الدكتور محمد غنيم (أيقونة العلم والإنسانية)
اعتدنا يوم الجمعة من كل أسبوع كمجموعة من الأصدقاء (أطباء ومثقفين) أن نصلي الجمعة في مسجد مركز الكلى والمسالك البولية بالمنصورة، ثم نزور الدكتور غنيم في مكتبه ونجلس معه بعض الوقت نتبادل الحديث في العلم والطب والثقافة والسياسة والاقتصاد وأي شيء. وأصبحت هذه الأوقات التي نقضيها في صحبته زادا أسبوعيا رائعا نحرص عليه ولا ندعه إلا في ظروف سفره، لأننا ونحن في صحبة هذا الرجل نرى نموذجا مختلفا من البشر، فحين تدخل مكتبه تجده جالسا وبجواره جهاز اللاب توب، وهو يتابع من خلاله الأحداث العالمية سواء كانت علمية أو ثقافية أو سياسية، وتجده يقظا متحفزا، تتبدى على ملامح وجهه حركات سريعة وأيضا يديه وذراعيه بما يعكس حالة نشاط داخلية كبيرة يتفاعل معها بتغير وضع جلسته أو حركات جسده، وعلى الرغم من ضعف سمعه في السنوات الأخيرة إلا أنه يكون حريصا على التقاط الكلمات والإشارات في الحديث مع كل الجالسين معه، ويتفاعل معها بعمق واهتمام شديد.
ومالا يعرفه الكثيرون عن الدكتور غنيم أنه ليس فقط عبقريا في الطب والإدارة، ولكنه قارئ نهم للأدب العالمي، ومستمع جيد لأعظم السيمفونيات العالمية، ومتذوق رائع للوحات الفنية، ومستمتع بحلاوة أصوات قراء القرآن الكريم المصريين، ومن يتابع صفحته على الفيس بوك سيرى أن أغلب ما يضعه على صفحته لوحات فنية متميزة، ومقطوعات موسيقية لكبار الموسيقيين العالميين، ومقطوعات من تلاوات قرآنية لعظماء القراء، أو فيديوهات التقطها هو بنفسه في رحلات غوصه تحت مياه البحر الأحمر، وهو يمارس هذه الهواية وهوايات أخرى رغم بلوغه سن الرابعة والثمانين، وتراه يتحرك في خفة ورشاقة، ويتمتع ببنيان جسماني رشيق ونشط . حين يتحدث تراه مهموما ومهتما بمشكلات التعليم والرعاية الصحية وعدالة توزيع الخدمات للفقراء، وله رؤى ثاقبة ورشيدة لمشكلات الوطن، وهو يحاول بكل ما يملك أن تصل تلك الرؤى والآراء إلى من بيدهم الأمر. وعلى الرغم من جديته وهمومه واهتماماته البادية للناظر إلى وجهه الذي تعكس قسماته بالغ الجدية والحزم والعزم، إلا أنه حين يبتسم أو يضحك ترى وجهه وقد أضاء وتحول إلى ذات طفلية سعيدة وتلقائية مبتهجة.
وقسمات وجه الدكتور غنيم لاتستقر على حال لفترة طويلة فهي تتغير بسرعة، ولهذا من الصعب أن تلتقط صورة فوتوغرافية له وهو يحدق في عدسة الكاميرا، إذ كثيرا ما تتحرك عضلات وجهه في اتجاهات عديدة منطلقة من أجهزة إدراك يقظة ومتحركة تراقب ما يحدث حولها وتستجيب له بأقصى سرعة ممكنة. وقد أحب الدكتور غنيم المنصورة، وأحبه أهلها، وهو لايغادر المنصورة إلا للضرورة، وقد أصبح أيقونة المنصورة كشخص يفخر به أهل المدينة ويحبونه (فقراءهم قبل أغنيائهم)، وكمركز طبي عالمي متميز رفع اسم المنصورة عالميا، يعالج فيه الفقراء كما يعالج فيه الأمراء والملوك جنبا إلى جنب وبنفس مستوى الخدمة.
