المقدمة
الذات البشرية لا تختلف كثيراً عن دراسة الكون. لا يزال العلم يبحث في عجائب الكون وتفسير المادة المظلمة Dark Matter والطاقة المظلمة Dark Energy والجاذبية. في الوقت الذي ندرك فيه بأن المادة في الكون تتميز بقدرتها على الجاذبية، ما نعلمه اليوم بأن الطاقة المظلمة هي مضادة للجاذبية Antigravity. كذلك الحال مع النفس البشرية وكثيراً ما نفترض بأن هناك ما لا يصعب تفسيره في جذب الإنسان لسلوكيات وموقع نفسي٬ ولكن في نفس الوقت نعترف بأن هناك الكثير الذي نجهله عن الطاقة التي تدفع الإنسان لسلوك وموقع نفسي يصعب تفسيره أو تمنعه من التحرك إلى الأمام ليتبوأ موقعاً يسد احتياجاته المختلفة والشعور بالسعادة والهناء. هذا ما يبحث فيه الطب النفساني الحركي عن طاقة تدفع وطاقة تمنع.
هناك جوانب عدة لدراسة النفس البشرية، ويصعب تعداد الفرضيات والنظريات التي تحاول تفسير سلوكيات الإنسان ومشاعره. الكثير أيضاً من هذه الفرضيات لا يستند على دراسات علمية إحصائية كما هو الحال في البحث العلمي الحديث. ولكن رغم غياب الدليل العلمي القاطع، ولكن كل من يعمل في مجال الصحة النفسية عليه أن يستوعب الجانب النفسي الحركي لمراجعة ومحاولة صياغة الحالة بهذه الصورة جنباً إلى جنب مع استعمال النماذج الطبنفسية المختلفة سواء كانت سلوكية معرفية٬ اجتماعية، أو طبية.
الطاقة النفسية البشرية Human Psychological Energy
الذات البشرية لا تحتوي على نافذة مفتوحة يسهل النظر عبر زجاجها لدراسة محتوياتها. ما لا نجهله أيضاً بأن هذه الذات البشرية تحتوي على الكثير من المتناقضات كل واحدة منها مولدة لطاقة تجذب الإنسان في اتجاه ما أو اتجاه معاكس. هذه الطاقة بدورها يتم صياغتها بنزاعات داخل النفس البشرية يقوى الإنسان أحياناً على التصريح بها، ولكن هناك الكثير من لا يستطيع عمل ذلك ويصارع هذه الطاقة طوال عمره لوحده دون مساندة الآخرين.
قواعد عامة:
١- الرغبة ومقاومة الرغبة A wish & defence against the wish رغبات وأُمنيات الإنسان لا حدود لها. هناك من الرغبات ما هو يومي ووقتي وهناك ما هو أبدي. هناك ما يمكن تحقيقه وهناك ما هو مستحيل التحقيق. تعامل الإنسان مع هذه الرغبات يعتمد على رحلته الشخصية في الحياة وعوامله البيئية المختلفة.
٢- أقسام النفس البشرية الداخلية ّIntrapsychic Agencies
الذات البشرية لا تختلف كثيراً عن دائرة تحتوي على أقسام عدة لكل منها وظيفتها، وهذه الأقسام بدورها في صراع دائم مع أقسام أخرى لأجل المحافظة على وجودها وإثبات دورها في فعالية الدائرة الكبرى. لكن هذه الصراعات بين الأقسام في داخل دائرة ما قد تؤدي أحياناً إلى نزاعات تعبث بالدائرة نفسها.
الأقسام المختلفة للذات البشرية متعددة فهناك قسم يعني بالعائلة الأصل٬ وقسم يعني بالزوجة والأطفال. هناك أقسام تعني ببيئة العمل، الغرائز، الهوايات، الطموح، وغير ذلك كثير. ما يغيب عن خاطر الإنسان بأن أهداف الإنسان يجب أن تكون لمصلحة الدائرة الأكبر، ولكن ما قد يحدث أحياناً هو أن أهداف أحد الأقسام يتعارض مع الدائرة الكبرى وقد يؤدي إلى تدميرها.
٣- الاندفاع والواقع الخارجي Impulse & External Reality
يشعر الإنسان بالقيود التي حوله وأحياناً يقبل بها وتارة يستوعبها كأنها جدران زنزانة يحاول الفرار منها. هناك من عليه أن يقبل بالقيود والحواجز ولا يتجاوزها من أجل أن يحافظ على ما يملك من سعادة وهناء، ولكن هناك من هو في حاجة إلى أن يتجاوز هذه الحواجز من أجل أن ينتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو الذاتي.
