لماذا تعوّدنا أن يكون حديث العشق والمحبين غير حديث الأزواج؟! الأصل أن يكون العشق حلالاً بين زوجين، أو أن يفضي عشق القلب للسعي؛ كي يتحقّق القرب من الحبيب في الحلال.
بمناسبة العيد.. نتحدث هذه المرة عن أحد مظاهر التعبير عن العشق الحلال في ظل السكن والمودة والرحمة. واخترنا أن نتحدث عن لغة الزهور، واخترت لكم من كتاب: "سيم العشق والعشاق" للكاتب/ أحمد حسن الطماوي.
الزهور سيم العشاق:
لعبت الزهور دورًا كبيرًا في حياة العشاق، فحملت خطراتهم وأسرارهم، ونقلت أخبارهم وأفكارهم واتخذوها سيمًا (علامة) فيما بينهم، وقد كانت الزهور من بين سيم المحبين أو علامتهم التي يتعارفون بواسطتها.
اقترن الحب منذ عصور قديمة بمظاهر الطبيعة الجميلة، وصارت المرأة في عرف العشاق كالروضة الزاهية، أو كالزهرة اليانعة، وكم شبه الشعراء الخدود بالورود، وتثنّى القدود بتمايل الغصون، ورفيف الشعر برفيف أوراق الزهر، وعمر السعادة في العشق بقصر حياة الورد.. إلى آخر ما يعرف قرَّاء الغزل من شعر المغرمين، فلا جرم أن اقترنت المرأة بالزهور والنور، والرقة والجمال، وشعر حسان بن ثابت – رضي الله عنه - "بانت سعاد" الذي ألقاه بين يدي الرسول – صلى الله عليه وسلم - فخلع عليه بردته معروف مشهور.
ولم يكتف العشاق بذلك، وإنما جعلوا الزهرة رسولاً إلى المرأة لتعرف مراد محبها منها، فصارت رمزًا أو لغة أو لحنًا، تنقل أذواقهم وأشواقهم، وتظل هكذا في رحلة ذهاب وإياب لنقل المشاعر، والتعبير عن المقاصد والخواطر.
ولكن لماذا توسع العشاق في استخدام النبات للتعبير عن الطوايا والنيات، هل لجمال فيه فقط؟!، هناك آراء وحكايات منها: أن النبات يعشق كالإنسان، ويتألم ويتبرم ويصل ويفرح مثل الآدميين. ومن هذا في الأثر قصص لطيفة منها قصة عن نخلة كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتردد عليها، فلما غاب عنها كان يسمع لها أنينًا، فلما وضع عليها يده سكنت، وغيرها من الروايات التي تتحدث عن النبات ككائن يشعر ويحس.
لغة الزهور:
وسيم العشَّاق مع الزهر غالبًا ما يتمثل في زهرة أو ثمرة، أو فرع شجرة، أو جذع نبات، يحمله العاشق شحنة عاطفية دافئة، ويبعث به إلى من يهوى فيعالج نفسه المنطوية، وينمي شوقه الفاتر، ويخرج القلب مع تلقي الرسالة من عذاباته، ويسترسل مع إشراقة الزهور، وينساب منتشيًا ولو إلى حين.
وسيم الزهر تعبر عن مفهوم ذاتي للحب أو لحالة فيه، وليس عن مفهوم موضوعي بحت، ذلك أن المحب يسقط على زهرة معينة معنى ما، أو يحدد لها لغة رمزية تقولها صمتًا، وقد يرى غيره في هذه الزهرة عينها شيئًا مختلفًا، بل تفاوتت رمزية الزهور من ثقافة لأخرى، بل داخل الثقافة الواحدة من منطقة لأخرى ومن زمن لآخر.
ونحن إذا تلفتنا إلى أحاسيس العشاق، وأملينا النظر في سيمهم ألفينا لغة الزهور ملأى بصور التعبير المختلفة التي تمثل معاني الهوى، وغليان العواطف، وعدم استقرارها على حال، كما تعبر عن فرحة المغرمين بالرسائل التي تبشر بقرب المزار ونعيم السعادة فيه، فالزهرة في سيم العشاق تبكي عنهم، وتعلن الأسى، وتظهر الحرقة والجوى، وتبرد القلوب، أو تزيدها حرارة وتوهجًا، وتُعرب عند أهل المجون والفجور عن حالهم، أو تنطق بالطهارة والعفاف عند أصحابهما، أو تحمل معاني الغيرة والشك.
ولا ريب أن نفوس العشاق ليست من رتبة واحدة، أو نبع واحد، فمنهم من يطلب الخطر والمغامرة والشهوة، ومنهم من يتطلع إلى حياة جياشة مع أفئدة حساسة ومُهَج لَهْفى، ومن يهفو إلى فردوس نقي تتعانق فيه الأرواح، ومن يدلف إلى ممالك الخيال وعوالم الأطياف تُغْرِه الأحلام.