يذكر أن رئيس أحد الدول الإفريقية كان يعاني ورما سرطانيا في المثانة، وحين ذهب إلى أكثر من مركز في أوروبا للعلاج، وجدوا صعوبات كثيرة في التعامل مع مرضه، حيث كان وزنه يكاد يصل إلى 200 كجم بما يجعل دخوله في أي جهاز أشعة أمرا مستحيلا، كما يجعل تخديره للعملية أمرا محاطا بالمخاطر، كما أن لديه مشاكل صحية أخرى كثيرة. وقد نصحه الأطباء العالميون بالتوجه لمركز الكلى والمسالك البولية بالمنصورة، وفعلا حضر وتم تقييم حالته، وبدأ الدكتور غنيم في عقد اجتماعات مع الفريق الطبي بالمركز للتفكير في طرق معالجة هذه الحالة الصعبة جدا. وبعد التقييم والتخطيط بدأت مراحل العلاج المختلفة وفعلا شفي هذا الرئيس الإفريقي وتبرع للمركز بمبالغ سخية، وقد كانت هذه الحالة بالإضافة لحالات أخرى كثيرة مشابهة شهادة عالمية بأن مركز الكلى والمسالك البولية في المنصورة يصنف كأفضل مركز عالمي في تخصصه، ويؤكد ذلك عدد الجوائز التقديرية والتشجيعية وجوائز التميز العلمي، والأبحاث المنشورة في المجلات العلمية العالمية عالية القيمة والتقدير في مجال العلم، كل هذا يكمن وراءه الطموح العلمي الهائل للدكتور غنيم، والذي كان يشترط أن يكون عدد الحالات في أي بحث يتجاوز عشرات المرات ماهو معتاد في الأبحاث العلمية في موضوع البحث، كما كان حريصا على سلامة وصحة منهجية وخطوات وإجراءات البحث.
حين نصف سياراتنا في ساحة انتظار المعهد نحرص على أن لا تلمس عجلات سياراتنا أي جزء من رصيف المركز الداخلي حيث من المعروف أن الدكتور غنيم يضع كاميرات ترصد أي تعدي على أي شيء في المركز حتى ولو كان حافة الرصيف أو الأشجار أو نباتات الزينة في حدائق المركز. فهو قد بذل حياته من أجل إقامة هذا الصرح العلمي الرفيع، وكان هو رسالته في الحياة والتي من خلالها يوصل للمجتمع رسالة مهمة وهي أن التميز والتفوق والانضباط والجمال ممكن حتى في أحلك الظروف التي مرت بها وتمر مصر، وحتى بالمصريين المتهمين بالتكاسل والتراخي والإهمال والعشوائية، تلك كانت معجزة غنيم ومشروعه العلمي والإنساني الذي كافح من أجل إنشائه وتشغيله ومازال حتى هذه اللحظة يكافح من أجل بقائه شامخا عظيما جميلا.
وحين نجلس إليه في هذا المجلس الأسبوعي نكتشف أنه يتابع كل الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية في مصر والعالم حتى آخر لحظة، وأن لديه رؤية وتصور وتقييم لكل ماحدث ويحدث. وحين تدخل مكتبه ترى دوسيهات موضوعة بنظام بعضها على الأرض وبعضها على أرفف تغطي جدران حجرة مكتبه، فسألته يوما عن هذه الدوسيهات التي ربما يتجاوز عددها المائة دوسيه، فأجاب بأن الدوسيهات على الأرفف هي مشروعات أبحاث اكتملت أو كادت أن تكتمل، أما الدوسيهات على الأرض فهي أبحاث مازالت في البدايات، أو بمعنى آخر مشروعات أبحاث. ويضع في المكتب صورا لأبنائه، وصورا له مع الرئيس السادات ومع الرئيس مبارك، ويضع صورة للعالم الكبير أحمد زويل. والدكتور غنيم يتمتع بذائقة فنية رائعة ورفيعة وهو ينتقي أجمل الألوان في مكتبه وفي المركز، وينتقي أيضا لوحات فنية بعناية لتوضع في الردهات والمكاتب، وينتقي الأشجار والنخيل والزهور في الحدائق ويساعده في ذلك –تطوعا ومحبة- أساتذة من كلية الزراعة بالمنصورة. وكل تفصيلة في مكتبه أو في مركز الكلى تجدها قد حظيت بعناية شديدة، ولها وظيفة مهمة، ولكنها في مجملها تشكل منظومة جمالية رائعة.
شاهدت على ذراعيه بقعا فسألته إن كان أصابه شيئا فرد بأنها موجودة منذ زمن وأن سببها تأثير كيماويات التعقيم، فقد قام بعدد هائل من العمليات الجراحية والتي كان كثير منها يستغرق ساعات طويلة.
والدكتور غنيم ليس عالما منكفئا على ذاته وعلمه ومركزه المتميز، ولكنه مشتبك مع الأحداث السياسية والاجتماعية وقد شارك في الأحداث السياسية الكبيرة في مصر فكان في طليعة الثورات التي تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد، وله تصريحات ومقالات وحوارات عديدة في هذا المجال. وقد سألته يوما: مالذي أدخلك في عالم السياسة المتقلب والخطر، ولماذا لم تكتف باهتماماتك الطبية والعلمية وتبتعد عن الصراعات السياسية؟ .. فرد فورا بأن العمل السياسي ليس ترفا فالسياسة تدخل عليّ بيتي ومكان عملي وتؤثر في أي نشاط أقوم به.
ويتبع >>>>: الدكتور محمد غنيم 2
واقرأ أيضاً:
أمخاخ متعددة / الزوجة الزنّانة Nagging Wife