تقوية الذاكرة تشبه تقوية العضلات، وعُطل السيارة يشبه مرض الجسم، وعمليات التفكير تشبه عمليات المعالجة في الحاسب الآلي. وهكذا، تقوم أذهاننا بعمليات مقاربة ومشابهة للأشياء بما نعرفه مسبقًا، من أجل فهم الأمور وأنماطها. إننا نمارس هذه المقاربات منذ الطفولة بصور شتى، وهي العملية التي أطلق عليها النفساني السويسري جان بياجيه "التمثّل" Assimilation، وعدّها ركنًا أساسًا في النمو المعرفي للفرد.
العجيب في العلاقة الزوجية أنها علاقة لا تشبهها علاقة، وأي محاولة لفهمها عبر مقاربتها بأنماط العلاقات الأخرى؛ ستكون مقاربة مع الفارق!
هل يمكن فهم العلاقة الزوجية ضمن نموذج الصداقة؟
إن المقاربة الأشهر لعلاقة الزواج هي علاقة (الصداقة)، ولا شك أن بين العلاقتين تشابهًا في وجوه عديدة، ما دفع فريدريك نيتشه ذات مرة للقول: "من المحتمل بصورة كبيرة أن يحظى الصديق الجيد بزواج جيد؛ لأن الزواج الناجح يعتمد على موهبة الصداقة". إلا أننا من ناحية أخرى نجد فروقًا جوهرية جدًا، تجعل من هذه المقاربة أمرًا بعيدًا، كما سنرى.
التلاقي الأبدي: ليس هناك صديق تقيم معه تلك المدة الممتدة من السنوات في ذات المسكن، بل في ذات الغرفة! تستطيع أن ترى صديقك يوميًا ولساعات طويلة، نعم، لكن الأمر مختلف في الإقامة الدائمة في المكان الواحد وعلى مدى سنوات! إن عنصر التلاقي الدائم في العلاقة الزوجية يجعل من الصعب إخفاء أو تجميل طباعنا التي ربما نستطيع السيطرة عليها في علاقات الصداقة لنبدو كما نريد!
إذا شعرت بملل في لقاءات صديقك، أو بدا منه ما يثير استيائك وغضبك، يمكنك أن تباعد بين اللقاءات أو حتى تخفف من عمق العلاقة بينكما. أما في العلاقة الزوجية، فيمكن ممارسة ذلك ضمن نطاق محدودٍ للغاية، وبالتالي فأنت حتمًا ستُعايش جميع أحوال شريكك: سروره، غضبه، تقلبات مزاجه، ضعفه، قوته، مخاوفه، قسوته، وغير ذلك، ولولا عنصر الالتزام Commitment في العلاقة الزوجية، لما استمرت زيجة على وجه الأرض منذ فجر الإنسانية!
قد يوجد بين الأصدقاء مصالح مشتركة ومتبادلة، إلا أن ذلك ليس شرطًا ضروريًا لوجود أو استمرار العلاقة، خلافًا للعلاقة الزوجية، فعنصر (الموارد/المسؤوليات) يشكل تركيبًا أساسيًا فيها، فهي ليست علاقة مزاجية أو عاطفية بحتة، وإنما ثمة مسؤوليات تتطلب توازنًا مستمرًا وموارد تتطلب توافرًا مستقرًا، وإلا...!
في علاقة الصداقة أنت لست مضطرًا لقبول عائلة صديقك (أمه، أبيه، إخوته) أو من له صلة بهم، وإنما يمكنك أن تجعل علاقتك مقتصرة عليه هو وحسب. أما في علاقة الزواج فعلاقة أحد الزوجين تمتد لشبكة من العلاقات ذات الصلة بالطرف الآخر بحكم المصاهرة، وهو ما يعني امتداد شبكة العلاقات لمن هم أبعد من شريكك.
في علاقة الصداقة تشكل أنت وصديقك "نظائر"، أي علاقة أنداد متساوين، أما العلاقة الزوجية فهي ذات طابع هرمي Hierarchical relationship ، يحتفظ فيها الزوج بموقع رأس الهرم بصورة عامة، كما تقرر في الأديان السماوية الثلاثة: الإسلام، والمسيحية، واليهودية.
بحكم التشارك الدائم في المكان والمهام في العلاقة الزوجية، فإن جزءًا من عاداتك وطباعك، بل حتى اهتماماتك، سيطرأ عليه بعض التغيير والتحديد، إذ لا يمكن للفرد أن يتواجد في حالة اجتماع بشري بدون تضحية جزئية بمساحته الخاصة في الاختيارات والتفضيلات.
تتعدد أدوار الزوج/الزوجة، فالواحد منهم (زوج) و(والد) وربما (موظف)، وهو ما يتطلب موازنةً بين الأدوار بصورة مستمرة. أما الصداقة، فمهما بلغت من القوة، فإنها لن تخلق تعددية في الأدوار، وبالتالي لا يمكن أن ينشأ معها ما يُعرف بصراع الأدوار Role conflict.
يمكن أن تنتهي علاقة الصداقة بين أي شخصين، ولأسباب متعددة، وبالمثل علاقة الزواج، إلا أن فرقًا كبيرًا بين الحالتين. فقرار إنهاء العلاقة الزوجية يتطلب الكثير من التأمل والتروّي، لما له من تبعات وانعكاسات نفسية وحياتية على الفرد وشريكه وأطفاله، وهذا خلافًا لعلاقة الصداقة التي قد تنتهي دون عاقبة كبرى تتطلب تفكيرًا وحسابًا مطوّلًا.
ماذا بعد؟
في العصر الذي تسوده روح الأنانية وتقديس المزاج، يصبح من الخطورة بمكان أن يدخل الفرد العلاقة الزوجية على أساس نموذج (الصداقة) وما يحمله من طابع التسلية وعدم الالتزام، أو على أساس فكرة (الرومانسية) وما تحمله من فورة ووهج بلا أعباء تذكر، فهذا يعني أن نظام التوقعات لدى الفرد ليس واقعيًا على الإطلاق، وهو ما قد ينتهي إلى ما لا تحمد عقباه!
تُـلّخص الحياة الزوجية والأسرية كيمياء الحياة بأسرها بمكوناتها الثلاثة: الحب، الحرب، والمأساة. فيها دفء المحبة والاستقرار، وفيها لهيب الخصومة والمواجهة، وفيها صمت الألم. فيها يتعلم المرء معنى الجماعة وروح الجماعة، يتعلم كيف يضحي بجزء من كينونته الخاصة من أجل سلامة الجميع وعبور السفينة. علاقة في غاية العجب، يستكمل المرء فيها تربية ذاته وتهذيبها، مهما كابر وزعم أنه نضج واكتمل نضجه! فكلا الزوجين يعطي دروسًا للآخر، وكلاهما سيتلقى دروساً من ذريتهما عما قريب؛ بما يكمّل تهذيب النفس، وصقل سماتها، وترويض طباعها. إنها العلاقة التي لا تشبهها علاقة!
واقرأ أيضًا:
ماذا يريد الرجل من المرأة؟ / ماذا تريد المرأة من الرجل؟