حقيقة المس الشيطاني4
ليس في القرآن ولا في الحديث:
نحن لا نقول: إن المس لم يرد في آية أو حديث... إنه فعلاً لم يرد بالمعنى الذي اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن، وهو أن الجني يدخل في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه، هذا المعنى طرأ على كلمة "مس" بعد نزول القرآن واستمداد المعلومات من ألسنة المرضى، وقبل القرآن كان من معاني "المس" عند العرب "الجنون" دون تحديد آلية معينة، إنما جاءت كلمة "مس" ومشتقاتها في القرآن والحديث بالمعاني المفهومة عند العرب، فهي قد تعني "اللمس باليد" المعروف وفي مواضع كثيرة تعني "الجماع الجنسي" وقد تعني "أصاب" كمال تمس الناس البأساء والضراء، لكنها أبداً لا تعني ما يدعيه المرضى وهم في حالات الهَبْنَسة وانفكاك الوعي من أن الذي يتكلم هو جني دخل جسم المريض ولن يخرج، إلا بشروط في حالات كثيرة، ولو تتبعنا هذه الشروط التي يضعها الجان للخروج من أجساد المرضى لأدهشنا أنها كلها عموماً طلبات لصالح المريض أو لصالح الشيخ أو القسيس المعالج، إن كان الجني دخل فيه أو فيها ليؤذيهما فلِمَ يطلب لخروجه شيئاً يرغبانه.
منذ أكثر من عشرين سنة عندما كنت أعمل في الإمارات حدثني أهل بعض المرضى عن شيخ في المدينة المنورة يدعى "علي العمري" يقصده الناس للعلاج من المس، حتى أنه ما كان يقرأ على مريض مريض من كثرة المراجعين، بل يقرأ عليهم جماعات جماعات، وهذا ذكرني بحكاية الطبيب مِسْمَر الذي حدثتكم عنه، وقد أتيح للشيخ علي العمري الاطلاع على بعض المعلومات عن الأمراض النفسية فتوقف عن علاج الناس، وأعلنها في فيديوهات على اليوتيوب، أن الاعتقاد بدخول الجني في بدن الإنسي وتكلمه على لسانه لم يرد في آية كريمة أو حديث صحيح، ومن شاء فاليوتيوب أمامكم.
يجب أن لا يفحمنا ويسكتنا من يأتينا بآية فيها كلمة "مس" ويعتبرها برهاناً على صحة المس الذي يدعيه المرضى عند الشيخ أو القسيس، بل نجادله أن يأتينا بنص واحد دلالته قطعية على المس بالمعنى المنتشر عند الناس. ولنتأمل هذه النصوص التي جاءت فيها كلمة "مس":
"وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" ﴿80 البقرة 2﴾.
"أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" ﴿214 البقرة 2﴾.
"لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ" ﴿236 البقرة 2﴾.
"وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" ﴿237 البقرة 2﴾.
"قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" ﴿47 آل عمران 3﴾.
"فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" ﴿174 آل عمران 3﴾.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَّا والشَّيْطانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صارِخًا مِن مَسِّ الشَّيْطانِ إيَّاهُ، إلَّا مَرْيَمَ وابْنَها"، ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ: واقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {وَإنِّي أُعِيذُها بكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
وروى أيضاً: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطانُ في جَنْبَيْهِ بإصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غيرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ في الحِجابِ."
يجري مجرى الدم:
نعم، الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يجري منا مجرى الدم -سواء كانت العبارة مقصودة بمعناها الحرفي المادي أم هي تشبيه بلاغي للتأكيد على قدرة الشيطان على أن يوسوس لنا فنسيء الظن ببعضنا بعضاً- فالشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم هو قرينه من الجن الذي يوسوس له بالسوء، والذي لا يغادرنا أبداً، لا خوفاً من يسوعٍ ادعى بعضنا أنه الرب، ولا خوفاً من أن يحرقه الشيخ بالقرآن، ولا خوفاً من الضرب والخنق أن يقع عليه، ولا نفوراً من بُصاق الشيخ في فم المريض، بل هو ملازم حتى للأنبياء والرسل كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" ﴿52 الحج 22﴾.
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه "كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المَسْجِدِ وعِنْدَهُ أزْوَاجُهُ فَرُحْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بنْتِ حُيَيٍّ لا تَعْجَلِي حتَّى أنْصَرِفَ معكِ، وكانَ بَيْتُهَا في دَارِ أُسَامَةَ، فَخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ فَنَظَرَا إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ أجَازَا، وقَالَ لهما النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَعَالَيَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ، قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، قَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أنْ يُلْقِيَ في أنْفُسِكُما شيئًا"، ومع أنه ما منا إلا من وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، إلا أن القرآن الكريم لم يعبر بكلمة "مس" عن وسوسة الشيطان للإنسان، بل تكررت في هذا المَعْرض كلمة "نزغ"، فاقرؤوا إن شئتم هذه الآيات الكريمة:
"وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" ﴿200 الأعراف 7﴾.
"وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" ﴿100 يوسف 12﴾.
"وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا" ﴿53 الإسراء 17﴾.
"وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" ﴿36 فصلت 41﴾.
علاج المس نافع:
والسؤال الملح على عقول الناس الذي يجعلهم يقتنعون بفرضية المس الشيطاني التي يقول بها القسيس والشيخ المعالجان هو: إن كان المس بهذا المعنى مستحيلاً فلِمَ يتحسن كثير من المرضى بعد خروج الجني المزعوم منهم؟
الأطباء يعرفون دور الدواء الوهمي Placebo حيث يتحسن حوالي ثلث المرضى النفسيين والمرضى المتألمين بمجرد تناولهم دواء لا مادة دوائية فاعلة فيه، بل ربما كبسولات مملوءة طحيناً لا أكثر. إن الطمأنينة التي تأتي من القناعة أن الإنسان قد تناول دواءً وشفاؤه متوقع تجعل كثيرين يتحسنون دون دواء، لذلك عندما تُكتشف مركبات دوائية جديدة، فإنها لا تعتبر أدوية إلا بعد دراسة تأثيرها على عدد كبير من المرضى، نعطي نصفهم الدواء الجديد، ونعطي النصف الآخر دواء مزيفاً وهمياً، وكل من المرضى والدارسين يجهلون مَنْ مِنَ المرضى يأخذ الدواء الحقيقي ومَنْ منهم يأخذ الدواء الوهمي، وعند انتهاء التجربة وقياس التحسن عند جميع المرضى يكون ممكناً بالعودة إلى سجلات الصيدلية معرفة من كان منهم يتلقى الدواء الحقيقي ومن كان يتلقى الدواء المزيف، وتُدرس نسبة من تحسنوا ممن تناولوا الدواء الحقيقي وتقارن بنسبة من تحسنوا بالدواء المزيف أي تحسنوا بالوهم، فإن تقاربت النسبتان قلنا: إن هذه المادة ليست فعالة وليست دواء على الإطلاق، أما إن كانت نسبة من تحسن على الدواء الجديد أعلى كثيراً من نسبة من تحسن على الدواء المزيف، قلنا إن الدواء الجديد فعال ويستحق أن يوصف للمرضى على أمل أن يتحسن به عدد كبير منهم. يتحسن ثلث مرضى الاكتئاب على الدواء المزيف أي على الوهم والإيحاء، بينما يتحسن الثلثان على مضادات الاكتئاب وهذا ما يبرر وصفها لهم بما في ذلك من كلفة مادية ومن احتمالية الآثار الجانبية التي قد تسببها مضادات الاكتئاب لبعض من نعلجه بها.
إن تحسن مرضى مِسْمَر Mesmer وتحسن الناس عند الشيخ والقسيس وعند الرقيا وربما بمجرد شربهم ماء يعتقدون بنفعه كماء زمزم أو ماء قرأ عليه الشيخ أو القسيس، كل ذلك ناتج عن مفعول البلاسيبو Placebo حيث يقوم العامل النفسي بتنشيط آليات الشفاء الذاتي التي جعلها الله في أجسامنا، والتي منها المناعة تجاه الإنتانات الجرثومية والفيروسية والخلايا الشاذة السرطانية وغير ذلك من أسباب اختلال التوازن في أجسادنا.
مهمة لم تكتمل:
لا أدعي أنني في هذا المقال قد نجحت في حل معضلة الاعتقاد بالمس الشيطاني، لأن الكثير من المعلومات النفسية التي ذكرتها سهل فهمه على دارسي الطب النفسي وعلم النفس، لكنها تحتاج إلى بسط وتبسيط وأمثلة أكثر كي يفهمها القارىء العادي، أي معظم الأمة من معالجين ومتعالجين، لذلك أتمنى على زملائي المتخصصين في الطب النفسي وفي العلاج النفسي أن يقوموا بذلك، وأن يصدروا كتباً كاملة حول هذا الموضوع، لأنه يستحق منا ذلك، ولأننا لن نتقدم ونساهم في العلوم النفسية المعاصرة ما لم نتجاوز معضلة الاعتقاد بالمس الشيطاني، ولأني منذ أكثر من عشرين سنة نشرت لي مجلة وزارة الأوقاف الإماراتية "منار الإسلام" مقالاً حول هذا الموضوع، ووعدت القراء فيه أن أن أنشر له جزءاً ثانياً، ونويت أن أترجم قصة المريضة Eve ذات الهويات المتعددة، لكن حتى الآن لم يُقَدِّر لي الله ذلك، لهذا أرمي الحمل على إخوتي المتخصصين ليكملوا ما بدأت به، وإن الموضوع لجدير أن يكون أطروحة دكتوراة أو موضوع كتب تخاطب العامة، لننفي عن ديننا ما علق به مما ليس منه ومما لم يعد مناسباً لثقافة عصرنا وتقدمه.
واقرأ أيضًا:
أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى(1-4) / الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر