يعتبر مفهومُ الاستبصار واحدا من المفاهيم المرتبطةِ بالسؤال القديم الجديد عن كونِ مريض الوسواس القهري عصابيا أم ذهانيًّا؟ وَيُقْصَـدُ بالاستبصار Insight -أو البصيرة كما يترجمها البعض- في الطب النفسي كونُ المريض باضطرابٍ نفسي على درايةٍ بأنَّ لديه من المشاعر أو الأفكار أو التصرفات ما يجعلهُ في حاجةٍ إلى مساعدةٍ من الطبيب النفسي أو على الأقل من من يقومُ مقامَ الطبيب النفسي في مجتمعهِ. فإذا افترضنا أن الناس في مجتمعٍ ما يعرفون من هوَ الطبيبُ النفسيُّ وما طبيعةُ عمله فإن مريض اضطراب الاكتئاب الجسيم مثلاً يعرفُ في أغلب الأحيان أن لديه من المشاعر الاكتئابية ما يستدعي مساعدةَ الطبيب النفسي وهوَ لذلك يلجأُ إليه ويطلبُ منهُ المساعدةَ ومن الممكنِ أن يكونَ مريضُ الاكتئاب الجسيم في الحالات التي تصلُّ حد الذهان على غير درايةٍ بأن السوداويةَ التي وصلت إليها أفكارهُ هيَ بسبب الاكتئاب فهوَ هنا يعرفُ أن مشاعرهُ الاكتئابيةِ غير طبيعية لكنهُ لا يعرفُ أن فكرتهُ أو اعتقادَهُ بأن أحدًا لا يستطيعُ مساعدتهُ هيَ فكرةٌ ضلاليةٌ بسبب الاكتئاب الذي يعانيه ومعنى ذلك أن مرضى الاكتئاب الجسيم يملكونَ دائمًا الاستبصار بطبيعة مرضهم النفسي إلا في الحالات الذهانية من الاكتئاب، فإذا أخذنا مرضى اضطرابات القلق على اختلاف أنواعها فإن المريضَ هنا يعرفُ أنهُ مريضٌ بمعنى أنهُ قلقٌ ولديه شعورٌ بالتوتر أكثرَ من الحدود الطبيعية وهو يدركُ أيضًا أن الخوفَ الذي يعيشُهُ غير طبيعيٍّ وأن عدم قدرته على الاسترخاء قد تعدت الطبيعيَّ بالنسبة له ويعرفُ أيضًا أن الأفكارَ التي ترتبت على خوفه وعدم اطمئنانه الدائمين هيَ في الغالب أفكارٌ خاطئةٌ وهكذا يتمتعُ مريضُ القلق بكمٍّ كبير من الاستبصار بحالته.
وأما مريضُ اضطراب الوسواس القهري والذي مازال اضطرابهُ موضوعًا تحتَ عباءةِ اضطرابات القلق فإن أمرَهُ مختلفٌ إلى حد كبير، فبالرغم من أن الفكرةَ التقليديةَ عن هذا المريض كانتْ أنهُ من أكثرِ المرضى النفسيين بصيرةً بحالته وأكثرهم عذابًا بسبب ذلك "خاصةً في الفترة قبل العقدين الأخيرين أيامَ لم يكنْ لدى الطبيب النفسي ما يصِفُهُ من علاج حقيقي لهذا المريض"، وأن هذا المريضَ المسكينَ يتعذبُ لأنهُ يعرفُ أن أفكارَهُ وأفعالهُ القهريةَ إنما هيَ انحرافٌ عن الطبيعي وهوَ يقاومها بكلِّ ما أوتيَ من قوةٍ لكنهُ يفشلُ في المحصلةِ النهائية من التوقف عن التفكير أو عن ممارسة الأفعال القهرية التي يرفضها.
وما يزالُ المريضُ بخيرٍ مادام يقاومُ لأن توقفهُ عن المقاومة كان يعني أنهُ بدأ يفقدُ استبصارهُ وأنهُ كما ناقشنا سابقًا في مفهوميِّ "اضطراب الوسواس القهري يؤدي إلى الجنون، والوسواس القهري نوعٌ من الجنون" قد بدأ السير على طريقٍ نهايتهُ الفصام، بالرغم من أن هذه هيَ الفكرةُ التقليديةُ إلا أن تطورَ الأفكار وتطورَ أساليب القياس النفسي للاستبصار مع تراكم الملاحظات العلمية في السنوات الأخيرة بدأ يضعُ هذا المفهوم التقليدي موضعَ المناقشة والتفنيد فكانَت النتيجةُ في غير صالحه.
