كانَ الطب النفسي دائمًا هوَ الفرع الوحيدُ من الطب الحديث الذي تجدُ فيهِ مكانًا لما لا يحسُّ مباشرةً بالحواس الآدمية التي يعتمد العلم المادي عليها، فقد كانَ وما يزالُ مفهومٌ كمفهوم اللاوعي بمعناه المشهور أساسًا للعديد من التفسيرات والشروح التي يقبلها الأطباءُ النفسيون في كل مكانٍ في العالم، وكانَ لنظرية فرويد تأثيرها في ذلك بالطبع، إلا أن ما حدثَ في السنوات الأخيرة من توجهٍ متسارع نحو التفسيرات المادية البيولوجية للسلوك الآدمي في السواء وفي المرض، إضافةً إلى الانتصارات المتلاحقة التي حققتها العَقَّـاراتُ خاصةً في اضطرابات نطاق الوسواس القهري والتي روجت لها ورسخت شركاتُ الأدوية مفاهيمها في أذهان الأطباء النفسيين، كان لذلك تأثيرهُ بالتأكيد على تقليص تلك المساحة من التفسيرات التي تعتمدُ اللاوعي أو الغيبَ كمصدر ثريٍّ فضفاضٍ لتفسير السلوك البشري، حتى أن الطب النفسي كما يقولون قد تحركَ من موقف اللا علاقةَ بالمخ Brainless (باعتباره المادةَ الخالصةَ) إلى موقف اللا علاقةَ بالعقل Mindless (باعتباره اللا مادةَ الخالصة).
فموقفُ اللا علاقةَ بالمخ هو الموقف الذي يعتمدُ التفسيرات المستمدة من النظريات النفسية التي تقوم على العقل بتقسيمه إلى وعي ولا وعي وتكونُ طريقةُ العلاج كذلك معتمدةً على طرق العلاج النفسي التي تبحثُ كيفية حدوث الانحراف العقلي وكيفية تعديله، أي أنها تعترف دائمًا بوجود جانب الغيب كمؤثرٍ في السلوك البشري، وإن كانَ هذا الغيب غيبًا خاصًا فقط بالإنسان المفرد في نظرية فرويد، ومقسمًا إلى خاصٍ بالمفرد Personal Unconscious وخاصٍ بالمجموع البشري Collective Unconscious في نظرية يونج، إلا أنهُ كانَ هناكَ جانبٌ للغيب معترفٌ به بوجه عام.
وأما موقفُ اللا علاقةَ بالعقل فهوَ الموقفُ الغالبُ اليوم أي الذي لا يعتمدُ إلا التفسيرات النابعة من عالم الشهادة، أي كل ما يمكنُ قياسه ماديا وابتداعٌ مادةٍ لتؤثرَ فيه، والحقيقةُ أن إنجازات هذا الموقف فاقت بالفعل كل ما كان تَصَوُّرُهُ ممكنا وخلال فترةٍ وجيزةٍ، إلى الحد الذي سمحَ للكثيرينَ بالغرور بما توصل إليه الطب النفسي، ولا نستطيعُ إغفال دور شركات الدواء هنا أيضًا لأن تضخيم الإنجازات التي تحققها الأدوية وتضخيم العلم بها إنما هوَ موقفٌ نابعٌ من تحيزٍ للمادة، خاصةً إذا عرفنا أن المادةَ التي يتكونُ منها العقار الدوائي تعملُ عملها في كافة أجناس البشر بينما النظريات التي تقوم على أساس التكوين النفسي أو العقلي وما هو في حكمه إنما تنبعُ من ثقافةِ مبدعيها وعادةً ما لا تنطبقُ على غيرهم، إذن فما تتوقعهُ شركاتُ الدواء من كسبٍ مادي يجيءُ من كل أنحاء العالم هوَ كسبٌ لا محدود، وهم لذلك يقومون بجهد لا محدود في نشر التحيز للمفاهيم التي تخدم أغراضهم، ولعل هذا ما أشرنا إليه من قبل في مقال الطب والأطباء والدواء مهزلة:(1)
