات العملية نجد أن بعض النساء لا يزلن يحملن قيماً متناقضة حول أهمية العمل وجدواه، مما يجعل حماس المرأة ونشاطها وجديتها في عملها هشاً وضعيفاً في مواجهة الضغوط الاعتيادية في العمل أو المنزل، فهي تتراجع بسهولة أمام الضغوط والعقبات والاحباطات ولا تستطيع أن تتحمل درجات عادية من التوتر القلق والتوتر. كما أن بعضهن يدخلن ميادين العمل بسبب التسلية أو التغيير، مما يعطي أبعاداً سلبية لعمل المرأة بالنسبة للمجتمع عموماً.
ومن جهة أخرى فإننا نجد أن المرأة العاملة لديها قلق إضافي حول مدى نجاحها في عملها وفي أدوارها الأخرى المسؤولة عنها. ويرجع ذلك إلى حداثة عمل المرأة خارج البيت وإلى الضغوطات والمعوقات الاجتماعية المختلفة إضافة إلى تركيبة المرأة الخاصة من حيث تأهيلها وتدريبها، مما يتطلب إعداداً وتدريباً ووقتاً كافياً كي تستطيع المرأة تلبية متطلبات الحياة العملية الكثيرة.
والملاحظة الأخيرة فيما يتعلق بصحة المرأة العاملة من الناحية النفسية هي أن المرأة يمكن لها أن تضخم من تأثير الضغوط الحياتية والاجتماعية وغيرها وأن تبقى مستسلمة وسلبية في مجال عملها وما يتعلق به من مشكلات "وأن تستريح وترتاح"، وهي بذلك تساهم في زيادة القهر الذي يكرس أوضاعها، ولا بد هنا من تأكيد دور المرأة في تشكيل الظروف والضغوط ونوعيتها، وفي ضرورة وعيها بمشكلاتها وظروفها والعمل على تعديل وإصلاح ما يمكن إصلاحه، والتكيف مع ما لا يمكن إصلاحه وتغييره، " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
وإذا تحدثنا عن الاضطرابات النفسية الشائعة لدى المرأة العاملة فإنه لا يمكننا أن نقول أن هناك اضطرابات خاصة تصيب هذه الفئة من النساء دون غيرها. وبشكل عام فإن العمل يساهم في تحسن الصحة النفسية للمرأة كما تدل عليه معظم الدراسات الغربية وعدد من الدراسات العربية، نظراً لإيجابيات العمل المتعلقة بالاستقلالية وتحقيق الذات وازدياد السيطرة على الحياة والمستقبل من النواحي الاقتصادية والشخصية.
وفي دراسة حول أسباب الاكتئاب في بريطانيا تبين أن عمل المرأة خارج المنزل هو من العوامل المهيئة للاكتئاب في حال وجود عوامل أخرى، وهي: وجود ثلاثة أطفال على الأقل يحتاجون إلى الرعاية داخل المنزل، وعدم وجود الزوج المتعاون الذي يساعدها ويعينها، إضافة لفقدانها للأم أو الأب عندما كانت قبل الحادية عشرة من العمر. ومن المتوقع في مجتمعاتنا أن الضغوط المتعددة التي تواجهها المرأة من النواحي الاجتماعية وتناقض النظرة إلى عملها أن تتسبب في زيادة القلق والتوتر والإحباط وسوء التكيف واضطراباته.
وأما المشكلات الزوجية فهي من المشكلات الشائعة لدى المرأة العاملة (ومثلها في ذلك المرأة غير العاملة)، وبعض هذه المشكلات يتعلق بعدم وضوح الأدوار والمسؤوليات التي يقوم بها كلا الزوجين، ويرجع ذلك إلى حداثة عمل المرأة في مجتمعاتنا وعدم وجود تقاليد خاصة تنظم وتحدد مشاركة الزوجين في أمورهم الحياتية من حيث المشاركة والتعاون في الأمور المالية وشؤون المنزل ورعاية الأطفال وغير ذلك مما يتصل بتفاصيل الحياة اليومية المشتركة. ويتطلب ذلك مزيداً من الحوار والتفاهم بين الزوجين للوصول إلى حلول مشتركة مناسبة تتوافق مع الحياة العملية.
ونجد في مجتمعاتنا أشكالاً من ظلم المرأة وابتزازها حيث يتصرف الزوج أو الأب أو الأخ براتب المرأة ويهضمها حقوقها المتنوعة، مما يمكن أن ينشأ عنه أشكال من القلق والاكتئاب والشكاوى الجسمية نفسية المنشأ وغير ذلك. وفي بعض المهن التي لا يزال ينظر إليها المجتمع بشكل سلبي شديد مثل التمريض والتمثيل وغيرها، يمكن لضغوط العمل نفسه مع الضغوط الاجتماعية أن تساهم في ظهور اضطرابات القلق والاكتئاب وسوء التكيف وغيرها.
وفي ملاحظات أخرى عيادية نجد حالات من الارتباك والخجل أو ما يسمى بالرهاب الاجتماعي (الخوف الاجتماعي) عند عدد من النساء العاملات في مجال التدريس وغيره، حيث يتطلب العمل إثبات الذات والتعبير عنها إضافة للمهارات اللفظية وضرورة الحديث أمام الآخرين وإليهم. وهذا لم تتعود عليه المرأة سابقاً.
كما أن حالات أخرى تجد صعوبات في اتخاذ القرارات والاعتماد على النفس، وتسبب لها بعض المواقف المهنية التي تتطلب قرارات عملية معينة قلقاً شديداً واضطراباً لأن تلك المواقف المرتبطة بالحياة العملية لم تتعود أن تتصرف فيها بنفسها. ويعني ما سبق أن العمل خارج المنزل يمكن أن يبرز عدداً من النواقص في مهارات المرأة وأساليبها التي لم تكتسبها سابقاً ولم تتدرب عليها بشكل مناسب.
وإذا تحدثنا عن الوقاية من سوء التكيف والاضطرابات النفسية الأخرى لابد من الإشارة إلى ضرورة تقديم الدعم الكافي والمناسب (المعنوي والعملي) للمرأة العاملة ومساعدتها على التخفيف من الأعباء الكثيرة التي تتحملها وتوفير الظروف المناسبة والتي تتوافق مع عاداتنا وقيمنا وديننا. وأيضاً المساهمة في حل المشكلات العملية التي تواجهها. ولابد للمرأة من النقد الذاتي، والتعلم من أخطائها، وتطوير نفسها واكتسابها للمهارات اللازمة، ولابد لها من تنظيم وقتها، وإعطاء كل ذي حق حقه.
وأخيراً... لابد من دراسة مشكلات المرأة بالتفصيل وتطوير الخبرات والممارسات العملية الإيجابية وترسيخ التقاليد المفيدة والمناسبة لعمل المرأة وما يرتبط به من مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية.
"مأخوذ بتصرف من كتاب الطب النفسي والحياة الجزء الثالث للمؤلف، دار الإشراقات دمشق 2000"
تم النشر في 6/1/2005
واقرأ أيضاً:
ملف المرأة