رغم النجاح الكبير الذي حققه الطب النفسي في علاج اضطراب الوسواس القهري بشقيِّ أعراضه: الأفكار التسلطية والأفعال القهرية، ورغم شيوع إرجاع المسألة كلها في وجهة النظر المادية الاختزالية إلى اضطراب وظائف الناقل العصبي السيروتونين والذي كتبنا عنه في مقال أسباب الأمراض النفسية، رغم ذلك فإن كثيرا من الأسئلة ما يزال بحاجة إلى إجابة، وسؤالنا في هذا المقل هوَ كيفَ تحدثُ الفكرةُ التسلطيةُ ولماذا تحدثُ في هذا المريض بالذات ولماذا الآن ولماذا تصبحُ تسلطيةً، رغم أنها يمكنُ في فردٍ آخرَ أن تمرَّ عابرةً ولا تسببُ إلا القليل من الضيق العابر؟، كلُّ هذه أسئلةٌ لم يستطع التقدم العلمي الهائل إجابتها حتى الآن وما لدينا هو على الأكثر مجموعةٌ من التكهنات حول لماذا؟
فأما صاحب نظرية التحليل النفسي (فرويد) فتكلم عن ثلاثة من الحيل النفسية الدفاعية وهم:
-1- العزل Isolation
-2- الإبطال Undoing
-3- التكوين العكسي Reaction Formation
فأما العزل فيعني عزل الفكرة عن ما يرتبطُ بها من مشاعر واندفاعات بحيثُ يتمُّ كبتُ المشاعر والاندفاعات في لا وعيِ الشخص بينما تبقى الفكرةُ بلا مشاعر في وعيه. ومعنى ذلك هو أن الفكرةَ التسلطية في الوعي تكونُ في حقيقتها منفصلةً عن ما يرتبطُ بها في الأصل من مشاعر في لا وعيِ المريض، وأما الإبطال فهوَ ما ينتجُ من عدم نجاح العزل أو نجاحه جزئيا بحيثُ يكون هناك خوف لا واعٍ عند الشخص من خروج المشاعر والاندفاعات إلى الوعي فهوَ يفعلُ فعلاً قهريا بحيثُ يمنعُ به أو ينقضُ أو يلغي ما يحسُّ به على مستوى اللا وعي من خروج للمشاعر إلى الوعي وما قد ينجمُ عن ذلك وأما الحيلة الدفاعية الأخيرة وهي التكوين العكسي فيرى فرويد أنها لا تكونُ مسئولة عن الأعراض المباشرة أي الوساوس أو الأفعال القهرية وإنما تكون مسئولة عن السمة العامة التي يلاحظها المحلل النفسي في اضطراب الوسواس من تناقض صارخ بينَ اندفاعات اللاوعي والتصرفات التي يفعلها المريض واعيًا.
وليسَ هذا كل شيء لأن البناء الفكري الذي وضعته مدرسة التحليل النفسي لشرح أسباب الوسواس القهري يرجعُ الأمر في ذلك إلى التثبيت عند الشق السادي من المرحلة الشرجية للنمو النفسي الجنسي ألا وهي الفترة التي نتعلم فيها النظافة والتقيد بالنظام الاجتماعي لأول مرة في حياتنا، وعندما يكبرُ الشخص الذي يحمل تاريخ نمُوِّهِ النفسي فترة تثبيت عند هذه المرحلة ويتعرض لضغوط نفسية في أي مرحلة من حياته تظهرُ عليه أعراض المرض التي ترتبط بشكل أو بآخر باستعادة معاناته النفسية القديمة وَتكونُ هيَ أعراض الوسواس القهري.
وأنا أدركُ أنني أختصرُ اختصارًا مخلاًّ في رأي الكثيرين إذا اكتفيتُ بهذا الكلام عن نظرية فرويد لكنني أقولُ فقط أن تأثير فرويد موجودٌ في كتابات من يكتبون في الطب النفسي على مستوى العالم لأنهُ ولا شكَّ في ذلك أثرَ في كيفية التفكير في الطب النفسي لفترةٍ طويلة وما زال يؤثر لكنني معنيٌّ في هذا المقال بالوسواس القهري ولم ينجح فرويد ولا أتباعه في علاج هذه الحالات بالذات.
كما أن كتابات الأمس في أسباب الوسواس القهري كانَ يتصدرها كلامُ فرويد ومنْ سبقوهُ أو تلوهُ أو عاصروه والفرقُ بينَ ما كانَ وما هو الآن كبيرٌ وجليٌّ لكل ذي عينين لأن كلام اليوم مكتوبٌ بالأرقام وَبالتحديد وموزونٌ بالميزان المحايد الذي لا يشكُّ أحدٌ في حيدته لأنهُ بالمنطق العلمي كذا وكذا، بينما كانَ كلامُ الأمس مدهونٌ بدُهنِ أصحابه وَمشكوكٌ فيه ومتهمٌ بالقصورِ لعيبٍ في أصحابه لأنهم غيرُ محايدين متحيزون لنظريتهمْ، لكنهُ على أي حالٍ قيلَ في وقتٍ لم يكنْ هناكَ من يقولُ فيها!
