رصيد المفردات اللغوية، أو المعجمية Vocabulary، هو مجموع ما عندنا من مفردات اللغة التي نتحدث ونكتب بها.
وجميعنا يتذكر الكلمة ومعناه Glossary في كتبنا المدرسية وبأسفل الصفحات، وكم كنا نستثقلها ونهزأ بها ولا نقرأها، ولكننا في درس اللغة الإنكليزية نحفظ العشرات والمئات من المفردات اللغوية ومعانيها ومترادفاتها، وكل منا لديه قاموس يعود إليه ليعرف معنى الكلمة.
نفعل ذلك مع اللغة الإنكليزية ولا نفعله مع لغتنا العربية، فنتخرج من الإعدادية ومفردات اللغة الإنكليزية أكثر عندنا من مفردات اللغة العربية.
وقد يبدو هذا القول غريبا لكنه واقع حالنا المرير الذي نعبّر عنه فيما نقوله ونكتبه، فما عهدنا أنفسنا أو بعضنا يتحدث عن قاموس أو كتاب يبحث فيه عن معنى الكلمة العربية.
ويبدو أن أساليب تدريسنا للغتنا العربية نهمل فيها أهمية المعجمية والمفردة اللغوية ومعناها، وما عهدنا امتحانا في اللغة العربية حول الكلمة ومعناها في مدارسنا، مثلما هو قائم في مدارس الدنيا كلها.
لقد أهملنا الكلمة ومعناها -عن قصد أو غير قصد- مما صنع أجيالا بعيدة عن مفردة اللغة العربية ومعانيها.
وفي أمم الأرض قاطبة يكون الاهتمام الأول بالمفردة اللغوية ومعناها، وبالمخزون اللغوي لدى الفرد، وما أن يدخل التلميذ إلى رياض الأطفال حتى يتم الشروع بتعليمه الكلمات، وتوضيح معانيها له بالرسوم والوسائل الإيضاحية المتنوعة، فينمو المخزون اللغوي معه ويمضي في ازدياد على مدى حياته.
وأصبح في العالم المتقدم، امتحان اللغة ومفرداتها من أهم امتحانات الدخول إلى الجامعات. فالامتحان الرئيسي للقبول في الجامعات اليوم يرتكز على موضوعين هما لغة العلم ولغة التفكير أو العقل.
فلغة العلم هي الرياضيات ولغة العقل والتفكير هي اللغة التي يتكلم بها الفرد في مجتمعه.
وبهذا يكون الشخص قد اكتسب مهارات التعبير العلمي واللغوي عن أفكاره.
فكلما ازداد معينه اللغوي، أصبح أكثر قدرة على وضع أفكاره في كلمات تعبر عنها بدقة ووضوح. وكلما افتقر المخزون اللغوي لدى الأشخاص كلما فقدوا القدرة على التعبير بالكلام والأفكار، وصارت تعبيراتهم وتفاعلاتهم بدائية وذات عناصر أولية بائدة، لا تمت بصلة إلى العصر الذي تعيشه.
بل أن التعبيرات تأخذ أساليب مرفوضة ولا حضارية، فتجد الصراع قد احتدم والتعبير عما عندهم قد تم بالأيادي، والحراب والبنادق وغيرها من الوسائل الوحشية.
وكلما ازداد المخزون اللغوي لدى الأفراد كلما تنامت قدراتهم التعبيرية، وحققت التفاعل الحضاري والنمو الإيجابي في مسيرة الانطلاق البعيد، بل وربما تعيش بسلام أكثر وألفة أكبر لأنها تمتلك المهارات المعبرة عن ذلك.
ومن هنا فأن اهتمام الأمم المتحضرة بالكلمة ومعناها أصبح أولوية قصوى في التحصيل العلمي والتقدم في الحياة.
وعندما نقارن أبناء المجتمعات المتقدمة والمتأخرة، نجد أن ما يملكه أبناء المجتمعات المتقدمة من مخزون لغوي يفوق كثيرا ما عند أبناء المجتمعات المتأخرة من لغتهم.
وفي واقعنا العربي فنحن نعرف معاني المفردات الأجنبية أكثر من مفردات ومعاني اللغة العربية، وهذا يتضح في كتاباتنا التي نجدها مقيدة في مفرداتها، فتكرر ذات الكلمات والعبارات، وكذلك في قلة القواميس والمصادر التي تعنى باللغة العربية.
ولو أمضى أحدنا وقتا في أية مكتبة لبيع الكتب في دولنا العربية، فأنه سيتعذر عليه الحصول على قاموس حديث للغة العربية أي قاموس عربي - عربي إلا فيما ندر، لكنه يجد العديد من القواميس في اللغات الأخرى.
إن قوة أية لغة تظهر في عدد القواميس التي تصدر عنها.
وللقواميس أو المعاجم اللغوية دور مهم في حياة الشعوب، وهي تهتم بها أكبر الاهتمام، وهناك مؤسسات ومجامع لغوية نشطة تقوم بإضافة الكلمات الجديدة، وإصدار القواميس وتطويرها والتنبه إلى المفردات الجديدة وشرح معانيها.