وسيم العشق أو لغة الزهور حافلة بكل هذا، معبرة عن مختلف الميول والرغبات، وتتمثل فيها ألوان من الصبابات، ففي مجال الغزل والتشبيب نجد العاشق يقدم لمن يهوى "الزنبق الملون"، ليقول له: "عيونك بديعة" أو "الحناء" أي "صفاتك حسنة". وفي مجال نشوة الحب والسعادة فيه، وإظهار الأشواق، وتجسيم الإحساسات، وإعلان الطرب، والاهتزاز من الفرح يبعث المحب "بزنبق الحقل" أي "حياتي لك"، وفي مجال الوفاء، وصدق الوداد، ودوام الذكر، وعدم التحول، والقدرة على تحمل الصعاب مهما تكاثرت، يرسل العاشق زهر "الديسم" ويعني: حبي لك لا يعتريه الذبول، أو فرع من شجرة خروب خضراء أي وداد وحب يدومان لبعد القبر.
ولأن العاشق يخشى الرقباء والعذَّال؛ فإنه يكثر من رسائل التحذير حتى لا يشهر به، وتصير سيرته مضغة في أفواه السُمَّار، ويستخدم زهورًا لتحمل المرسل إليه على الاحتياط ومن هذا "زهور الحناء" أي إياك أن تفعل، أو "حشيشة الدينار" وتعني أن القوم يراقبوننا، أو "الخطمية الشمالية" والمراد منها أن ينظر المحب في الأمر قبل الوقوع به، وجوز الطيب: "اجتماع منتظر".
ويحمل الزهور ما يدور بخلد العشاق حتى الظن والاتهام، والمحب بطبيعته حساس مرتاب؛ ومن ثم اتخذ المغرمون من الزهور ما يعبر عن هذه الحالة، فإذا أرسل واحد لمن يهوى "بابيروس" فكأنه يقول له: قلبك ميال لكل من تنظر إليه، أو "بخور مريم" أي أن هناك ريبة تداخله، وقد يتنامى هذا الشعور في طواياه فيرسل بزهرة "البطم" ليتهم حبيبة بأن قلبه يخلو من الحب. وفي لغة الزهر ما يعرب عن نفور العاشق من المسرات الخطرة والسعادة الهمجية، والشراهة، والتوحش والشراسة وفي هذا تستخدم زهور البنفسج الأصفر.
وقد يطلقون على النبات الواحد وأنواعه وأجزائه عدة ملاحن لتكون أوسع تعبيرًا، وأدق دلالة على ما في نفوسهم، فالزنبق الأبيض يعني "حسن طبيعي"، والزنبق الأحمر يعني احتراق العاشق في العشق، والزنبق الأصفر يعني الكذب والغش.
ومن الزهور والنباتات التي تقترب من دلالاتها "زهرة ندى الشمس"، وتعني: أنتظرك في الصباح الباكر. وزهرة "ورود عرائس" وتعنى المحبة السعيدة، والسيم هنا يشير إلى الحالة فبين العرس والمحبة السعيدة رابطة وثيقة، وزهرة الفل رمز اللطف والظرف، والسيم هنا وصف للمحبوب، ولا يمكن أن نفرق بين الفل واللطف، وثمر "الفلفل" يعني أحرقت قلبي، وفي هذه السيم صلة بين الفلفل الحراق، واحتراق القلب بالحب، وشجر "الصبر" ويعني الحزن، وفي هذا السيم ملاءمة بين الصبر والحزن، لأن الإنسان يصبر على مكروه وهو في حالة حزن وألم، ونبات الشوك رمز للصعوبة والخشونة، وكلها من المعاني الملائمة للشوك، وهناك ألفاظ أخرى موافقة إلى حد كبير للمعاني التي خلعوها عليها.
ومن هنا يمكن القول: إن قِسمًا من سيمهم مستلهم من هذه الزهور والنباتات التي يتراسل بها العشاق، وعلى من يتسلم هذه الرسائل النباتية أن يفهم المراد ويعرف السيم، ولا يعني ما أوردناه أن شخصًا آخر لو رأى رسولاً بين حبيبين يحمل شيئاً يفهم منه ما شرحناه، أنه سيم بينهما يفهمه المرسل منه والمرسل إليه، ويخفى على حامله ومشاهده، ولكن ما نود قوله إن ما ذكرناه هنا من زهور العشاق ومعانيه مستساغ ومفهوم لما بين الزهرة والدلالة من تقارب، والظاهر أنه بمرور الزمن أضفى المحبون هذه المعاني الغربية على الزهور والنباتات؛ لتمثيل رواياتهم الغرامية في الحياة دون معرفة أسرارهم.
