كنت ورفاقي الصغار نفرح برمضان لأسباب متعددة، ولكن كان أهمها بالنسبة لنا هو أن العفاريت تكون مقيدة في هذا الشهر، فكنا نرتاد كل الأماكن ليلا ونهارا بلا خوف فنحن على يقين من غياب العفاريت، وكنا نتمنى أن تكون السنة كلها رمضان لهذا السبب بالذات، حيث كانت قصص العفاريت وحكايات الشياطين تملأ عقولنا في هذا الوقت وتنغص علينا حياتنا، فإذا انتهى رمضان عادت المخاوف والمحاذير مرة أخرى تملأ عقولنا وقلوبنا الصغيرة، وحين كبرت وتخلصت من موضوع العفاريت هذا لم أنج من شعور بالرتابة والسآمة والملل ينتابني في كل عام في الفترة التي تسبق رمضان، وأشعر أن ثمة ركامًا من الأحزان والمخاوف والقلق يملأ جنبات نفسي، فأتذكر أن رمضان قد اقترب، فهو بالنسبة لي موسم علاجي تتطهر فيه نفسي من كل ما علق بها خلال العام (وهو كثير)، وموسم بهجة لا أعرف سببها بالتحديد فقد يكون تراكم خبرات طفولية سعيدة عشتها في رمضان فارتبطت به زمانا وطقوسا وروحا.
ولهذا ولغيره تتوق نفسي إلى اقتراب رمضان وقدومه كي أستريح وتهدأ جوانحي وتتجدد حياتي. فعلى الرغم من امتلاء نهار وليالي رمضان بالتغيرات والأحداث فإننا نشعر أننا مقبلون على استراحة نفسية نتخفف فيها من أعبائنا وهمومنا وأحزاننا. وبهذا المعنى يصبح رمضان جائزة سنوية، وشيئا منتظرا وتجديدا في حياتنا يذهب عنها الرتابة والنمطية والملل.
والنفس تستشعر هذا بشكل أكثر وضوحًا حين يهل شهر رجب، ثم يزداد الشعور بالشوق أكثر حين يهل شهر شعبان، وقد يصاحب هذا الشوق نوع من القلق الذي نستشعره ونحن في انتظار حبيب فتدور في نفوسنا تساؤلات عن طبيعة القدوم وظروفه، وعن استعدادنا لذلك من عدمه، وعن قدرتنا على الاستقبال، وقدرتنا على تحمل التغيير الحادث في حياتنا بقدوم هذا الحبيب، وهذه الدرجة من القلق لا تضيع فرحة الانتظار بل توقظ الحواس للاستقبال، وتزيل بلادة الحياة الرتيبة الجامدة المتكلسة تأهبا لحركة جديدة وحياة متغيرة.
أفراح رمضان
وتتبدى في أشياء كثيرة منها:
استطلاع الهلال: قد يبدو منطقيا أن حساب بداية رمضان بالوسائل الفلكية أكثر دقة وانضباطا، ولكنه من جانب آخر يحرمنا من أشياء أحسبها مهمة من الناحية النفسية والروحية، فانتظار رؤية الهلال بالعين المجردة مع احتمالات ظهوره أو عدم ظهوره يعطي فرصة للتطلع العام نحو السماء، وإعادة الارتباط بها بعد طول نسيان وطول انغماس في النظر إلى الأرض، كما أن لمفاجأة الرؤية بهجتها وطعمها وحلاوتها. وأتمنى أن تنتشر بين الناس عادة الصعود إلى أسطح منازلهم وإلى المرتفعات والجبال لرؤية الهلال بأنفسهم، وهو أمر متاح لكل الناس لو صدقت نيتهم وعلت همتهم، وألا يكتفوا بمعرفة بداية رمضان فلكيا أو تليفزيونيا. وربما لهذا السبب (وغيره) ما زالت بعض الدول تصر على الرؤية بالعين المجردة للهلال وتشجع مواطنيها على محاولة الرؤية وتخصص جوائز لمن يرى الهلال ويدل على وجوده.
واستطلاع الهلال وانتظاره بهذا الشوق والترقب هو تجديد للإحساس بالزمان، وتنشيط للوعي به، ولا يوجد مثل رمضان شهر يستشعر فيه الناس زمانهم بشكل واضح فيعرفون الوقت واليوم بدقة تفوق أي وقت آخر، وهلال رمضان ليس فقط إشراقة في السماء، ولكنه إشراقة في الروح، وهو نور يشق عتمة الضمير، فرحة تغيير روتين الحياة اليومية الذي اعتاده الناس وسئموا منه طوال العام.