وإحقاقًا للحقِّ أقولُ أنهُ لم يوقفِ التفكيرَ في كلامٍ غيرهُ، ولمْ يحظَ مُطْلَقًا بتسليم الناس بصحته مثلما يحظى الكلامُ عن السيروتونين فعددُ الذينَ يتحيزونَ إلى التحليل النفسي أو غيره من مدارس علم النفس التي لها تطبيقاتٌ طب نفسية علاجية متداولة في العالم لمْ يكنْ أبدًا كعددِ الذينَ يؤمنونَ بالأبحاثِ العلمية الحديثة.
وأما بافلوف وهوَ رائدُ المدرسة السلوكية الغربية في علم النفس فقد كان يرى أن المريض الرهابي الوسواسي Phobic-Obsessive Patient إنما يتميزُ بحساسيةٍ عالية لكل أنواع الأفكار الوسواسية التي تحدثُ للناس جميعًا لكنهم يستطيعونَ وقفها بمجرد اعتبارها غير هامة أو لا قيمة لها بينما المريض الرهابي الوسواسي لا يستطيعُ ذلك بسبب وجودِ خلل في القدرة على تثبيط Impairment of Inhibition ما لا قيمة له من الأفكار أو الأفعال، وفسر بافلوف ثبات الفكرة التسلطية وعدم القدرة على تلافيها من جانب المريض بافتراض وجود نقطةٍ استثارة جامدة أو ذات قصورٍ ذاتي Focus of Inert Excitation والتي تستمرُّ في إحداث استثارةٍ لا هيَ بالقادرة على إقناع المريض بصحة ما تعنيه ولا المريضُ قادرٌ على تجاهلها وتثبيطها لأنه أولاً يعاني من خلل في القدرة على التثبيط، وينطلق بافلوف من رأيه هذا لتفسير سبب اختلاف الفكرة التسلطية عن الفكرة الضلالية Delusional Idea بافتراض أن نقطةَ الاستثارة الجامدة تلك تكونُ في حالةِ الفكرة الوهامية (الضلالية) أقوى تأثيرًا بحيثُ لا يستطيعُ المريضُ تكذيبها ولا يملكُ إلا تصديقها بينما يقتصرُ تأثيرها في حالة الفكرة التسلطية على إزعاج المريض والتسبب في قلقه ومعاناته.
والحقيقةُ أن الأفكار الأساسية لمحاولات الفهم السلوكي للاضطرابات النفسية إنما تنبعُ أصلاً من التجارب على الحيوانات وأصحابها يرونَ كما ذكرتُ من قبل أن الأفكارَ التي تكونُ في البدء عاديةً تتحولُ إلى أفكارٍ مؤلمةٍ أو منفرةٍ من خلال ارتباطها الشرطي بشكلٍ ما مع أحداثٍ مؤلمةٍ ويقدمونَ دليلاً على ذلك تجربةً مشهورةً يذكرونها لشرح كيفية تكون العصاب الرهابي "فلو أنكَ قمتَ بوخز طفل صغيرٍ كلما ظهر كلبٌ أبيض في الغرفة التي يجلسُ فيها الطفلُ وفعلتَ ذلك عدة مرات، لبكى الطفل وصرخ بمجرد رؤيته للكلب دون وخزٍ بعد ذلك"؛
ثم يفسرون تكونَ الفعل القهري بأن الشخص يكتشفُ بالصدفة أن فعلاً ما يؤدي إلى تخفيف القلق والتوتر الناتج عن الفكرة التسلطية فما يزالُ يمارس هذا الفعل حتى يعادل تأثيرَ الفكرة التسلطية، كما أنهم يفسرون الطقوسَ القهرية بنفس الطريقة ويضيفونَ أيضًا تفسيرهم للسلوك الاجتنابي سواءً في مريض الوسواس القهري أو مريض الرهاب بنفس الطريقة فاجتنابُ المثير المزعج يؤدي إلى تقليل القلق المصاحب للمواجهة ويعززُ السلوك الاجتنابي نفسه بالتالي، كما أنهُ يقلل من فرصة المريض لتغيير اعتقاده عن قدرته على مواجهة الشيء أو عن كون الشيء غير مخيفٍ أو مضرٍ كما يظن، ونفس الكلام ينطبقُ على إصرار مريض الوسواس القهري على ممارسة طقوسه القهرية وخوفه أو اجتنابه لعدم ممارستها.
وهناكَ العديدُ من المشاكل التي تواجهُ هذا النوع من الفهم السلوكي لاضطراب الوسواس القهري لعل أولها هوَ أن معظم الأفكار التسلطية تكونُ منفرةً أو مؤلمةً منذ بدايتها بالنسبة للشخص المعني بمعنى أنها لا تحتاجُ إلى ربطها الاشتراطي بحدثٍ أو خبرة نفسية مؤلمة، كما أن هذا الفهم لا يستطيعُ أن يفسرَ لنا تلك الحالات التي نجدُ فيها أفكارًا تسلطيةً دونَ أن تتكونَ أفعالٌ قهريةٌ كنتيجةٍ لها، ثم إذا عرفنا أن ما بين الثمانين والتسعين بالمائة من الناس تصادفهم أفكارٌ اقتحاميةٌ تزعجهم من وقت إلى آخر لكنهم لا يصبحون مرضى بالوسواس القهري ولا تتكونُ عندهم أفعالٌ قهريةٌ كنتيجةٍ لذلك، فلابد إذن أن يكونَ هناكَ أحد احتمالين:
الأول هوَ أن هناكَ اختلافا في خاصية ما للأفكار التسلطية في الوسواس القهري تجعلها مختلفةً عن الأفكار التسلطية التي تحدثُ وتمرُّ عابرةً في معظم الناس.
أما الاحتمال الثاني فهو أن مرضى الوسواس القهري يتعاملون مع أفكارهم التسلطية منذ البداية بشكلٍ مختلفٍ عن الناس العاديين، وهذا هو ما يجعلهم يعانون من اضطراب الوسواس القهري، إن كل ذلك يجعلُ الفهم السلوكي لمنشأ الأفكار التسلطية والأفعال القهرية غير كافٍ لشرح كل الظواهر.
أما أصحابُ النظريةِ التطورية الغربية في علم النفس والذين يحاولون الاستفادةَ من المبادئ العامة لنظرية داروين، ويحاولونَ في نفس الوقت تقويةَ اتجاهٍ يدعمهم من بين الأطباء النفسيين، فهم أيضًا يضعونَ نظريةً لتفسير اضطراب الوسواس القهري، فيفكرون بنفس الطريقة المتبعة داخل نظرية النشوء والارتقاء فيرون أن بقاء اضطراب الوسواس القهري على مر الأجيال المتعاقبة لهوَ دليلٌ على أنها تمثلُ انحرافًا عن أسلوب عملية عقليةٍ مفيدةٍ في الأصل!، ونحنُ نقبلُ كلامهم هذا كمحاولةٍ من محاولات الفهم رغم اختلافنا مع دارون نفسه!، فهم يرون أن الأفكار التسلطية عبارةٌ عن ناتج عمليات فكريةٍ قديمةٍ (أي أننا ورثناها عن أجدادنا القدماء) ولا إراديةٍ تستثيرُ حالةً شعوريةً منفرةً كالخوف أو القرف في الشخص ووظيفتها الأساسيةُ هي أن تؤدي إلى سلوك اجتنابِ الخطر ويرى أصحابُ هذه النظرية أن النظام الحيوي العصبي Neurobiological System المسؤول عن ذلك إنما يخلقُ سيناريوهات لا إرادية لاستشعار الخطر Involuntary Risk Scenario Generating System هيَ الوساوس بينما يعتبرونَ الأفعال القهرية سلوكيات بدائية روتينية لاجتناب الخطر Primitive Harm Avoidance Behavioral Routines لكنها شبهُ إرادية Semi-Voluntary أي ليست لا إرادية تمامًا كالأفكار التسلطية، المهم أن سيناريوهات استشعار الخطر هذه تساعدُ الشخصَ على تعلم مواجهة الخطر دونَ أن يضطرَ إلى مواجهته مباشرةً وهذه هيَ فائدتها، وهذا هو سبب انتشار السمات الوسواسية الطبيعية في الكثير من الناس.
ويذهبُ أصحابُ هذا الرأي إلى ما هو أبعدُ من ذلك فيحاولون التفريق بين اضطرابات القلق التي مازال اضطراب الوسواس القهري جزءًا منها، وذلك من خلال افتراض أن هناكَ نوعين من أنواع التفكير البشري أحدهما هوَ التفكير على الخط On-Line Thinking ويقصدُ به النشاط العقلي الموجهُ لمشكلةٍ يواجهها الشخص في اللحظةِ المعينة وأما النوع الآخرُ فهوَ التفكير خارج الخط Off-Line Thinking ويقصدُ به النشاطُ العقلي الهادفُ إلى حل المشكلات التي قد يواجهها الشخص في المستقبل وتعتبرُ الأفكارُ التسلطيةُ نوعًا بدائيًّا من التفكير خارج الخط، بينما تعتبرُ اضطراباتُ الهلع واضطراب القلق المتعمم نوعًا من التفكير على الخط.