فمن المعروف أن أوائل الأطباء النفسيين ذكروا أن بعض مرضى الوسواس القهري لا يظهرون استبصارًا سوياً تجاهَ أعراضهم المرضية لكن هؤلاء الأطباء ومن تلاهم لم يكونوا مستريحين إلى اعتبار ذلك الصنف من المرضى مرضى وسواس قهري وبعضهم كما قلتُ من قبل كانَ يسميهم حالات ذهان وسواسي أو وسواس ذهاني وبعضهم كان يسميهم حالات وسواس قهري مع أفكارٍ مبالغٍ في تقديرها، وبعد ذلك بفترةٍ من الزمان بدأ بعض الأطباء النفسيين البحثَ في إمكانية تقسيم مرضى الوسواس القهري حسب وجود مقابل عدم وجود الاستبصار، وكيفَ أن بعض المرضى لا يملكونَ الاستبصار منذ بداية اضطرابهم، وليس في المراحل المتأخرة كما كانت الأفكارُ القديمةُ تقول، وبدأت بعد ذلك دراسةُ هذه النقطة بشكلٍ أكثر تنظيمًا خاصةً بعد اكتشاف العقاقير العلاجية وبعدما نبَّـهَ التصنيف الأمريكي الأخير DSM-IV إلى وجودِ مجموعةٍ من مرضى اضطراب الوسواس القهري دونَ بصيرةٍ أو ببصيرةٍ مذبذبةٍ With Poor Insight فأصبحت بعد ذلك عمليةُ تقييم الاستبصار لدى المريض النفسي من الخطوات المهمةِ خلال العمل مع المرضى وخلال إجراء الأبحاث، فأصبحت بصيرةُ المريض تقيم من خلال أسئلةٍ مثل:
1- بماذا تفسرُ أن معظم الناس لا يشاركونكَ فكرتكَ أو رأيكَ هذا ؟
2- هل تتوقع فعلاً عواقبَ سيئة غير القلق إذا لم تلتزم بما تمليه عليك هذه الفكرة ؟
3- هل تحاول مقاومةَ هذه الأفكار أو الأفعال ؟
4- إلى أي مدىً تعتبرُ فكرتك أو أفعالك هذه غريبةً أو شاذةً ؟
وكانت النتائجُ غيرَ المتوقعِ في الكثير من الحالات بحيثُ أصبحَ من المفضَّلِ تقسيم مرضى اضطراب الوسواس القهري على عدةِ متصلات لأبعاد الاستبصار المختلفة فهم ليسوا سواءً كما كانَ يُظَنُّ في الماضي كما أن هناكَ احتمالٌ لوجود علاقةٍ بينَ اضطراب أو نقص الاستبصار عند مريض اضطراب الوسواس القهري وعدم استجابته للعقاقير.
فمن المعروف بالطبع أن نقص الاستبصار يعنى عدم تعاون المريض مع المعالج السلوكي لكنَّ نقص الاستبصار في حالة استخدام العلاج بالم.ا.س SRI أو الم.ا.س.ا SSRI قد يعني الحاجةَ إلى إضافة أدويةٍ تعملُ على ناقل عصبيٍّ آخر غير السيروتونين وهوَ الدوبامين ولذلك استخدمت في العلاج العقاقير المضادةُ للذهان سواءً القديمةُ منها أو الجديدة عندما لا يستجيبُ مريضُ اضطراب الوسواس القهري لمحاولات العلاج بالم.ا.س.ا أو الم.ا.س، ومعنى ذلك أن الاهتمام بتقييم الاستبصار عند مريض اضطراب الوسواس القهري لم يعد متعلقًا بالتفكير في معناهُ من حيث قدرته التفسيرية لسبب الاضطراب بقدر ما أصبحَ متعلقًا بتأثير ذلك على التنبُّؤ باستجابة المريض لدواء معين من عدمها وعلى نوعية الأدوية التي يفضلُ استخدامها مع مريض معين.
ولذلك أجريت دراسةٌ عام 1988 تم فيها تقييم مدى الاستبصار الموجودة لدى عينة من مرضى اضطراب الوسواس القهري وعقد ارتباطٌ بينَ مدى الاستبصار وبين الاستجابة للعقاقير التي كانت في بدايات استخدامها وقتذاك، وفي هذه الدراسة رأى ثلثُ المرضى أن طقوسهم القهرية منطقيةٌ وأن ممارستها تقيهم شرورًا يخافونها، كما أن 12% من المرضى في هذه الدراسة كانوا لا يقاومون أفكارهم التسلطية ولا أفعالهم القهرية، بل إن القائمين على هذه الدراسة لاحظوا أنهُ كلما كانت الفكرةُ التسلطية أو الفعل القهري أكثرَ غرابةً وشذوذًا كلما بدا المريض متمسكًا به!.
ومنَ الملاحظات الطريفة في حالات الوسواس القهري في الأطفال والمراهقين أن الاستبصار يكونُ مذبذبا إلى حد كبير فحينما يكونُ الطفلُ أو المراهقُ في حالة هدوءٍ نسبي لأفكاره التسلطية أو أفعاله القهرية فإنهُ يُـقِـرُّ بلا معقوليتها وسخفها بينما يكونُ في أحيانَ أخرى غير متأكدٍ أو على قدرٍ من الشك فيها ويراها منطقيةً وصحيحةً بل إنهُ يقاومُ أي محاولة لمناقشتها وذلك في الغالب ما يحدثُ عندما يكون واقعًا تحت تأثير إلحاحها عليه، ويحكي لنا الأستاذ الدكتور أحمد عكاشه عن تقرير سمعهُ في المؤتمر العالمي الأول لاضطراب الوسواس القهري الذي انعقد في إيطاليا في سنة 1993.
