بخصوص الانتحار والدّين
هناك إحصائية مشهورة (الصورة) تدلّ على أنّ معتنقي الديانة الإسلامية أقل عرضة للانتحار، أما أعلى نسبة فهي تخصّ الملحدين.(1)
هذه الدراسة تعزز نظرة المسلمين للدّين كعامل معالج ووقائي للأمراض النفسية التي تؤدي بالإنسان للانتحار. وطبعا هذا كلام غير صحيح من جهات عدّة، وسبب هذا التعنّت أو الميل لاعتقاد هذا هو أنّ الناس لا تزال ترى الاضطراب النفسي منقصة وعارا لا يُمكن أن يُبرَّر للمؤمن بالإسلام. وأنّ النفس هي القلب أو الرّوح التي تتعلق بخالقها وبكلامه وعبادته، وليس جهازا له قوانينه وآلياته يمرض كما يمرض الجسد إذا تعرّض لما يؤذيه.
الطّرافة أن في الدراسة نفسها يضع الباحثان رسما مبيانيا عن تفاوت نسبة الانتحار بين النساء والرجال، لتكون نسبة الرجال أكبر(صفحة 7 من المصدر 1). ولم ينتبهوا إلى أنّ متغيّرَ (أو سبب) الانتحار هنا له علاقة بالجنس! وهناك تفاوت حسب العُمر أيضا. بمعنى لو فسّرنا انخفاض نسبة الانتحار بالدين، فكيف نفسّر التفاوت بين امرأة ورجل كلاهما مسلمين، أو رجلين مسلمين متفاوتا العُمر!؟ مما يدلّ على وجود عوامل أخرى تؤثر في الإقبال على الانتحار.
طيب، بعيدا عن هذه الطرافة، هذه الأرقام التي نُهَروِلُ لنبرهن بها عن عصمة المسلم من هذه الظاهرة، تعني فقط أن عدد حالات الانتحار أقل في المسلمين من غيرهم، ولا تعني البتّة انتفاء الميول الانتحارية أو القابلية للانتحار لديهم، بمعنى أنّ عدم انتحار الشخص لا يدل على رفضه لفكرة الانتحار وعدم تمنّيها بخصوص الانتحار والدّين! إنما ما يمنع المسلم الذي يميل ويشعر بالحاجة للانتحار هو الوعيد المغلّظ لمن فعل ذلك.
قد يقول المتحمّس : "أهّا، كفى بهذا شرفا أن يقل فينا الانتحار".. وأقول، يمكننا أن نفرح بعدم موت أحدهم، لكن فرحٌ مثل هذا قد يخفي وراءَه جهلا مُخزيا بالصحة النفسية، إذ أنّ الانتحار ليس في حدّ ذاته مشكلا، فالكل يفقد حياته، لكن أن يقتل أحد نفسه هذا دليلا على معاناة وعذاب لا يُطاقان! فإن بقي حيّا فلا يعني أنّه بخير، بل لا يعني أنّه حيّ أصلا.
وهذا ما نبّهتُ إليه في بعض المجالس لما سمعتُ تفاخرا بقلة الانتحارات فينا، وبعد ذلك سقطَتْ عيني على بحث (2) من NCBI يقولون فيه بالحرف ما استنتجتُه من الاستشارات في موقع "مجانين": (We found that religious affiliation does not necessarily protect against suicidal ideation, but does protect against suicide attempts)
(لاحظنا أن الانتماء الديني لا يقي بالضرورة من الأفكار الانتحارية، لكنه يقي من محاولات الانتحار)
يعني أن "السموّ والسلامة النفسية" التي نريد إثباتها بنفي أهم مؤشرات انحطاطها (وهو الانتحار) لا يزالان منعدمين في أشخاص تأتيهم أفكار انتحارية ورغبةٌ شديدة بإنهاء حياتهم!
مع العلم أنّ ليس كل من لديه أفكار انتحارية يمكنه الإقدام على قتل نفسه.
وهناك دراسة أخرى (3) لصاحبيها Ajit Shah و Mahmood Chandia سنة 2010 تبين وجود ارتباط سلبي بين الإسلام وبين قلة الانتحار، أي كلما زاد التديّن قلت حالات الانتحار (وأقول حالات الانتحار وليس الرغبة في الانتحار!) لذلك حذّرت الدراسة من إغفال الجانب السوسيواقتصادي، والثقافي، وإقامة دراسات أخرى تأخذ بعين الاعتبار وجود أفكار وسلوكات انتحارية.
وهناك خطأ آخر في فهم الأبحاث، وهي أن الأبحاث لما تتحدث عن الدين، فهي تقصد أي دين، ويُسقط المسلمون النتائج على دينهم معتبرين ذلك دليلا على صحة معتقدهم، ويقصون الديانات الأخرى! فهذه الدراسة مثلا (4) بينت أن الدين له أثر وقائي على فعل الانتحار في أغلب الحالات، وقد درسوا عينات من مختلف الأديان. وبهذا تكون الدراسات التي نعتقد أنها تنتصر لفكرتنا المغلوطة عن الدين، هي نفسها ناسفة لها، لأن كل دين له أثر، ومن استدلّ بالأثر الطيب للدين على صحّته فقد وقع في مأزق كبير ولم يفهم ما معنى النفسية أصلا!
بل إن الأمر يزداد تعقيد لما نقرأ عن دراسات (5) تجد أن المصابين بالاكتئاب ممن يعتبرون أن الدين أهم شيء، هم أكثر عرضة للأفكار الانتحارية! ولا يعرفون سبب هذا. قد يكون بسبب تأنيب الضمير المرتفع، أو عدم القدرة على التمرّد في الحياة أو أنّ الأمر له علاقة بوسواس تدنيس المقدّس.. الاحتمالات كثيرة.
وأخيرا أقول: ألا يُلاحظ المسلمون أن اعتبار الدين وحده واقيا من الانتحار وسياقاته، يوضّح فكرة خاطئة بخصوص "التشبّث بالحياة والخوف من الموت"، فالمسلم يعتقد أن الإنسان يحتاج لشيء حتى لا يقتل نفسه! مع أن غريزة البقاء شيء طبيعي جدا، بل حيوانيّ قبل أن يكون روحانيا ! فكيف غفلوا عن هذه الحقيقة الساطعة في سعيهم المحموم لإثبات أفكار مغلوطة!؟ بكلمات أخرى، عندما يفقد إنسان لذة العيش ويتمنى أن ينتحر فهذا دليل على خلل خطير في جهازه النفسي قبل أن يعرف أيّ دين على وجه الأرض، فهو في الحالات الطبيعية يكون محفزا له على النجاة من الموت والإقبال على الحياة، فإذا به يدفعه للموت!
المصادر:
(1) https://iasp.info/pdf/papers/Bertolote.pdf
(2) https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/26192968
(3) https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3134910/
(4) https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4482518/
(5) https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4990512/
واقرأ أيضًا:
خطيب الجمعة والانتحار / الإصلاح بالوعظ والإرشاد... هل يكفي؟ / سذاجة بعض القصص الوعظية / هل الفقهاء سبب تخلف الأمة !