ظاهرة "المستريح الدائم" (سيكولوجية النصب والاحتيال المتكرر)
المستريح "كمان، وكمان: من المثير للدهشة أن تتكرر أحداث النصب والاحتيال على فترات متقاربة ويتساقط الضحايا وراء الضحايا وتذاع هذه الحوادث على كل وسائل الإعلام ويسمعها ويشاهدها جميع الناس، ومع ذلك يقعون مرات ومرات ضحايا للمستريحين الذين تتغير أسماؤهم وصفاتهم، ولكن الفكرة واحدة، وهي أن النصاب يسعى لكسب سريع وهو مستريح، والضحية ينتهز الفرصة أيضا لكسب سريع وهو مستريح، إذن فلفظ "المستريح" يطلق هنا من الناحية النفسية على الجاني والضحية، حتى وإن كان الجاني يفعلها بخبث بينما الضحية يقع فيها ببراءة أو تحت تأثير طمع جامح أو احتياج ملح، وقد تكرر هذا المشهد في صورة شركات توظيف الأموال قديما، وتكرر بعد ذلك في صور مختلفة، حتى وصلنا إلى الحدث الأخير وهو "مستريحين الصعيد"، مع تغير نوعي هذه المرة.
وهو ظهور عدد من المستريحين بلغ أكثر من عشرة دفعة واحدة في منطقة جغرافية صغيرة وفقيرة، ووسط أناس بسطاء أغلبهم فقراء أقنعهم هؤلاء المستريحين بشراء مواشيهم بضعف أو ثلاث أضعاف ثمنها، وأعطوا للناس دفعات كبيرة من الأموال فصدقهم الناس واندفعوا بأعداد كبيرة متهافتين على هذا الكسب الكبير في ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة ثم بعد أن وثق فيهم الناس بدءوا يشترون بالآجل على يدفعوا المال بعد شهر أو أكثر فدفع الناس إليهم مواشيهم بلا ثمن وبلا ضمانات انتظارا للثمن الكبير الذي حصل عليه سابقيهم فجمعوا المليارات واختفوا!!! .. واشتعلت نار الفتنة والثأر في الصعيد بما استدعى جهودا هائلة لوأدها، وربما اختار المستريحون هذه البيئة الفقيرة، في هذه الظروف الصعبة، ليكون الناس أكثر قابلية للإيحاء والاستهواء والاستلاب . وقد حدثت عدوى بين النصابين فتوالى ظهورهم طمعا في المال، وتوالى أيضا ظهور الضحايا بأعداد كبيرة تحت تأثير الاحتياج أو الطمع أو الغفلة أو السذاجة أو الكسل أو التقليد للآخرين بما نسميه ضغط الجموع أو الهيستيريا الجماعية أو سلوك الحشد، حيث يفقد الشخص في هذه الظروف قدرته على القراءة الموضوعية العقلانية، ويتحرك مع الجموع بمشاعره المتوجهة نحو الكسب السريع والمتوهجة بإشاعات وأخبار هذا الكسب الذي حققه آخرون، فيفقد الناس حذرهم المتوقع ويسلمون أموالهم بسلاسة للنصاب الذي نصب لهم الفخ من خلال تقديمه لنماذج كسب محدودة كطعم لصيد مئات بل آلاف الناس، وهو يستخدم قاعدة بسيطة جدا وهي : "يلبس طاقية ده لده".
والشخص النصاب "المستريح" غالبا ما يزين نفسه بأشخاص بارزين في المجتمع ليعطوه مصداقية كاذبة، أو يشيع بأنه جاء بوصية من أحد أولياء الله الصالحين ليساعد الناس، أو يظهر بقناع ديني ويدعو لافتتاح مشروعاته ومباركتها بعض رجال الدين، أو يظهر في فيديوهات توحي بثرائه وأمانته، أو يقوم ببعض الأعمال الخيرية مثل بناء مساجد أو بيوت للفقراء، ويبالغ في الحديث عن الأمانة والصدق والإخلاص . وقد ذكر أحد المحامين في الصعيد أن الأشخاص الذين قاموا بعمليات النصب الجماعي بنفس الطريقة ربما تربطهم علاقة ما، وأن قدراتهم العقلية ربما لا تؤهلهم لهذا التفكير الخطير، وأنه ربما يكون وراءهم مدبر أكثر منهم ذكاءا، وسوف تكشف الأيام والتحقيقات خبايا هذه الأحداث ومن وراءها .... ويجدر بنا في هذه الظروف أن نستعيد ذكرى أحداث آخر عملية نصب جماعي على المصريين، والتي جرت تفاصيلها في مصر ودبي من خلال شركة استثمارية (أو شركة أوراق مالية) وراح ضحيتها 68 مصري في داخل مصر و13 مصري في دبي (هؤلاء فقط من أعلنوا عن أنفسهم وربما غيرهم كثير يخشون الإعلان لأسباب بعضها معلوم وأكثرها مجهول)، وهم جميعا ينتمون إلى طبقات اجتماعية عليا، فمنهم رجال أعمال ورياضيين وإداريين وفنانين بل وبعض المسئولين .