فإذا كانَ الأمر بالنسبة للغربيين هوَ مجردُ انحسار التأثير الذي كانَ ينعمُ به فرسان التحليل النفسي أو غيره من النظريات التي تعترفُ بالغيب كمؤثرٍ في السلوك البشري، فإن الأمرَ بالنسبة للطبيب النفسي المسلم ليسَ بهذه البساطة، وإذا كانَ الطبيبُ النفسي الغربي يستطيعُ أن يتنازلَ عن إيمانه بوجود الغيب في حياته وحياة مريضه إذا أثبتَ له العقار الدوائي أنهُ يستطيع إنهاءَ مشكلة المريض كليةً فإنهُ في النهاية لا يتنازلُ إلا عن إيمانه بصدق نظريةٍ كنظرية فرويد أو غير فرويد، فهل الأمرُ كذلك بالنسبة للطبيب النفسي العربي المسلم، لابدَّ بالتأكيد ألا يكونَ كذلك! إذن كيفَ يحل الطبيب النفسي المسلمُ هذه المشكلة؟
إن الموقفَ الذي نراهُ حتى الآن ليسَ أكثرَ من محاولة الفصل ما بينَ معطيات طبه النفسي وبينَ معطيات دينه، لأن الطب النفسي الذي يفهمهُ الأطباءُ النفسيونَ اليومَ ويدافعون عنهُ بكل حماس هو ذلك المستمَدُّ والمعتَمِدُ في كل ما فيه على تفسيراتٍ من عالم الشهادة، أو من عالم المادة، بل إن الاهتمام بالتفسيرات والتأويلات التي تعترفُ بالغيب أو اللاوعي حسب التسمية الطبية النفسية يتقلصُ عامًا بعد عامٍ ويتقلصُ معهُ الاهتمامُ بكل ما لا يقاس حتى في المقررات العلمية التي يطلبُ من الطبيب النفسي الإلمام بها ليحصل على شهادته، وأنا شخصيا كنتُ من الجيل الذي كانَ مضطرًا إلى الإلمام ببقايا معطيات عالم الغيب النفسي إضافةً إلى معطيات عالم الشهادة المادية فكانَ المطلوبُ مني أصعبُ من المطلوب مِن مَن كانَ قبلي ومن من جاءَ بعدي من الأطباء النفسيين، فبينما كانَ المطلوب من مَن سبقوني هوَ الإلمام بنظريات السيكوباثولوجي المترامية الأطراف والغريبة المفاهيم عن مفاهيمنا الثقافية أحيانًا لكنها كانت تحتملُ الغيبَ وتعترفُ به، كانَ المطلوب من مَن جاءوا من بعدي هوَ الإلمام بعلم تشريح الجهاز العصبي وعلم الأدوية وعلم الكيمياء الحيوية، أما أنا فكنتُ مطالبًا بالإلمام بهذا وذاك ولم يكن أساتذتي على استعداد للتخلي عن ما اعتبروه كل شيء لفترةٍ طويلة أي الطب النفسي الذي لا علاقةَ له بالمخ، ولا كانوا على استعداد لتركي غير معدٍّ لفهم الطب النفسي الحديث الذي يقعُ كليةً في المخ ولا علاقةَ له بالعقل ولا بالغيب.
ولعل هذا هوَ أحد الأسباب التي جعلتني غير قادرٍ لا على اعتبار الغيب الموجود في النظريات النفسية كافيًا لأن أصدقه لأنني كنتُ أرى من الاكتشافات المادية المتتالية ما يدحضهُ ويشككُ فيه، ولا على اعتبار اللا غيب الذي يقدمهُ الطب النفسي المخي مقنعًا لي كتفسيرٍ لكل شيء، خاصةً وأنني كنتُ أرى تخبطهُ على مر السنين القليلة وتغير المفاهيم فيه بسرعة كبيرة بحيثُ يتضحُ كل عامين أو ثلاثةً أن ما كنا نظنهُ الإجابةَ الأخيرةَ على سؤالٍ ما قد بدا فيه القصور أو ألغيَ تمامًا، حتى كان التشبيهُ الذي اقترحه عليَّ زميلي الدكتور أحمد عبد الله دالاً ومعبرًا إلى حد كبير عن حالة التوجه المادي البيولوجي الصرف في الطب النفسي فقد رأى حال أصحاب هذا التوجه مشابها لحالة سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما أخبرنا بها رب العزة، من ناحية الحيرة والافتتان المؤقت بما يجدون في متناول أبحاثهم، وشتان بالطبع بينَ ما كان يبحثُ عنهُ أبو الأنبياء عليه السلام وبينَ ما يبحثُ عنه هؤلاء:
قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} صدق الله العظيم (سورة الأنعام 75-78).