فالنرجس مثلاً، يمثل الاعتبار والوقار، ومما ينسب إلى كسرى: "إني لأستحي أن أغازل من أحب بمجلس فيه النرجس"، وربما يرجع هذا إلى حياء النرجس وعدم تبرجه كما يقول ابن لؤلؤ: "والنرجس الغض اعتراه الحيا فغض طرفا فيه أسقام" أو كما يقول غيره: "يغض من فرط الحياء طرفه ما أحسن الغض من النرجس" لذلك فهو رمز الاعتبار، ولكن ذلك إحساس شعراء دون شعراء، فغيرهم يرى أن النرجس فتَّان يزهو بفتنته، ويتيه ويتحدى غيره، ومن هذا قول أمين الدين جوبان:
فحدق النرجس يزهو به
بل أنت بالطول تحامقت يا
فقال غصن البان من تيهه وقال حقًّا. قلت ذا أو مزاح
مقصوف عمر بالدعاوى القباح
ما هذه إلا عيون وقاح
فها هو النرجس على وقار وحياء عند قوم، وعند غيرهم يزهو بحسنه، ويختال بجماله، ويبرز من خدره، ويتصدى لغيره من الزهور التي تنافسه ويشتجر معها.
ومن هنا يمكن القول إن هذه المعاني الملتصقة بالزهور ليست إلا إسقاطات شعراء أو أناس عاديين أو عشاق يعبرون عن ذواتهم وأذواقهم وفقًا لأحوالهم النفسية، وطبقًا لأمزجتهم الشخصية، وما إطلاق المعاني على كثير من الزهور إلا لون من ألوان ممارسة الإنسان لطقوسه مع الطبيعة.
وهناك زهور ارتبطت بمعانٍ ودلالات، وجاءت الأقوال فيها متقاربة أو متشابهة مع ما أطلقه أهل العشق عليها، ومن هذه الزهور "شقائق النعمان" التي ترمز للحسن البراق في سيم العشاق. فإذا أهدى معجب إلى غيره "شقيقًا" فكأنه يقول له محاسنك براقة، وهذا السيم عند المحبين نجد مثيلاً له عند الشعراء الذين تغزلوا في شقائق النعمان. فالعلاء بن أيبك الدمشقي يقول عنها إنها ".. ذات توقد..".
ويصفه ظافر الحداد بقوله:
وللشقائق جمر في جوانبه بقية الفحم لم يستره باللهب
فها هي أقوال كثيرة تؤكد على أن الشقيق جانب متعدد ملتهب يروق سناؤه، وكل هذا لا يخرج عن تمثيله للحسن البارق أو السناء اللامع كناية عن الجمال الأخاذ. ومع أن كل هذه الأوصاف تتفق تمامًا مع رمزه في سيم العشق الذي أشرنا إليه، فإن بعض الشعراء المحبين لا يرغبون في أن يهدى إليهم من أحبابهم ذلك لأنهم يتشاءمون منه لأن نصف اسمه "شقاء" على حد تعبير أحدهم:
لا يحب الشقائقا
إن نصف اسمه شقاء
كل من كان عاشقا
إذا فهمت ناطقا
ولكن يبقى التوافق بين معنى المحبين وأوصاف الشقيق وهو الحسن البراق. وزهر الرمان أو الجلنار كما يذكره بعض الشعراء (والجلنار لفظ فارسي) من الزهور الأخرى التي وافقت أوصافها المعنى الذي قصده المحبون في سيمهم وعند الشعراء في وصفهم هذه الزهرة الجميلة ما يداني ذلك أو يقترب منه كثيرًا، فأبو حنيفة الدينوري يصف نوار الرمان الأصفر الذي يعلوه ورق أحمر مشرق بأنه أرق بشرة من الحرير، ويقول عنه ابن وكيع التنيسي إنه بهي ضرامه يتوقد، ويميد في غصون خضراء. ومما هو قريب جدًا من الواقع ما نطالعه عن معشوقة أهدت إلى عاشقها تفاحة فأنشد:
تفاحة من عند تفاحة
أحبب بها تفاحة أشبهت
قريبة العهد بكفيها
حمرتها حمرة خديها
وإذا كان في إهداء التفاحة ودّ ظاهر، فإن لم يخف على العاشق اختيار معشوقته التفاحة لتهديها إليه لما في التفاح من حمرة تشبه حمرة الخدود.
أما إذا قال شاعر:
أهدت إليه بنفسجا يسليه
فارتاح بعد صبابة وكآبة
تنبيه أن بنفسها تفديه
ورجا لحسن الظن أن تدنيه
فإن هذا لا يمثل الواقع في شيء، وقول العاشق إن البنفسج "رسول اليمن والإقبال، أو البشير بتحقيق الآمال"، فإنه من باب حسن الظن كما قال الشاعر وكما يذهب المغرمون، وليس من باب تمثيل لحقيقة في عمومها، فالبنفسج في ذاته لا يحمل في طيات أوراقه هذا المعين، ولا يعرف عنه هذا إلا بالاتفاق والممارسة.
ولا نعيب على العاشقين الإغراب والغموض في سيمهم، من فإن السيم ليس من كنهه أو من غاياته أن يمثل الواقع أو يأخذ دلالاته منه، وليس في أصله أن يكون واضحًا، فهو موضوع للتعمية والتمويه ليخفى على غير المقصودين بالخطاب.
واقرأ أيضا:
ملفات زواجية