أثر الصلاة في النفس المؤمنة1
2- بين الخشوع وحضور القلب في الصلاة
- "عن أنس رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وذقنه على رحله متخشعاً" رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
- عن أنس قال: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استشرفه الناس فوضع رأسه على رحله تخشعاً" رواه أبو يعلى في مسنده.
- روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن رجل قال: رأى سعيد بن المسيب رجلاً وهو يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
- "عن جبير عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، قال: فقال زياد بن لبيد الأنصاري يا رسول الله وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولتقرئنه نساؤنا وأبناؤنا.. فقال: ثكلتك أمك يا زياد، إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذا التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء وأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلا خاشعاً" رواه الحاكم في مستدركه.
وجاء في رواية أخرى للحاكم "عن جبير بن نفير أنه قال: قال عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوماً فقال: هذا أوان يرفع العلم، فقال له رجل من الأنصار يقال له ابن لبيد: يا رسول الله كيف يرفع العلم وقد أثبت في الكتاب ووعته القلوب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة.. ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله. قال: فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك فقال: صدق عوف ألا أخبرك بأول ذلك يرفع؟ قلت: بلى. قال: الخشوع حتى لا ترى خاشعاً".
في الآيات الكريمة نجد القلوب تخشع والأبصار تخشع والأصوات تخشع والوجوه تخشع والجبال تخشع والأرض تخشع والمصلون يخشعون، ومعنى الخشوع أوضح ما يكون في قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فصلت39
فالأرض تكون خاشعة حتى يسقيها الماء فيزول خشوعها عندما تهتز وتربو أي ترتفع لتكون رابية، ويكون الخشوع اجتماع السكون والانخفاض ويزول بالحركة والاهتزاز والعلو والارتفاع، ويكون الخشوع في الصلاة الهدوء والسكينة وعدم الإتيان بحركات ليست من الصلاة، ويرافق هذه السكينة انخفاض الرأس والبصر والجسم عموماً، ويكون نظر المصلي إلى موضع سجوده جزءاً من خشوعه وتأدبه في حضرة خالقه العظيم، وهكذا يكون الخشوع شيئاً يرى بالعين، وليس حضور القلب الذي لا يمكن لأحد أن يراه بل يحس به صاحبه وحده، وبذلك يتوضح لنا معنى الخشوع في الأحاديث السابقة، حيث خشع الصحابة عندما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن أحدهم تنخم في المسجد، فسألهم صلى الله عليه وسلم أيهم يحب أن يعرض الله عنه، فطأطئوا رؤوسهم وصمتوا لا يجرؤ أحد منهم على الكلام، وقد أخجلهم أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم نخامة أحدهم على أرض المسجد. وكذلك نفهم قول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أنه دخلها خافضاً رأسه متخشعاً تواضعاً لله الذي نصره حتى كاد رأسه يلامس رحله، وهكذا الخشوع في الصلاة يتحقق بالتأدب في حضرة الخالق تأدباً يقترب من التذلل والمسكنة وإن كان المؤمنون عباد مكرمون من خالقهم الذي كرم بني آدم ولم يذلهم، إلا العصاة المستكبرين منهم، الذين قال تعالى عنهم عندما يعرضون على النار : "وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ" الشورى45.
والصلاة التي تؤدى حق الأداء صلاة يجتمع فيها الخشوع وحضور القلب ما استطاع الإنسان، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والمؤمن قد يعجز عن حضور قلبه في الصلاة لأسباب مرضية كالقلق النفسي والوسواس القهري، حيث لا يستطيع الإنسان التوقف عن حديث النفس المتركز حول الخوف والقلق قلقاً أكثر مما يلزم، ويكون انشغالاً للبال مزعجاً لصاحبه ويحرمه القدرة على التركيز والانتباه والشعور بالطمأنينة. أما عندما يتعالج مريض القلق من قلقه فإنه يستعيد قدرته عل إيقاف حديث نفسه في الصلاة واستحضار قلبه فيها. صحيح أن القلق يضعف القدرة على حضور القلب في الصلاة لكنه لا يؤثر أبداً على قدرة المؤمن على الخشوع فيها ليستحق أجر الخاشعين وتتنزل عليه رحمة رب العالمين. قال تعالى: "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)" البقرة 45-46، فالخشوع لرب العالمين في الصلاة وليد الإيمان بلقاء الله والعودة إليه والرغبة بثوابه والخوف من عقابه وليس الخشوع رياضة نفسية مثل حضور القلب بل هو تأدب المؤمن مع خالقه العظيم حين يكون حاضراً بين يديه يناجيه.
3 - التسبيح
إنّ قدرة الإنسان على تجاوز المكان والزمان الراهنين، وعلى استباق الأحداث أو استرجاعها بأفكاره وخياله نعمة من الله، وقوة زوده الله بها، لكن التفكير بما وراء ما تدركه الحواس (الآن) و(هنا)، أي: ما سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم (حديث النفس) يتم على حساب سكينة النفس وطمأنينتها في كثير من الأحيان، ويتم على حساب استمتاع النفس بالجمال المحيط بها في كل الأحيان. ومع تعقد الحياة في هذا العصر وزيادة الضغوط فيها على النفس الإنسانية، زاد شعور الإنسان بالحاجة إلى العودة إلى حياة لا يحدّث فيها نفسه كثيراً، بل يعيش لحظته الراهنة في نطاق ما تدركه حواسه، دون أن يسرح به الفكر والخيال في ذكريات الماضي، أو هموم المستقبل.