فهذه الحيرةُ التي يعيشها أصحابُ التوجه المادي الصرف مع افتتانهم ما بينَ فترةٍ وأخرى، بناقلٍ عصبي معينٍ أو بعقَّارٍ دوائي معين يرونَ فيه الحل النهائيَ لاضطراب ما كما تقولُ المقالات العلميةُ التي تتوالدُ واحدةٌ من أخرى، وتنفخُ شركاتُ الدواء في أبواقها، فإذا مرَّ عامٌ أو أكثرَ، سمعنا كلامًا آخرَ يناقضُ الكلامَ الأول وهكذا يخترعُ الدواءُ ويكتشفُ أنهُ ذا تأثيرٍ علاجي مفيد فتقومُ الدنيا ولا تقعدُ وتجرى الأبحاثُ في كل أنحاء الدنيا لتعطي نتائجَ يشابهُ بعضها بعضًا، ثمَّ تبينُ لنا شركةُ أدوية أخرى بعد عدة أعوام أن كل ما كنا نقوله من كلام وتثبتهُ أبحاثنا هوَ على أفضل التقديرات كلام ناقص أو لا يصور الحقيقة كما هيَ.
ونفسُ المثال في الواقع يمكنُ تطبيقهُ على النظريات النفسية المتتالية بوجه عام، فقد مررنا بفترةِ الافتتان بنظرية فرويد في التحليل النفسي حيثُ كانَ الكثيرونَ ينتظرونَ منها أن تحلَّ كل المشاكل إلى أن ثبتَ أنها لا تستطيع فتحولَ التوجهُ بعد ذلك إلى النظريات السلوكية حتى ثبتَ عجزها عن تقديم الحل النهائي لكل شيء فبدأ إدخالُ المفاهيم المعرفية عليها بما في ذلك من اعتراف بأن الإنسان يحوي جانبًا أسمى من مجرد المادة وردود الأفعال الموروثة فيها وهو الجانب المعرفي، وما يزالُ الافتتان بهذا التوجه حيًّا في وقتنا هذا إلى جانب الافتتان بقدرة الدواء، والذي أريدُ هنا بيانهُ هوَ أن الطب النفسي على مستوى العالم مازال يحاول البحثَ عن إجابةٍ للسؤال الكلي الذي يستطيعُ إذا أجبنا عليه أن نفهم كل شيء، ولكنَّ الإجابةَ النهائيةَ ما تزال بعيدةً بالرغم من بزوغِ إجابةٍ تلو إجابة.
وإذا عدنا إلى الوسواس القهري فإنني أتساءل ما موقفنا نحنُ كأطباءَ نفسيين عرب من ناحية دراسة هذا الاضطراب في بلادنا، أليس فيه كثيرٌ من التقصير، وإن كنا -في واقع الأمر- لا نتحملُ المسؤوليةَ عنهُ كاملةً لأننا إلى حدٍّ بعيدٍ نواجهُ بالعديد من المفاهيم الخاطئة التي كثيرًا ما تحولُ بينَ الطبيب النفسي وبينَ ممارسة عمله اليومي كطبيبٍ نفسي، فما بالنا بعمله كباحثٍ حينَ يحاول البحث؟، وبينما البحثُ العلميُّ وظيفةٌ أساسيةٌ لا غنى عنها لكل طبيبٍ نفسي في مجتمعاتنا، فإن فجوةً كبيرةً ما تزالُ تفصلُهُ عن مجتمعه لمجرد أنهُ طبيبٌ نفسي.
وأنا بذلك لا أبررُ بالطبع اكتفاءنا بنتائج الدراسات الغربية، لأنها بالتأكيد لا تعبر عن واقع حالنا وحال مجتمعاتنا العربية، وأقول ذلك رغم اعترافي بأنني كثيرًا ما اعتبرتُ نتائج الدراسات الغربية على المجتمعات الغربية مؤشراتٍ أخذتُ بها، واعتبرتُ أنها تعبرُ عنا لكن عذري أنني لم أجد لها بديلاً، وأنني كنتُ أعتبرُ خبرتي الشخصية في مجال عملي إضافةً إلى خبرة أساتذتي وزملائي وتلاميذي من الأطباء النفسيين أداةً تنفعني كثيرًا في تحديد ما يصلحُ وما لا يصلحُ للتطبيق على مجتمعنا، ولعل هذا ما يستطيعُ الباحثُ العربي أن يبدَأ به.
