"إنّ الذي ملأ اللغاتَ مَحاسنا..... جعلَ الجمال وسره في الضادِ" (أحمد شوقي)
"إلى معشر الكُتّابِ والجمعُ حافِلُ.... بسطت رجائي بعد بسطِ شكاتي" (حافظ إبراهيم)
التقدم بحاجة إلى لغة معاصرة والتأخر يتنازل عن اللغة.
والمجتمعات المتقدمة تولي لغاتها أكبر الاهتمام، لأنها العنصر الأساسي للتعبير عن التقدم والمواكبة وتحقيق السبق الحضاري، فبدون اللغة لا يمكن للإنسان أن يشارك بدقة ووضوح أخاه الإنسان بما يفكر فيه ويراه ويتطلع إليه.
فاللغة هي التي تحدد معالم السلوك والتفاعل ما بين أبناء المجتمع، وترسم ملامح شخصيتهم وتؤكد هويتهم، وحالة أي مجتمع تتناسب وحالة لغته وموقعها ودورها في الحياة، وقدرتها على تحقيق الأماني والغايات.
ولا يمكن لأية لغة أن تتفاعل مع زمانها إذا كان أهلها بلا قدرة على ذلك، وإنما مندحرين في السوالف ومتفاعلين مع الأجداث.
وفي العالم المتقدم تجد النشاطات المعاصرة التي يعيشها قد تفاعلت مع اللغة، وأصبح للغته ميادين يومية متعددة ومتنوعة، هدفها زيادة المخزون اللغوي لدى أبناء المجتمع، لكي تكون عقولهم قادرة على استيعاب التطورات المتجددة، والتواصل مع الثورات العلمية والتكنولوجية المتأججة.
فتجد برامج عن اللغة ومفرداتها، ككتب الكلمات المتقاطعة وملء الفراغات، وغيرها الكثير من النشاطات التي تنمي أرصدة المفردات اللغوية في عقول الناس وتغير سلوكهم نحو الأفضل، لأن وعي المفردة اللغوية وفهمها يؤدي إلى سلوك جديد متفق معها، وبقلة المفردات وضعفها يتدهور السلوك.
بينما نحن لا نعرف هذه النشاطات الفكرية والثقافية والمبتكرات، التي تساهم في التقدم والارتقاء الحضاري، ولا ندرك دور المفردة اللغوية وتأثيرها في تنشيط العقول وتربيتها، وتهذيب السلوك وتحقيق الإبداع الأصيل على جميع مستويات الحياة، وأروقة التقدم والتطلع الإنساني إلى الأمام.
ولدينا كتاب واحد، أجدادنا قد فهموا ما فيه من مفردات ومعانيها وما يتصل بها، فاستحضروا أمهات الأفكار التي بنت معالم حضارية ذات قيمة إنسانية وتاريخية.
واليوم نحن نعيش في زمن لا يفهم العرب فيه إلا نسبة ضئيلة من مفردات قرآنهم، وعدم قدرتهم على تطوير المعاني وتجديد الكلمات لكي تكون ذات دور حضاري معاصر.
بل ما نراه هو جنوح عن اللغة وهروب إلى لغة أخرى خصوصا الإنكليزية، وعدم التمعن بالعربية وإظهار دورها وفعالياتها الإبداعية، وقدراتها على المواكبة والنماء والابتكار مثل أية لغة أخرى في الأرض.
بل إنها تتفوق على العديد من اللغات بأبجديتها وأصواتها وتركيباتها، ونضوجها البلاغي والنحوي المتميز، فالكثير من اللغات لم تنضج بلاغيا ونحويا إلى اليوم، لكنها تتفاعل بمعاصرة وجد ونشاط مع ما يستجد من متغيرات وتطلعات إبداعية متسارعة.
ففي المجتمعات الأرضية تجد آلاف المطبوعات التي تساعد على تنمية المفردة اللغوية، بينما لا تجد منها إلا ما ندر في مجتمعاتنا العربية.