حيثُ تمت دراسةُ عدة مجموعات من المرضى باضطراب الوسواس القهري في سبع أماكنَ في أمريكا وبينت نتائج هذه الدراسة وجودَ مدى واسع من الاستبصار بين هؤلاء المرضى فقد كانت غالبيتهم العظمى غير متأكدين من عدم منطقية أفكارهم أو أفعالهم القهرية ! بل إنهُ عندما قيمت الاستبصار عبر التاريخ الطولي للحالات تبين أن خمسةً بالمائة من مجموع المرضى متأكدون من صحةِ ومنطقية أفكارهم وأفعالهم القهرية، وأما نتائجُ الدراسة التي قام بها عكاشه على المرضى المصريين وكانت أول دراسةٍ عربية (حسب بحثي) يقيم فيها بعد الاستبصار في مرضى اضطراب الوسواس القهري فقد بينت ما يقولُ عنهُ الأستاذ الدكتور عكاشه أنه كان مدهشًا وهوَ أن أحدًا من المرضى لم يظهرْ مستوىً ممتازًا من الاستبصار ! فقد كانت الاستبصار:
-1- متأثرَةً تأثُرًا بسيطًا Mildly Affected في نسبة ............... 26% من المرضى.
-2- وكانت متأثرةً تأثرًا متوسطًا Moderately Affected في نسبة ...50 % من المرضى.
-3- وكانت متأثرةً تأثُرًا شديدًا Severely Affected في نسبة .... 14.4% من المرضى.
ويعتبرُ موضوعُ الاستبصار في مريض اضطراب الوسواس القهري من المواضيع التي لاقت اهتمامًا كبيرًا خلال العقد الأخير، نظرًا لتراكم الملاحظات السريرية (الإكلينيكية) للأطباء النفسيين عن مرضى الوسواس القهري الذين يتذبذبُ مستوى الاستبصار لديهم إضافةً إلى ما يعتبرهُ البعضُ وضعًا مستفزًّا لاضطراب الوسواس القهري داخل عباءَةِ اضطرابات القلق، والحقيقةُ أن فهمَ ذلك البعد في كل مريضٍ من مرضى الوسواس القهري هو من الواجبات المهمة التي يجبُ على الطبيب النفسي القيامُ بها لأن ذلك ولا شكَّ ستكونُ لهُ انعكاساتهُ لا على أينَ نقسمُ هذا المريض أو ذلك بل على العملية العلاجية نفسها، لأن المريض المقتنعَ بمعقولية أفكاره التسلطية أو بضرورة ممارسة أفعاله القهرية، هو مريضٌ لن يتعاون بالشكل الكافي مع أي من أساليب العلاج وخاصةً مع العلاج السلوكي، وإن كانت نتائج الدراسات في هذا الموضوعِ ما تزالُ متضاربةً إلى حد كبير.
وبالرغم من أهمية موضوع الاستبصار إلا أنهُ لم تكن هناكَ حتى عهدٍ قريبٍ مقاييس نفسيةٌ متفقٌ عليها لقياس مستوى الاستبصار لدى المريض خاصةً وأن مفهوم الاستبصار نفسه مفهومًا يستفزُّ الكثيرَ من الخلافات بين المتحاورين في الطب النفسي وعلم النفس على حد سواء، ولقد قام أيزن وآخرون بتكوين مقياس يتكونُ من سبعة بنودٍ واسمه مقياس براون لتقييم المعتقدات Brown Assessment of Beliefs Scale لقياس درجة الاعتقاد لدى المريض، ويتمتعُ هذا المقياس بدرجةٍ عاليةٍ من الصدق Validity والثبات Reliability وقد استخدمهُ أيزن في دراسةٍ قارن فيها الاستبصار ما بين مرضى رهاب التشوه Dysmorphophobia ومرضى اضطراب الوسواس القهري، وأظهرت نتائجها أن ثلاثين بالمائة من مرضى اضطراب الوسواس القهري لا يتمتعون إلا بقدرٍ قليلٍ من الاستبصار بلا معقولية أعراضهم، ولكنَّ أحدًا منهم لم يكن يعاني من أفكارٍ وهامية (ضلالية).
معنى ذلك أن وجودَ الاستبصار عند مريض اضطراب الوسواس القهري لم يعد مهمًّا مثلما كانَ في الماضي القريب، وعدم وجودها لم يعد يعني علاقةً بالفصام أو بدايةً للسير في اتجاهه كما كانَ يعني حتى سنواتٍ تكادُ تعدُّ على الأصابع، فما أكثرَ ما تغيرت المفاهيمُ وما أكثرَ ما أصبحَ المرءُ يشكُّ في كل ما كانَ يظنهُ أكيدًا فيما يتعلقُ بالوسواس القهري.
واقرأ أيضًا:
هل الوسواس القهري نوعٌ من الجنون/ بين الوسواس القهري والفصام: نسخة مجانين!