لا أدري كم من زملاء المهنة يشعرون بما أشعر به من حين لآخر هذه الأيام التي من المؤكد أن الغالبية العظمى من سكان الأرض يمرون بخبرات شعورية جديدة أو غير معتادة فيها... الشعور بأنك تواجه خطرا داهما خفيا لا يعرف المزاح .. يمكن أن تصاب بالفيروس التاجي كورونا Corona Virus بطريقة أو بأخرى ... من المستحيل أن تبقى بعيدا عن الناس والفيروس ينتشر بشكل متزايد ومتسارع والوفيات كذلك.. هذا الشعور عرفه الجميع هذه الأيام.... ضمن تفاعله مع مختلف الشخصيات كما فصل محمد المهدي على مجانين في مقالة الحالة النفسية في مواجهة كورونا.
لكن المشاعر التي كتبت متسائلا عنها هي غير ذلك ... هي مشاعر تتعلق برد فعلي الشخصي إزاء ما وجدت نفسي مضطرا له من حوائل أضعها على جسدي لأتمكن من الحركة والتعامل، فأنا كطبيب نفساني اعتدت أن يكون الفحص الطبي الجسدي العام جزءًا من مقابلتي للمريض، باستثناء مرضى العلاج النفساني بلا عقاقير... بعض الزملاء لا يهتم كثيرا بالفحص الجسدي للمرضى على الأقل هذه الأيام .. أنا لا أستطيع أن أنقص هذا الحق من حقوق المريض ... إذن يجب علي الآن اتباع الإرشادات الحمائية أو الوقائية وليس سهلا ذلك بأي حال عليّ.. شيء ما يجعلني لا أحب لا ارتداء الكمامة ولا رؤية من يرتديها ... كنت أجد بداخلي شعورا بالرفض تجاهها وربما الاستهجان... تكرر ذلك كثيرا مرات أثناء العمرة إذ كنت أرى بعض المعتمرين وبعض العمال في المسجد الحرام يرتدونها ومرات في رحلاتي إلى الشرق الأقصى ... دائما كان المنظر يشعرني شعورا غير مريح وكأنه ينبئ عن رائحة سيئة لا أشمها ... وأحيانا تمتمت لنفسي هذي وسوسة بالمرض أو الخوف من العدوى، وأحيانا أقول مبالغة وأحيانا أحمد ربي على حفظه لي ... فينتهي إحساسي المزعج.
رد فعلي المعتاد هذا لمنظر الكمامات على الوجوه لم يطرأ عليه تغيير فيما يتعلق بالتقزز أو عدم الراحة فقد بقيا هذه الأيام كما هما لكن أضيف عليهما الخوف الخفيف، والخوف هو رد الفعل الذي أظنه يعم العالم كله اليوم ... والواقع أن رؤيتنا عبر الشاشات لمشاهد النعوش والموتى والمرضى على مستوى العالم بسبب عدو نعرف عنه أقل بكثير مما نجهل حري بأن يبث الخوف في النفوس يعني أصبح انفعالي تقززا رافضا وخوفا رابضا فأما الخوف فكلكم شركائي فيه وأعرف كيف أداويه بينما التقزز الرافض أعياني واحترت فيه.... لكن ذلك كله شأن وأن تواجه جنازة تشاهدها وأنت تخرج من شارع جانبي إلى آخر عمومي فترى النعش يمر محمولا ومن خلفه نفرٌ متباعدون بعضهم يرتدي الكمامة فتجد السؤال المؤلم هل هذا مات بالكورونا ؟؟ فهل الكمامة ذكرتني بالكورونا بالموت أم النعش ذكرني؟.... أتساءل وأتساءل أليس الموت وحاجات الموتى من المثيرات المعروفة لانفعال التقزز في كل بني آدم ؟ فهل الكمامة كذلك أم أنها بعد كورونا ستصبح مثيرا للتقزز ! ربما عند كثيرين غيري.
لم أبدأ اتخاذ احتياطات حقيقية من عدوى الفيروس التاجي إلا بعدما فجأة أعلن رئيس الوزراء حظر التجوال وإغلاق المحال والأعمال والمدارس والمساجد والكنائس ... إلخ يعني صار لازم يكون عندي دم .... وأيضًا تذكرت ضرورة الأخذ بالأسباب وأن رب العزة خاطب مريم عليها السلام قائلا : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) صدق الله العظيم........ فبدأت أضع الكمامة وأحشر كفيّ في قفازين ليكون ممكنا أن أجري الفحص ... أغلب المرضى يكونون بلا كمامة ولا قفاز ... وبينما أمسك يد المريض أو ألف سوار جهاز الضغط على ساعده الأيمن أشعر بشيء من الحرج أو التقصير في حقه أشعر أني أسيءُ إليه بشكل أو بآخر وأن من حقه أن ألا أستخدم قفازا لألمسه ! .... أصبحت أعتذر للمرضى عن تغطية وجهي وأكثرهم يرد بأن الحال من بعضه وكلنا مغصوبون !
لا أدري سببا لهذه المشاعر مع أن لي زملاء من تخصصات أخرى يرتدون القفازين أثناء الفحص وربما يعلق على المدونة من يرى استخدام القفازين أثناء الفحص الطبي مستحبا أو حتى واجبا ... بالنسبة لي هذا يمثل حائلا لا يصح أن يكون بين الطبيب النفساني ومرضاه، وهناك كلام كثير في أدبيات العلاج النفسي عن هذا لكنه بعيد عن موضوعنا.... الشاهد أن كثيرا من الزملاء في تخصصات الطب المختلفة لا يمثل ارتداء القفازين بالنسبة لهم تغييرا عن المعتاد .. لكنه بالنسبة لي تغيير لا أحبه.
وأما الكمامة فتضايقني لأنني أشعر أن ما أقوله لوجه مريضي أو مريضتي لا يخرج كاملا ولا يصل كاملا بالتأكيد ...... وأتذكر موقفي المعروف من النقاب على وجه مريضة أو حتى الشال ملتثما به المريض ... أرفض أن أسمح تاريخا مرضيا من وجه لا أراه جيدا ... لأنني لن أستطيع أداء عملي جيدا كطبيب نفساني تهمه لغة الجسد وبشكل أخص الوجه والعينين أثناء الكلام ..... ما أسوأ أن أفعل الآن ما كان يضايقني أن يفعله المريض ... ومجبر والله لا بطل !. وبعد كل ذلك وحتى تاريخ تحرير هذه السطور لتنشر غدًا على مجانين ما زلت لا أتبع الاحتياطات بالشكل المثالي وأبدو كثيرا كأني أتدرب لمرحلة أخرى أسأل الله ألا تصيب مصر أبدًا.
واقرأ أيضًا:
مدونات مجانين: (3) عيد على من عائد يا عيد؟ / مدونات مجانين: منديلي القماش