وأنا من أجل ذلك أدعو كل طبيبٍ نفسي عربي إلى العمل أولاً على مجاهدة المفاهيم الخاطئة المتراكمة في وعي وفي لاوعي المجتمعات العربية والتي أزعمُ أن أصل معظمها، إن لم يكن كلها، إنما تسلل إلى الوعي واللاوعي العربي من خلال ما تسلل من مفاهيم ومواقفَ نتجت في الغرب، وليست لموقف رفض الطب النفسي أصولٌ عربيةٌ ولا إسلاميةٌ كما بينتُ في دراسةٍ سابقةٍ لي، وليس في تاريخ تعامل العرب والمسلمين مع المرضى النفسيين إلا ما يشرفُ المرءَ إن عرفه، وأنا لذلك أدعو الأطباء النفسيين العرب، وهذه هي دعوتي الثانية إلى أن ينطلقوا من منطلقاتٍ تناسبُ ثقافتهم وموقفهم المعرفي من الحياة والإنسان لكي يدرسوا الصورَ المرضيةَ للاضطرابات النفسية في المرضى العرب لأن انطلاقنا من منطلقات تنبعُ من ثقافتنا نحنُ سيجعلُ اقترابنا من مجتمعاتنا أيسر وأنفع لنا ولهذه المجتمعات، وليسَت المطالبةُ بالعمل على وضع تصنيفٍ عربي للأمراض النفسية من منظور عربي/إسلامي إلا أول الخطوات على هذا الطريق، فلابد أن يكونَ نظامُ تشخيصنا عربيا ما دام مرضانا من العرب.
وأنا أسألُ سؤالاً لكلِّ من قامَ بإجراءِ بحثٍ علمي على مجموعة من المرضى النفسيين، وسؤاليَ في منتهى الوضوح: "هل كنتَ تجري الدراسةَ، وتخططُ لها دونَ أن تكونَ في ذهنك نظريةٌ تريدُ إثباتها؟" إن ادعاءَ أننا نتحركُ في بحثنا بحياديةٍ وموضوعيةٍ تامةٍ هوَ ادعاءٌ ينزعُ عنا صفةً جوهريةً فينا هيَ أننا بشر! فنحنُ نبحثُ لإثباتِ ما نريدُ إثباتهُ، أو لنعرفَ أننا لن نستطيعَ إثباتهُ مثلاً، لكننا لا نستطيعُ البحثَ مبتدئينَ من نقطةِ لا شيء!، وهنا يقبعُ السؤال: فما هيَ النقطةُ التي نتحركُ نحنُ منها في بحوثنا في العالم العربي والإسلامي؟، إننا في كل بحثٍ نجريه إنما نتحركُ من معطيات بحثٍ غربي ما لكي نثبتَ أو ننفي (وهو ما يندرُ جدا أن يحدثَ، وإن حدثَ فإنها مصيبةٌ تصيبُ الباحث في بلادنا للأسف)، والمشكلةُ التي لا يدري بها الكثيرونَ هوَ أن معطيات البحث الغربي ليست فقط متحيزةً ضدنا، ولكنها متحيزةٌ دونَ أن تدري ضد الإنسان نفسه، لأنها تنزعُ عنهُ كل ما هوَ إنساني، إننا إذن نحتاجُ إلى الانطلاق من رؤيتنا نحنُ للكون وللإنسان ما دامتْ لنا رؤيةٌ نؤمن بها.
إذنْ: علينا أن ننتبهَ إلى بعضٍ من الأفخاخ التي نقعُ فيها تباعًا في بحثنا العلمي في العالم العربي الإسلامي، وأهمها هنا هو افتتاننا الكاملُ بالغرب، أو عكسُ ذلك أي رفضنا الكاملُ للغرب
* فمن ناحية افتتاننا أقولُ أنه قد يكونُ النموذجُ الغربي منظمًا ومتقدما بالمقاييس المادية لكنهُ فاشلٌ بالتأكيد في تعامله مع إنسانية الإنسان وحتى إن نجحَ في تعامله مع الإنسان الغربي فإنهُ بالتأكيد غيرُ ناجحٍ في التعامل مع الإنسان العربي ولا يمكنُ أن ينجحَ معهُ، وأظنُّ أن كل طبيبٍ نفسي يعملُ عقلهُ ولا يديرُ ظهرهُ للأفكار الحية الموجودة في مجتمعه، يعرفُ ذلك من خلال تعامله مع الناس في مجتمعاتنا، وأنا أستثني من هؤلاء أولئك الذين يعتبرون المجتمعَ العربي الإسلاميَّ مجتمعًا متخلفًا بينما أفكارهم التي صدقوها عن الغرب هيَ التقدم، لأن التقدم في رأيي هوَ أن نصل بالإنسان إلى ما يجعلهُ متوافقًا مع حياته ومع ما خلقهُ اللهُ من أجله، فالإنسان حسب معتقداتي الدينية أيضًا موجودٌ في هذه الدنيا لعلةٍ وليسَ هباءً ولا صدفة، لكي يُتْرَكَ للسيروتونين يلعبُ به كيفما شاء، أيا كانَ السيروتونينُ هذا.