٤- العجز Deficit في داخل الإنسان: يتميز الإنسان بكل شيء إلا الكمال والبحث عن الكمال بحد ذاته عملية عقيمة. في نفس الوقت البشر من ثلاثة أصناف:
أ- هناك من يدرك هذا العجز ويحاول التعامل معه والسيطرة على تأثير العجز عليه.
ب- هناك من يدرك هذا العجز ويستسلم له ويبقى مشلول الحركة طوال عمره.
ج- هناك من لا يدرك هذا العجز ويمضي في طريقه ويفشل المرة بعد الأخرى.
العجز عموماً يمنع الإنسان من الشعور بالتكامل والقدرة على اتخاذ القرار٬ ولكن في نهاية الأمر عليه أن يتعامل معه ويتخذ القرار اللازم لتنشيط حياته في شتى الميادين.
٥- العلاقات الشخصية interpersonal Relationships الإنسان في تفاعل مستمر مع الآخرين منذ بداية الحياة. العلاقات بين الفرد والآخرين عملية حركية أولاً وثانياً عملية أبدية. التفاعل مع الآخرين قد ينتج ما يلي:
أ- تأثير فوري على الإنسان.
ب- تأثير قصير الأمد.
ج- تأثير طويل الأمد.
هذا التأثير قد يتم صياغته أحياناً بمفهوم الصدمة النفسية وأحياناً يتم صياغته في إطار التمثيل الداخلي لعلاقة الكائنات Object Relations. يتم استعمال مصطلح الكائنات للتعبير عن استيطان دور الآباء والأمهات ومن يتولى رعاية الإنسان في مراحل الطفولة وبدون وعي من الإنسان نفسه. لكن في نفس الوقت لا يمكن إهمال استيطان الكائنات الأخرى في مراحل البلوغ وتأثيرها على الحالة النفسية.
العلاج الشخصي Personalized Therapy
مصطلح الطب الشخصي Personalised Medicine مصطلح جديد وبدأ ينتشر في مختلف الفروع الطبية، ولكن نادراً ما يتم استعماله في الطب النفسي. ما هوالمقصود بالطب الشخصي هو أن علاج الأمراض يختلف من إنسانٍ إلى آخر بسبب تكوين جيناته ووجود عوامل بيئية تؤثر على مسار مرضه. بسبب ذلك لكل مريض خطة علاج خاصة به. الحقيقة أن الطب النفسي هو أول من ركز على هذا المفهوم بصورة غير مباشرة مع ولادة نظريات التحليل النفسي٬ ولكن الذي يحدث اليوم بأن الطب النفسي بدأ يتوجه في اتجاه معاكس ويكثر من وصفات طبية عامة وتعميم تقديم علاجات نفسية لمختلف المراجعين.
لا يكفي تشخيص حالة المريض وإنما يجب أن يسعى الطبيب النفسي فهم محتوى أفكار مراجعه ومشاعره وتأثير صدمات الماضي على محتوى الأفكار بل وأحياناً إطارها. الطب النفسي الحركي يعني بما هو خاص بالمراجع واختلافه عن الآخرين.
لا بد من الانتباه إلى خصوصيات المراجع جميعها وعدم التركيز على مجموعة دون أخرى. على سبيل المثال الجينات تلعب دورها في تمييز سلوك الإنسان وعتبته للإصابة باضطرابات نفسية، ولكن تأثير البيئة وظروف الحياة لا يقل أهمية وقد يؤثر على فعالية الجينات نفسها.
المراجع بحاجة إلى من يستمع إليه أولاً، ويفهم تفاعلاته النفسية مع معالجه ومع الآخرين. يتم تعقيد هذه العلاقة باستعمال مصطلح إنقال Transference مشيراً إلى تفسير سلوك المراجع مع المعالج استناداً إلى تجارب الماضي، وهناك أيضاً مصطلح الإنقال المعاكس Counter- Transference الذي يحذر المعالج من سلوكه تجاه مراجعه بسبب تجارب ماضيه هو وليس مراجعه. هذه التفاعلات لا تغيب عن المعالج وتمثل دور العلاقات الشخصية الماضية وتأثيرها على الجميع.
الخوض في مغارات الوعي واللاوعي عملية قد تنجح أو تفشل في اكتشاف عقدة الإنسان البؤرية التي تتحكم به، ولكن الحقيقة هو أن اكتشاف هذه البؤرة لا يكفي لحل مشاكله وهناك الحاجة إلى الانتباه إلى جميع الخصوصيات أعلاه.
واقرأ أيضاً:
التنظيم العاطفي Emotional Regulation / فيروس كورونا COVID-19 مع ٢٠٢٢