على مدى القرن العشرين تم استحضار مفردات العجز واليأس والإحباط والهزيمة والشعور بفقدان القيمة والدور والأهمية لكي يتحقق استخدامها في اللغة، فأصبحت المفردات الشائعة سلبية تسعى إلى رهن الإنسان في زنزانة الخسران.
كما تم الإمعان في استحضار الماضي وإشغال الناس به والانتماء الانفعالي إليه حتى تحقق إلغاء الحاضر والمستقبل فتحوّلت الحياة إلى فراغ، ومضت الأجيال في غيبوبة وخدر لم يحصل في تاريخ الشعوب. حيث تحركت الدنيا ومضى نهر الوجود الإنساني يتدفق، والناس في بلادنا لا تريد أن ترى وتسمع وتتساءل، وإنما سكارى بخمور الماضي وتداعيات اليأس والهموم والويلات.
خسائر تتواكب وهزائم تتفاقم وطموحات تتآكل وأحلام تتضاءل.
وقد عملت الأحزاب والأنظمة السياسية على تعزيز وتأكيد دور المفردات السلبية في الحياة العربية بعد أن آزرتها بالفعل الدامي والخسائر الفظيعة.
وتحقق التعميم الإحباطي واستشرى الشعور بالدونية والعوق الحضاري والضعف، وصارت اسطوانة الفقر والجهل والأمية والمرض تعزف ألحانها على مسامع الأجيال بلا انقطاع وتساؤل وتفكير.
ومضينا نؤمن بأننا شعوب جاهلة أمية مريضة في عقولها ونفوسها وأرواحها، وهذه افتراءات تم طحن الأجيال برحاها الثقيلة الساحقة!
ومَن يقارن بين مجتمعاتنا والمجتمعات الأرقى في الأرض يجد أن مصر كانت من المجتمعات المتحضرة في نهاية القرن التاسع عشر، وكذلك العراق في النصف الأول من القرن العشرين، بالقياس إلى أحوال المجتمعات آنذاك فكانت مصر والعراق أكثر تقدماً من الصين مثلاً، لكن الذي حصل أن الصين شقت طريقها في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ومصر والعراق مضيتا في ابتكار المعوقات وخصوصاً في العراق.
ومع دوامة البحث عن المصدات والموانع توالت الاندحارات واستحضار آلياتها ومهاراتها والمستثمرين فيها من الساسة والمفكرين والمثقفين الذين أمعنوا بالترويج لفرية الأمية والجهل.
والواقع يؤكد أن العربي يعرف أكثر مما يعرفه الفرد في الدول المتقدمة عن أحوال الدنيا وما يدور فيها، فهو يحدثك عن أحداث الأرض ومجتمعاتها بدراية، بينما لو سألت فرداً من المجتمعات المتقدمة فستجده جاهلاً بكل ما لا يرتبط بمصلحته.
وهذا يشير إلى أن المشكلة ليست في الجهل والأمية، وإنما في عدم معرفة المصلحة الذاتية والجماعية والوطنية، وذلك بسبب غياب النظام الوطني القادر على توجيه الطاقات والقدرات مثلما تحقق في الصين وغيرها من الدول، فالعيب ليس بالإنسان وإنما بالنظام العاجز على توجيهه واستثمار حياته لتحقيق المصالح الوطنية. فالدول المتقدمة فيها نسبة من الأمية والجهل والفقر، لكن الإنسان يعي مصلحته ومصلحة وطنه، ونحن لا نعرف مصالحنا وتغلب علينا الأنانية والانفعالية وغياب النظام الذي يوجه سلوكنا الوطني والاجتماعي.
وهذا معنى الجهل والأمية عندنا وليس غير ذلك، فالإنسان يتعلم عن طريق وسائل الإعلام أكثر مما يتعلمه بالقراءة، وهذا يعني أن القراءة لم تعد عائقاً كبيراً أمام المعرفة، لكن المأزق الحقيقي هو سيادة الانفعالية وفقدان وعي المصالح وغياب النظام.
فلو اهتم كل إنسان بمصلحته واستثمر فيها لتحققت مصالح الوطن والأمة، ولو امتلكنا النظام المناسب لإطلاق طاقاتنا لكنا أكثر تقدماً ومعاصرةً وقوة.
ولا بد من تسليط الأضواء على المفاهيم الإيجابية والابتعاد عن نمطيات التفكير السلبي وببغاويات التداعي والخسران التي عصفت في حياتنا على مدى القرن العشرين ولا زالت حتى ونحن في عالم الثورة المعرفية والاتصالية ويقظة الشباب الباسل.
فهل لنا أن نتقوّى لنكون؟!!
واقرأ أيضاً:
العَرَبُ وما يُعْرِبون!! / المفكرون لا يغيّرون فلماذا يفكّرون؟!! / الغُولُ والعولمة!!