* وأما رفضنا الكامل للغرب فأقول أنهُ موقفُ من يقررُ الانتحار على كل المستويات لأن الغربَ الآن يسودُ العالمَ ماديا مستحقًّا هذه السيادةَ بما امتلكهُ من قدرةٍ على التحكم في المادة، ونحنُ لا نستطيعُ الاستغناء عن أساليب مواجهة الواقع المادي السائد بالطبع، ولا الغربُ حتى سيسمحُ لنا بذلك.
وأما الفخ الثاني فهوَ أن نقرأ أنفسنا بعيونٍ غربيةٍ فنرانا كما يرانا الغرب ونرى الناس في مجتمعاتنا أيضًا كما يراهم الغرب، وكذلك أن نقولَ أنفسنا ونقول الناس في مجتمعنا بلغةٍ غريبةٍ على الناس لكنها أسهل لأنها اللغة التي تعلمنا بها، وتكونُ النتيجةُ هيَ أن يزيدَ انفصالنا عن الناس الذين يرون فينا أطباءهم النفسيين وبينما يزيدُ انفصالنا عن مجتمعنا يزيدُ التصاقُ الناس بكل من هبَّ ودبَّ مِن مَن يدعون العلم ولا علاقةَ لهم به لكنهم ينظرون للناس بعيون لم تتأثرَ بعيون الغرب، فتكونُ اللغةُ التي يكلمونهم بها لغةً مفهومةً لديهم، وتكونُ قدرةُ هؤلاء على التواصل مع الناس أكبر من قدرة الأطباء النفسيين.
فصحيحٌ أن نقاطَ التشابه بينَ البشر على اختلاف أعراقهم ودياناتهم كثيرةٌ لكنَّ نقاط اختلافهم أيضًا كثيرة، ولا يمكنُ أن تكونَ أعراض الإنسان المسلمِ إذا ما أصابهُ اضطرابٌ نفسي هيَ نفسها أعراضُ غيره صحيحٌ أن هناكَ تشابهًا كبيرًا خاصةً في اضطراب الوسواس القهري لكنَّ إغفال نقاط الاختلاف الذي يميلُ الكثيرون له ليسَ إلا إغفالاً لكينونتنا وخصوصيتنا كبشر لهم بناءٌ قيميٌّ خاصٌ بهم، ولعل لدى كل طبيبٍ نفسي من المواقف التي قابلها أثناء عمله في مجال الطب النفسي ما يؤيد ذلك وما لو حكاهُ لنا لعضد ما أقولهُ! لكن الأطباء النفسيين إما صامتون وإما يرطنونَ الإنجليزية بالعربية أو العربيةَ بالإنجليزية، وأنا في النهاية لا أدري لماذا لا يتكلمُ الأطباءُ النفسيون في بلادنا بلغةٍ يفهمها الناس؟
وأحمدُ الله الذي قدر لي ذلك الموقفَ الصعب الذي ما أراهُ إلا وجهني ناحيةَ التراث العربي الإسلامي لكي أقفَ موقفَ الطبيب النفسي المسلم الذي يأخذُ معلوماته عن عالم الغيب النفسي من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ويأخذُ معلوماته عن عالم الشهادة من معطيات البحث العلمي الحديث دون أن يغترَّ بها ولا أن يفتتنَ بمنجزاتها التي يعرفُ جيدًا أنها تحتملُ الخطأ كما تحتملُ الصواب، ولعل في مقالينا السابقين على طيف الوسواس القهري عن مصدر الفكرة التسلطية الأولى ما يبين كيف يمكن أن يسير التفكير، ولمن يرد الاستزادة أن يقرأ ما هو مصدر الفكرة التسلطية (الوسواسية) الأولى؟ (1) ، وما هو مصدر الفكرة التسلطية (الوسواسية) الأولى؟ (2) ، ولكن النقطة المهمة هنا هي أن علينا كأطباء نفسيين وكمرضى أن نتعامل مع معطيات عالم الشهادة بأساليب عالم الشهادة حتى ونحن نبحثُ لها عن تفسير غيبي.
واقرأ أيضًا:
التفكير العلمي في مقابل التفكير الخرافي والأسطوري/ حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب