كنّا في تجمع ثقافي, فنهض أحد الأخوة متسائلا عن دور جيلنا, وبرر سؤاله بأننا قد عشنا ما بين ضغط القومية سابقا والطائفية حاليا, ووعينا الانحدار المأساوي من التطلع نحو بناء الأمة, إلى تداعيات صناعة الطائفة والفئة, والإمعان بالتصاغر الانتمائي حد الانقراض.
أثار سؤاله غضبا واضطرابا لأن الجواب عليه عسير, ولا يوجد في القاعة مَن يتجرأ بالجواب, لأن الجميع يتحملون وزرا وإثما في صناعة الحالة القائمة في الحياة العربية المعاصرة. فالقوميون, لم يتمكنوا من الارتقاء بالنظرية القومية إلى التطبيق, أي أنهم لم يمتلكوا سوى الكلمات التي تبدو أحيانا مجوفة, لخلوها من الآليات اللازمة للتعبير الواقعي عنها.
ومرّ القوميون العرب بتجارب قاسية وتداعيات مريرة, أنهت قيمة ومعنى شعاراتهم ومنطلقاتهم, حتى أصبحت تصرفاتهم تناقض ما يدعون إليه, كما أن الأحزاب القومية انحسرت في الكراسي واحترقت, وتحولت إلى حالة رمادية أو متفحمة في مكانها, ولم تحرك مسيرة الأمة باتجاه واضح, ولم ترسم لها خارطة المستقبل المعاصر السعيد.
ومثلما هو معروف فإن إرادة القومية العربية, تمزقت وأصابتها التجارب الفاشلة والخطوات المندفعة المنفعلة, بالكثير من الأزمات التي تفاقمت وأصبحت قاتلة, ابتداءً من الوحدة ما بين مصر وسوريا, وغيرها من التجارب الوحدوية الخيالية, التي أبعدت الوحدة العربية كقيمة وآلية حضارية, عن الواقع وألقتها في مهاوي المستحيل.
وبوفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر, قرأ العرب الفاتحة على الدعوات القومية, وما تمكن أكبر حزب قومي أن يبرهن على أنه قادر على تقديم مَثل عربي, يمنح الدعوات القومية قدرات التواصل العزيز الذي يحقق إرادة الأمة. فقد أكلت الكراسي جميع الأحزاب القومية وبلا استثناء!!
وبعد هذا الاندحار المروع, أصبح العرب أمام خيار الدين السياسي الطائفي بأحزابه, ذات القدرات الانفعالية الفائقة, والتي انطلقت بإرادات سلبية, تسببت في تدمير البلدان والعباد, وهي ترفع شعارات الدين, وتتستر به. وتكررت ذات اللعبة, التي لعبها القوميون العرب وبخسائر فائقة. فالأحزاب الدينية تخسر وطنها وشعبها ودينها.
وبعد هذه العقود المريرة, التقيت بأحد دعاة ورموز القومية العربية المعروفين, وقد بلغ من العمر عتيا, فقال لي: أن القومية تعني الوطنية!!
فلم أنبس بكلمة, لأن الذي أراد قوله, علينا أن نتمسك بالخيال أو نطارد السراب, ذلك أن الطائفية قد محقت أطراف الوجود الصحيح, وأفنت القومية والوطنية, فما عاد هناك وطن, وإنما فئة وطائفة, فهذه المنطلقات الإفنائية الجديدة, تعني كل شيء وستؤدي إلى كل شيء, مرتبط بالمأساة العربية الفظيعة الآتية.
وفي الختام عدت إلى الأخ أُسائِله عن مأساة جيلنا, فواجهني بنظرات الحيرة والانكسار, فكان الصمت هو الجواب!!
واقرأ أيضاً:
العمود الفقري العربي المكسور؟!!/ تحيا مصر وتبتْ يدا مَن يعاديها؟!!/ هل تحولت هويتنا إلى قضية؟!!/ اكسروا الأقلام فالمشاريع على ما يُرام!!/ أولياء أمور العرب لا يقرؤون!!/ عرب أو عطب؟!!/ إسطوانات الوحوش ورقصات الكروش!!/ الحلّ المحذور والتعضيل المكرور!!/ الموارد البشرية طاقة الحياة!!