وقد نجح صاحب الشركة في جمع ملايين الدولارات منهم بحجة استثمارها، وأغراهم في البداية بفوائد عالية بلغت في بعض الأحيان 40-50% في السنة ووضع على رأس مجلس الإدارة اسم أحد المسئولين الكبار، ثم فجأة أعلن صاحب الشركة من جانب واحد أن الرصيد أصبح صفرا، فهاج وماج المودعون ورفعوا القضايا، ونشطت وسائل الإعلام تستطلع الأمر وتستضيف المودعين ومحاميهم ليصفوا صاحب الشركة بأنه نصّاب ومحتال وانتهازي، ثم تستضيف مدافعين عن صاحب الشركة (لزوم الموضوعية أو حرية الرد، أو قل لزوم تسخين المعركة الإعلامية) ليقولوا بأن المودعين حصلوا على فوائد كثيرة تفوق أرصدتهم التي أودعوها وأنهم طمّاعين أكثر من اللازم، وأن ما حدث هو نتيجة طبيعية لانهيارات البورصة العالمية، ثم يقف المحللون الاقتصاديون ليقولوا بأنه استحالة فى عالم البورصة أن يصل الرصيد صفرا، إذ أنه لا يمكن أن يصبح قيمة السهم صفرا في أي حال من الأحوال. المشكلة ليست في أن شخصا خدع آخرين أو نصب عليهم أو استغلهم، فهذا يمكن أن يحدث في أي مجتمع، ولكن المشكلة هي في تكرار تلك الحوادث في المجتمع المصري بصورة ملفتة للنظر (نصّاب مدينة نصر، وقبله شركات توظيف الأموال، وقبلهم وبعدهم عدد كبير من رجال الأعمال نصبوا على البنوك وأخذوا منها المليارات وهربوا)، وبشكل يدعو المتخصصين في مجالات علم النفس والاجتماع لأن يدرسوا هذه الظاهرة، من كافة جوانبها وأطرافها، لمعرفة أسبابها وجذورها ومظاهرها وطرق مواجهتها، وهذا ما سنحاوله في هذه الدراسة، على أن نعتبرها بداية لمحاولات أكثر تفصيلا ومنهجية. وسوف نقوم بتأمل عناصر المشكلة كل على حده، ثم نرى كيف تتفاعل هذه العناصر لتنشئ حدث "النصب المتكرر" على أفراد الشعب المصري. وهل القابلية للنصب لدى الشعب المصري متصلة بقابليات أخرى مثل: القابلية للاستعمار والقابلية للاستبداد؟؟!! ...
وفي البداية نتساءل: ما الذي يجعل حوادث النصب كثيرة ومتكررة بهذا الشكل في المجتمع المصري؟ ... ألدينا عدد أكبر من النصّابين؟ ... أم لدينا عدد أكبر من السذج والغافلين والمغفلين؟ ... أم لدينا بيئة محرضة على النصب (كما هي محرضة على الغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات والرشوة والفساد والاستبداد والتحرش، وكلها آفات شديدة الصلة ببعضها)؟ .... ولكي نتعرف على الإجابة أو نجد تفسيرا سنحاول الدخول إلى المعنى النفسي للمال والتملك ثم نعرج إلى أركان جريمة النصب لنرى العوامل التي تساعد على إتمام الجريمة في أركانها الثلاثة : النصّاب، والمنصوب عليه، والبيئة التي احتضنت جريمة النصب .
ويتبع>>>>: ظاهرة المستريح الدائم(2)
واقرأ أيضا:
هل تشكل شخصية بوتين خطرا على العالم ؟ / الكشف الطبي النفسي قبل الزواج