جلست منذ فترة قصيرة مع شخص التقيته للمرة الأولى في إحدى المناسبات، وما إن بدأنا الحديث حتى انطلق يخبرني عن كل شيء في حياته، هواياته في تربية طيور الزينة، شغفه بجمع الطوابع القديمة، رحلاته لاستكشاف الأماكن الأثرية، بل وحتى بعض التفاصيل الدقيقة عن مشاريعه المستقبلية، التي لا تمت لاهتماماتي بصلة.
كل ما فعلته خلال الساعة، التي قضيناها معاً، هو أنني استمعت، أومأت برأسي في المواضع المناسبة، وقلت بعض العبارات البسيطة، مثل «فعلاً» و«مثير للاهتمام» و«لم أكن أعرف ذلك»، لم أقم بالحديث عن نفسي، ولم أشاركه هواياتي، ولم أطرح آرائي في أي موضوع تقريبًا، كنت مجرد مستمع صامت يبدي الاهتمام لما يقوله.
المفاجأة جاءت بعد أيام قليلة، عندما علمت أنه يصفني للآخرين بأنني «متحدّث رائع» و«شخص مثقف ومطلع» و«محاور ممتاز»، وأنه استمتع جداً بالحديث معي، ويتطلع لمقابلتي مرة أخرى، كل هذا وأنا لم أنطق بأكثر من عشر جمل طوال اللقاء!
هذا الموقف جعلني أتأمل في طبيعة التواصل البشري، وما نبحث عنه حقاً في أحاديثنا مع الآخرين، إذ إن معظم الناس لا يريدون محاوراً بقدر ما يريدون مستمعاً، ولا يبحثون عمن يجادلهم أو يناقشهم، بل عمن يمنحهم شيئاً نادراً في هذا العالم المزدحم بالضجيج، الانتباه الكامل.
في عصر يتحدّث فيه الجميع، ولا يستمع فيه أحد، يصبح الاستماع الحقيقي مهارة نادرة وقيّمة للغاية، فعندما تمنح شخصاً انتباهك الكامل، وتنظر في عينيه أثناء حديثه، وتتفاعل مع كلامه بإيماءات الرأس والتعبيرات المناسبة، فإنك تمنحه شعوراً بالأهمية والتقدير قلما يجده في مكان آخر.
الإنسان بطبيعته يحب أن يتحدّث عن نفسه، عن اهتماماته، وعن تجاربه وآرائه، وحين يجد من يستمع إليه باهتمام حقيقي من دون مقاطعة أو إصدار أحكام أو محاولة تحويل الحديث لموضوع آخر، يشعر بارتياح نفسي عميق، ويربط هذا الشعور الإيجابي بالشخص الذي استمع إليه.
لذلك، في نهاية الحديث، لا يتذكّر هذا الشخص ما قاله هو، بل يتذكر كيف شعر أثناء قوله، يتذكّر أنه شعر بالاهتمام والتقدير والأهمية، ويعزو هذا الشعور الجميل إلى «مهارات التحدّث الرائعة» لمن استمع إليه، حتى لو لم ينطق هذا المستمع بكلمة واحدة مهمة!
هذا لا يعني أن الحوار الحقيقي غير مهم، أو أن التبادل الفكري ليس له قيمة، بل يعني أن الاستماع مهارة لا تقل أهمية عن الحديث، وأحياناً تكون أكثر تأثيراً وفاعلية، خاصة مع الأشخاص الذين يحتاجون لمن يسمعهم أكثر من حاجتهم لمن يحدثهم، وعليه، فعندما تجد نفسك مع شخص يحب الحديث عن نفسه، جرّب أن تمنحه هدية الاستماع الحقيقي، قد تكتشف أن الصمت أحياناً أبلغ من الكلام، وأن أفضل المحادثات قد تكون تلك التي لا تتحدث فيها كثيراً!
واقرأ أيضًا:
حين نُشبه من كنا نهرب منهم! / أصدقاء الثالثة.. فجراً!