فرحة في الدنيا وأخرى في الآخرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان، فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه". فثمة فرحة كبيرة عند الجلوس على الإفطار بعد طول جوع وعطش وقد التأم شمل الأسرة، وفرحة الاستبشار بجزاء الصوم والذي جعله الله مفاجأة سارة للمؤمن يوم القيامة حيث ورد في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" (متفق عليه)، وورد في الحديث النبوي: "إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم" (متفق عليه). ويقول وكيع في تفسير قوله تعالى: "كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية" هي أيام الصيام.
والفرحة ليست قاصرة على المؤمن الصائم فقط، فالله سبحانه وتعالى فرح بعبده لدرجة أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وهذه درجة عالية من الحب تجعل المكروه في المحبوب جميلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (متفق عليه). وينقي جو الكون من شوائب الشر لتعم البهجة كل الكائنات حيث تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين" (متفق عليه).
تحرر فانطلاق
يتميز رمضان من الناحية النفسية بتحريك الثبات المتجمد والمتكلس، وزلزلة السكون البليد الملتصق بالطين، على أمل إطلاق الروح لتمضي في طريقها إلى العالم العلوي لتقف في حضرة الإله وتعود بقبس من نوره تستعين به على ظلمات الأرض والحياة، وتستشعر في ذلك سعادة لم تتذوقها الحواس من قبل، سعادة لا يكدرها خوف أو قلق أو ألم أو خزي أو عار أو إحساس بالذنب، نوع من السعادة المطلقة التي لا تتحصل إلا في مثل هذه الظروف. ويتحقق هذا من خلال تغيير شامل في عادات الأكل والشرب والنوم واليقظة ونمط العلاقات الاجتماعية بشكل يكسر المألوف ويخرج على المعتاد.
هاهنا يتوقف العقل عند منتهاه ويواصل القلب الرحلة في سماوات اليقين والوجدانات والوجد ثم يصل إلى منتهاه ويسلم القياد للروح التي تنطلق فوق السماوات سابحة في نور لا تحده حدود، متجاوزة آفاق كل اللغات، لتتلقى الحكمة الإلهية والنور الرباني بلا وسائط أو حجاج. هذه الإشراقة هي وحدها – وليس العقل – التي تحرك الجوارح لتقوم الليل وتهجر النوم، وتستيقظ في فجر الشتاء حين تستشعر رعشة اليقين تدب في أوصال الجسد المتعب فتحييه لينهض فيستقبل نور الإيمان الذي يسبق نور الصباح. هنا تكون الشعائر عملا إيمانيا لا مجرد عادات اجتماعية أو تدريبات رياضية يسعى صاحبها إلى مكانة في أهله وناسه أو إلى راحة في بدنه.
ضبط وطمأنينة
قد تكون سيارتك جديدة وقوية وفائقة السرعة لكنك لا تطمئن إلى قيادتها إلا في وجود نظام الفرامل (الكابح) الذي يمكنك من التحكم في سرعتها وقت اللزوم، والنفس البشرية تموج بالرغبات والشهوات التي تثير المخاوف والقلق من انطلاقها أو انفلاتها، ولا تتحقق الطمأنينة النفسية إلا في وجود نظام ضبط مناسب. والشهوات تقوى بالطعام والشراب وتهدأ مع الصيام، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع"، وقال أيضا لعائشة رضي الله عنها: "داومي قرع باب الجنة، قالت بماذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: بالجوع".
والصائم قد يندفع في الغضب أحيانا بسبب قلة نومه أو عطشه أو جوعه أو حرمانه من كوب الشاي أو فنجان القهوة أو السيجارة أو بسبب الزحام الشديد أو الحر الخانق، ولكنه سرعان ما يتذكر أو يذكره أحد فيقول "اللهم إني صائم"؛ فتصحو قوة الضبط مرة أخرى في داخله تطمئنه.
إذن فالصيام ضبط صحي لثورة الشهوات ووساوس الشيطان، والنتيجة الطبيعية له هي انخفاض حدة الصراع الداخلي بين الشهوات الثائرة وبين الضمير مما يؤدي إلى هدوء النفس وسكينتها.
ويتبع: الصيام.. أوله في النفس وآخره عند الله2
واقرأ أيضا:
إعادة شحن الكراهية / التحليل النفسي لشخصية نتنياهو -دكتاتور إسرائيل-4