أما عندنا فهيهات هيهات أن يتحقق هذا، ولو أحصينا عدد القواميس التي صدرت عن اللغة العربية (عربي-عربي) وعلى مدى القرن العشرين، لأدركنا أنها لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فنحن قد تقوقعنا عند المنجد الأبجدي ومختار الصحاح وأساس البلاغة وغيرها، وما استطعنا الخطو إلى الأمام والمعاصرة بمعاجمنا اللغوية التي تحفظ هيبة اللغة العربية، لأن قوة وسلامة أية لغة تتناسب طرديا مع عدد المعاجم الصادرة فيها.
وفي هذا تكمن مأساة أمة ودمار حضارة، وانهيار مسيرة ثقافية إنسانية خلاقة بعثت الأنوار في الآفاق، وشيدت الرموز العمرانية الخالدة، التي تحكي عن ثراء ثقافتها وسعة علومها ومعارفها.
إن فقر المخزون اللغوي لدى العربي هو الذي ساهم في تنمية مساحة الجهل، وتحقيق حالة الانقطاع والتشويه والتشوش ما بين الماضي والحاضر، وهو الذي يبني معالم اليأس من المستقبل. فأجدادنا كانوا أكثر معرفةً بلغتنا منا، ونحن بسبب ضعف معجميتنا صرنا لا نفهم ما نقرأ، وأصبحت لدينا أمية قرآنية مرعبة نعبر عنها في أفعالنا ومصائب أيامنا الدامية.
ولهذا فلا بد لنا من بناء المعجمية الذاتية والجمعية، لكي نعاصر ونواجه بعقولنا لا بعواطفنا وانفعالاتنا ما يجري من حولنا.
فقلة المخزون اللغوي عندنا تدفع بنا إلى الإستجابات الانفعالية والتفاعلات العاطفية الأولية، لأن عقولنا لا تمتلك الأدوات التي تؤهلها للمواجهة مع المواقف والمستجدات.
إن المعجمية تساعدنا على حب القراءة وتحولنا على شعوب قارئة، فالمعرفة الدقيقة والواسعة بمعاني الكلمات العربية ستحقق نجاحا كبيرا على جميع المستويات الحياتية أكثر من أي وسيلة أخرى، لأنها تجعلنا نفهم ما نقول ونقرأ ونضع الأفكار في مواضعها، ونوفر لها القدرات والوسائل اللازمة للحياة، وأهم سبب لعدم قدرتنا على صياغة الأفكار في الحياة هو فقرنا المعجمي.
إن الكلمات التي نقولها تظهر ثقافتنا وقدراتنا، وعندما نستخدم كلماتنا بدقة ونعبر عن معاني ما نقوله بوضوح، نكون قد أوجدنا حالة متقدمة ومعبرة عن ذكائنا ومعارفنا وقابلياتنا.
ونحن لكي نفكر بحاجة إلى الكلمات، ولا يمكننا أن نجد حلا للمعضلات من غير كلمات، وكلما ازداد مخزوننا اللغوي استطعنا أن نجد حلولا أفضل، وكلما قل ذلك المخزون وجدتنا بلا حلول لمشاكلنا. فاللغة أداة العقل والتفكير، وعندما تكون هذه الأداة قاصرة فأن العقل والتفكير يكونان قاصرَين. ومعرفة معاني الكلمات وامتلاك أكبر قدر منها يمنح العقل سبلا أكثر للتفكير، وأدوات عديدة للوصول إلى الحلول.
وفي حقيقة الأمر أن المعجمية تساهم في تحسين التفكير وتطوير وسائله.
فلابد لنا لكي نتواصل من ابتكار الوسائل التي تساعد على إثراء معجميتنا وتوفير الأدوات اللازمة لعقولنا، لكي تكون أكثر قدرة على التفكير والوصول إلى أفضل الحلول.
وعلى أساتذة اللغة العربية وعلى مختلف المستويات أن تتلاحم جهودهم من أجل تحبيب المفردة العربية ومعناها إلى نفوس التلاميذ والطلبة.
فلغتنا العربية التي تشكو من أهلها وتريد أن تنطلق إلى حقيقتها وعلياء دورها وثقافتها وفكرها، وترفض الاهمال الذي أدى إلى فقدان الدقة في التعبير واستخدام الكلمات العربية بغير محلها، مما يدفع إلى التشويش والخلط، فيصعب فهم ما نكتبه أحيانا لأن اللغة التي نكتب بها لم تتأهل لكي تكون مهارة فعالة في نقل الأفكار بوضوح وتماسك على السطور.
وأخيرا فأن العودة إلى اللغة العربية وتحديث أساليب تدريسها والاهتمام بالكلمة ومعناها من شروط التطور الحضاري والتعامل الجاد في الحياة.
وعلى أساتذة اللغة العربية أن يخرجوا من قوقعة التفاعلات السلبية، وأن يقدموا للغتنا الرائعة الشاملة الكاملة أفكارهم واكتشافاتهم التي تمنحها القوة والجمال والتأثير، وأن يجدّوا ويجتهدوا لتطوير أساليب تدريسها.
فالاهتمام بالمعجمية من ضرورات التقدم الحضاري والمعاصرة، ولابد من إصدار المعاجم الحديثة والمواكبة في اللغة العربية، لكي تتألق ويتمكن أبناؤها من التعبير المتطور عن أفكارهم ورؤاهم بها.
واقرأ أيضاً:
الانحطاطية!! / أعذب الشعر أحفظه!!