والسبب الأساسي ليس باللغة العربية، وإنما بأبناء العربية الذين استهانوا بأنفسهم ودورهم الإنساني، وداسوا على لغتهم بأقدام الجهل والتداعي والخنوع، وأصبح الكثير منهم يخجل من نفسه عندما يتحدث بلغته، ويريد الكلام بلغة أجنبية، لكي يُحسب على أنه صاحب شأن وينتمي إلى حلبة الحياة التي تتصارع عليها القدرات.
وقد لا تحتاج إلى اللغة العربية في الدول الخليجية لأن التخاطب بالإنكليزية يكون أيسر!!
فنحن نخالف مجتمعات الدنيا التي يجب على القادم إليها أن يتعلم لغتها لكي يمكنه العمل والعيش فيها، بينما نحن نتنازل عن لغتنا ونتعلم لغة القادم إلينا ولا نطلب منه تعلم لغتنا.
فلماذا لا تكون من شروط العمل في بلداننا أن يكون الوافد قادرا على الكلام بلغتنا، أ ليس هذا هو العرف السائد في مجتمعات الدنيا إلا عندنا؟!!
أي أن العربي يسعى إلى التجرد من هويته وأصله بالتنازل عن لغته وعدم تقديرها والاعتزاز بدورها وقوتها، فهو يهرب من أي شيء يضعه في خانات الأوصاف التي تبرر الهجوم عليه من قبل الآخرين، لأن العرب قد أصبحوا في زاوية حضارية تضيق عليهم كل يوم، حيث يُحشرون ولغتهم وما عندهم، وينظرون إلى أحوالهم بعيون السوء والضعف، ويستجلبون الأفكار السيئة والحملات المتوحشة إلى ديارهم ، لكي يحققوا نداء هزيمتهم الداخلية ويقضون على وجودهم الصحيح وينفون معاصرتهم.
وبسبب هذه الهزيمة الداخلية العميقة، فأن العرب صاروا أعداء لغتهم، وذلك بإهمالها وعدم احترامهم لمفرداتها وكسلهم في تطوير أرصدتهم من المفردات، مما وفر الأسباب اللازمة لضعف تعبيرهم وخمول تفكيرهم، وتنامي انفعالهم واستعار غضبهم الذي يتم توظيفه لتدميرهم والقضاء على هويتهم.
وفي هذا الوقت الحضاري العربي العصيب، أصبح من أولويات البقاء والتواصل الإنساني، العودة إلى المفردة اللغوية وتعميق المعرفة اللغوية، لكي يستعيد العرب شخصيتهم ودورهم، فيتخلصون من أفكار اليأس والإحباط ومفردات الذل والهوان، ويتعلمون كيف يضعون أفكارهم في كلمات معبرة عن الفعل والجد والاجتهاد والإبداع المتميز والقوي.
فاللغة العربية هوية الذات العربية، وبضعف اللغة يضعف الإنسان، وبتعثره في التعبير عن أفكاره ومشاعره بلغته، تكون الأمة قد تعثرت وفقدت أهم ملامح وسمات شخصيتها، وطمست دورها وأنكرت تأريخها، واندحرت في آبار ذاتها المظلمة وكهوف هزائمها المتفاقمة، وهي تقف كالمسمار تنتظر أن تسقط على رأسها مطرقة الفناء التي تحملها أذرع الطامعين بها!!
تحية للغتنا الضادية الجميلة التي أكدت حضورها العالمي والإنساني، فأوجدت لها يوما تحتفي به الدنيا ببهائها وجمالها، هو يومها العالمي في الثامن عشر من كانون أول.
".... وكمْ عَزَّ أقوامٌ بعزِّ لغاتِ"!!
واقرأ أيضاً:
اللغة العربية.. عداء الذات! / مفهوم اللغة في حياة الطفل / العربية والتحجر الكلماتي!! / يوميات مجانين: عربية المصريين