وتفترضُ واحدةٌ من أحدث النظريات المعرفية أن الخبرات النفسية المعرفية القديمة والأحداث الحرجة في حياة الشخص إبان بداية أعراض الوسواس القهري تدفعه إلى مجموعةٍ من الاعتقادات أو الافتراضات مثل:
-1- أن عدم منع الكارثة سيئٌ بقدر التسبب في وقوعها وهوَ ما يضخمُ الإحساس بالمسؤولية.
-2- من الأفضل أن تكونَ آمنًا عن أن تكونَ آسفًا، وهو ما يمهد لاجتناب الفعل من أجل اجتناب الخطر.
وعندما تحدثُ لمثل هذا الشخص فكرةٌ اقتحاميةٌ فإنه يخطئُ في تفسير أو تقدير أهميتها من خلال اعتقاده أن الفكرةَ ما هيَ إلا إرهاصٌ للسلوك أي أنها تتنبَّأُ بالسلوك" مثلاً: ما دمتُ فكرتُ في أن أذبحَ بنتي الصغيرة إذن فمن الممكنِ أن يحدثَ ذلك بالفعل أو ما دمتُ تخيلتُ نفسي في موقفٍ جنسي مع زوجة عمي إذن من الممكنِ أن أفعلَ ذلك في يوم ما"، إضافةً إلى اعتقاده أنهُ مسئول عن منع نتيجة هذه الفكرة"؛
مثلاً: لابدَّ من وجودِ جارتي أو زوجي معي عند استخدامي للسكين، أو لن أزورَ عمي مرةً أخرى مهما حدثَ لكي لا يقعَ المحظور" وتتداخلُ بعد ذلك مجموعةٌ من أساليب التفكير الغير سوية الناتجة عن ارتفاع حساسية الفرد بسبب القلق وربما الاكتئاب الناتج عن هذه الطريقة في التفكير كما يتداخلُ نزوع هؤلاء الأشخاص إلى التفكير السحري أو الخيالي Magical Thinking الذي يعطى الأفكارَ قوةً كقوةِ الفعل إضافةً إلى تحيزهم الانتباهي والاستنتاجيَّ الذي يجعلهم منشغلينَ بالفكرة التسلطية وكل ما يتعلق بها من منبهات بيئية، كذلك فإن محاولات المرضى المستميتة لكبت الفكرة التسلطية التي تؤدي على العكس إلى زيادة إلحاحها على الوعي مما يوقعُ المريض في حلقةٍ مفرغةٍ من الأفكار التسلطية والأفعال القهرية الناتجةِ عنها وتتفاعلُ كلُّ هذه العواملُ لإبقائه في هذه الحلقة المفرغة، إلا أن هذا التصورَ المعرفي رغم شرحه لكيفية حدوث الاضطراب لا يجيبُ أيضًا على سؤال لماذا يحدثُ اضطراب الوسواس القهري لشخص معينٍ دونَ الآخر.
ما أراه متماشيا مع خبرتي الشخصية مع مرضى الوسواس القهري من أن "تلك الأفكار الطفيلية أو المتطفلةَ المرسخةَ لدى مريض الوسواس القهري لتكونَ هيَ الأفكار الأساسية (أي المقتحمة ثم التسلطية)، فيما بعد عندما تظهرُ أعراضُ اضطراب الوسواس القهري فتملأ وعيهُ وتتسلطُ عليه، هذه الأفكار القبل تسلطية (إن جازت لنا التسمية) إنما تكونُ في أغلب الأحيان من نفس جنس أو موضوع الأفكار التي تحتلُّ التيار الرئيسيَّ لدى المريض ولكنها معارضةٌ لها في الاتجاه، بمعنى أن المريض المحافظ جنسيا والذي يشغلُ هذا الأمرُ جزءًا كبيرًا من تفكيره يكونُ مرشحًا للمعاناة من فكرة تسلطيةٍ جنسيةٍ وكذلك المريضُ الذي يكونُ مفرطًا في اهتمامه بالموضوع الديني يكونُ مرشحًا أكثرَ من غيره للمعاناة من أفكارٍ تسلطيةٍ دينية أو عقائدية وقد رأينا في الممارسة الإكلينيكية حالاتٍ كثيرةً يختلطُ فيها هذا بذاك"، لكنَّ كل ذلكَ لا يقولُ لنا ما هو المصدرُ الأولي للفكرة التطفلية أو الاقتحامية.
ويتبع ..........: ما هو مصدر الفكرة التسلطية (الوسواسية) الأولى؟(2)
واقرأ أيضًا:
علاقة الفعل القهري بالحدث العقلي التسلطي/ الالتزام الديني والوسوسة هل من علاقة؟