ومع تأكيد الدراسات الحديثة على العلاقة القوية بين الضغوط النفسية والأمراض المختلفة، وعلى العلاقة القوية بين سكينة النفس وخلوها من الهموم وعافيتها من الأمراض النفسية والبدنية، ومع زيادة وعي الإنسان إلى انه أقلّ سعادة بكثير مما يُتوقع له، وهو يملك كل ما أنجزته الحضارة الحديثة من أسباب الراحة والرفاهية والتحرر من الشقاء المضني في سبيل لقمة العيش، مع هذا كله كان لابُدَ للإنسان من أن يبحث عن وسيلة يستعيد بها سكينة نفسه ولو لدقائق معدودات كل يوم.
وولى إنسان الحضارة الغربية وجهه شطر المشرق، لكنه ألقى ببصره إلى ما وراء الإسلام، إلى حيث البوذية والهندوسية، ومن هناك استورد (اليوغا) و(التأمل التجاوزي). وكلاهما يهدفان إلى أن يمضي الإنسان فترة من الزمن ولو دقائق معدودات (لا يفكر)، أي: (لا يحدّث نفسه)، لأنه لا يمكن للإنسان أن يتوقف عن التفكير، لكنه إن توقف عن حديث النفس فكّر بما أمامه دون أن يشعر أنه يفكر، إنه يفكر بشكل تلقائي مثلما ينظر إلى الأشياء، أو يصغي إلى الأصوات.. وتعلم من اليوغا أن يجلس بلا حراك مركّزاً بصره في نقطة ثابتة، مردداً كلمة إمّا أنها لا معنى لها، أو أنها كلمة سنسكريتية ذات معنى ديني في الهندوسية، أو قد لا تعني إلا (الكل) أو (واحد) وما شابه.وهذه الكلمات التي تستخدم أثناء جلسات اليوغا، ويتم تردادها باللسان أو بالقلب فقط تسمى (مانترا Mantra).
لكن المؤمن في غنى عن هذا كله. إنه لا يحتاج إلى أن يستعير (مانترا) أحد من العالمين.. إنه ينظر حوله فيرى بديع صنع الله، وآثار قدرته وعظمته، فينطلق لسانه وقلبه ليقول: (سبحان الله).. إنه يجمع في كلمة (سبحان الله) المعاني الكثيرة الكثيرة، ولا يهرب إلى (مانترا) لا معنى لها حتى يريح ذهنه المكدود بحديث النفس المتعب المستمر.
إنه عندما يقول سبحان الله فإنه يقول: ما أعظم الله! وما أقدر الله! وما أحكم الله! وما أكرم الله! وما أقوى االله! وما أعلم الله! وما ألطف الله! وما.. وما.. تجتمع كلها في كلمة سبحان الله، كأنه فيلسوف يقول: (ما أكمل الله).. يقولها ويدرك بعقله الكبير ما يعنيه الكمال المطلق، وما يحتويه من كمالات متنوعة، إنه ينزّه الله عن أيّ عيب، أو نقص، ويبدي إعجابه البالغ بهذا الخالق صاحب الكمال المطلق.
إنه يسبّحه ويردد بقلبه ولسانه (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فيمتلىء قلبه بمشاعر الإعجاب والحمد والتنزيه لله سواء كان فيلسوفاً عبقرياً أو أمياً لم يفكّ حروف كلمة واحدة في حياته.
ويسحب المؤمن نفسه من شواغل الحياة لفترة من الزمان يسبّح فيها الله بقلبه ولسانه في آن واحد، ويذكره بعبارات متنوعة تعلمها من رسوله صلى الله عليه وسلم، فيزداد إيمانا وسكينة وحضور قلب وانتباه، ويتحرر من حديث النفس الذي يغيّبه عما تراه عيناه، وتسمعه أذناه، وتحسّه حواسه الأخرى من أوجه الجمال في هذا الكون البديع. إن للتسبيح مكانا هاما في الصلاة، إنه في الركوع وفي السجود. والتسبيح في الصلاة مع الخشوع، ومع حضور القلب يكون له أعظم الأثر في النفس المؤمنة، فسبحان الذي أمرنا بعبادات تعمّق الإيمان في نفوسنا، وترسخه، وتمزجه بها مزجاً؛ بحيث يصبح مكوّناً أصيلا من مكوناتها، فلا يكون فيه تكلّف، ولا إكراه للنفس، بل يتجاوب مع الفطرة السوية التي فطرت عليها.
من كتاب سكينة الإيمان ط2
تأليف الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في مركز
كيور كير في جدة في السعودية
ويتبع: أثر الصلاة في النفس المؤمنة3
واقرأ أيضا:
الهُوال_2 PTSD: / أثر الصوم في نفس المؤمن 5