اللغة الأم نبع الحياة، ودفق إبداعها، ومستقر أفكارها، ومنهاج انبعاثها، وطاقة ديمومتها ونمائها واتساعها، وتناغمها مع إيقاع الأكوان وألحان العصور والأزمان، وبدونها يتجفف الوجدان. اللغة الأم هي التي تبرمج المخ البشري، وتؤهله للتفاعل المنضبط المتوافق القادر على التوليد والابتكار، فأول ما تعلمه أصوات اللغة وأبجدياتها ومن ثم الأسماء وتبدأ عملية ربط الأبجديات والكلمات لصياغة العبارات والجمل، التي تكنز فكرة وتوصل المعنى والغرض، وتجهزنا بوسيلة تواصلية ذات قيمة بقائية وارتقائية متميزة.
ومن غير التعلم الوافي للغة الأم تضطرب الأمخاخ، وتتبعثر تواصلاتها العُصيبة وتضعف قدراتها التعبيرية والتأليفية، فللغة مراكز تساهم في صياغة المدارك وتركيب الكلمات والجمل والعبارات، وكذلك تعمل على تحويلها إلى أصوات وصور مكتوبة على السطور، بآلية تؤدي الغاية وتصل للهدف.
والتعلم الأولي لأية لغة يجهز الشخص بقدرات تؤهله للتواصل والتفاعل المعرفي، والحاجاتي والفكروي والعاطفي والنفسي، والذي يترتب عليه سلوك ما.
وأي قصور تعليمي للغة الأم، يدفع إلى بناء حالات واهنة وموجودات معوقة سلوكيا ومعرفيا، وذات صعوبات إدراكية وتصورية، وحواجز تعلّمية تدفع لسلوكيات سلبية وخسائر كبيرة في المجتمع، ولهذا يكون التركيز في المجتمعات المتقدمة على تعليم الأطفال لغتهم الأم بصورة وافية ومنضبطة، وتزويدهم بالمفردات الكفيلة بمساعدتهم على صياغة الأفكار واستحضارها بقدرات متميزة.
ونرى ذلك واضحا في المجتمع الصيني والياباني، وفي المجتمعات الناطقة بالإنكليزية، والتي تمعن بضخ الأمخاخ بأكبر قدر من المفردات، وبوسائل تعلم اللغة وإقرانها بالصور والتركيبات، والتشجيع على التوليد والابتكار، والتفاعل الأصيل مع الأيام بمستجداتها ومنطلقاتها الإبداعية، ولهذا فأن مفردات اليوم أكثر غزارة من مفردات البارحة، والغد سيزيد من أرصدتها وذخائرها، وفقا للتواصل مع المعطيات العلمية والتكنولوجية، والمبتكرات المتسارعة الحضور على قارعة دروب الأيام.
والمجتمعات التي تعاني من الاضطرابات والنوازل والشدائد الناجمة عن المعتقدات والأفكار والرؤى والتصورات، يتسبب فيها القصور التعليمي للغة الأم، وحشو الأمخاخ الصغيرة بعدد من اللغات في آن واحد، مما يعطل قدرات الفهم والإدراك والتواصل المنهجي أو المنطقي المنضبط، الذي يضع الصور والأفكار في صياغات ذات دلالات وعْيَوية، وإشارات تفهمية تساهم في تهذيب العواطف والمشاعر والسلوك.
وبتدهور مناهج تعليم اللغة الأم في أي مجتمع تتدهور الحالة السلوكية لذلك المجتمع، وينحدر حضاريا وثقافيا ويصبح أسير التفاعلات المنفعلة، ويبني حوله متاريس عاطفية، وجدران من جمرات الانفعالات والأحاسيس السلبية، لفقدانه قدرة التعبير عما فيه باللغة.
ويبدو ذلك واضحا في مجتمعاتنا التي تمترست بانفعالاتها، وتدحرجت على سفوح المساوئ والتداعيات المريرة، وهي لا تعرف كيف تتخاطب باللغة، وإنما صارت أصوات البنادق والانفجارات أبجدياتها التي بها تتكلم وتتفاهم، بعد أن أفرغت رؤوسها من المفردات اللغوية الكفيلة بالتعبير عن الحالة والموقف والإرادة.
وبغياب أو قصور القدرات اللغوية في المجتمع، تتحول الحياة إلى مضطربات سلوكية، وهزات انفعالية، وصولات شدائد معفرة بالضلال والبهتان والامتهان، الناجم عن التبعية والخنوع لكائنٍ مَن كان، يبدو وكأنه قد امتلك قدرا من المفردات، والتعبير الكفيل بجذب الخاوين لغوينا إلى مدارات ابتزازه واستعباده وآثامه، التي ترتدي عباءة الدين.
وهذا القصور اللغوي المُتعَلّم من الأسباب الجوهرية في القضاء على الأوطان والشعوب!!
واقرأ أيضاً:
الاعتماد القاتل!!/ صوت الكلمة!!/ البشر البضائع ضائع!!/ التجهيل الوطني!!/ اللغة والبشر!!/ اللغة العربية!!