تعلمنا من مرضانا أثناء جلسات العلاج السلوكي المعرفي ما جعلنا نحاول مراجعة مصطلح الفكرة التسلطية كترجمة عربية -كنا اقترحناها- لكلمة (Obsession) من وسواس أو فكرة وسواسيه إلى فكرة تسلطية، ذلك أن من مرضانا من يشتكي من شعور تسلطي ومنهم من يشتكي من صورة تسلطية ومنهم من يشتكي من رغبة أو اندفاعه تسلطية وهكذا، صحيح أن الفكرة -التسلطية أيضًا- دائما موجودة إما لتفسر ذلك الشعور أو الرغبة أو لتربط بين الصورة وبين معنى ما غالبا بشكل مزعج، المهم أننا نفكر في مصطلح يجمع الفكرة والصورة والشعور العقلي والرغبة الشعورية فهل نقول مثلا حدث عقلي تسلطي أو حدث وعيٌّ تسلطي باعتباره حدثا عقليا يصل إلى الوعي؟
وَفي الطبِّ النفسيِّ توصفُ فكرة ما بأنها فكرةٌ تسلطية أو وسواسيه إذا توفرَّتْ لها عِدَّةُ شروط:
1- أن يشعرَ المريضُ بأن الفكرَةَ تَحْشُرُ نفسها في وعْيِهِ وَتفرضُ نفسها على تفكيرهِ رغماً عنه لكنها تنشأُ من رأسِهِ هو وليست بفعلِ مؤثِّر خارجي.
2- أن يوقِنَ المريضُ تفاهَةَ أو لا معقوليَّةَ الفكْرةِ وَعَدَمَ صِحَّتِها وعدم جدارتها بالاهتمامْ.
3- محاولة المريض المستمرة لمقاومة الفكرة وَعدم الاستسلام لها.
4- إحساس المريض بسيطرةِ هذه الفكرة وقوتها القهريةِ عليه فكلما قاومها كلما زادَتْ إلحاحًا عليه، فيقعُ في دوامةٍ من التكرار الذي لا ينتهي.
معنى الوسواس كَخِبرَةٍ نفسيةٍ:
يُفترَض في كُلِّ إنسانٍ أنه يشعُرُ بِقِدْرَتِهِ على التحكم في أفكارهِ، فهو أي الإنسان يستطيع أن يفكِّرَ في ما يشاءُ من أفكار ويستطيع أن يطرَدَ ما يشاءُ من الأفكارِ من وعيهِ متى شاء كما أنه يشعرُ بامتلاكِهِ لأفكارهِ ويشعُرُ تجاهها بأنها تعَبِّرُ عن توجُّهاتهِ أو مشاعِرِهِ الشخصية فإذا طرأتْ على وعْيِهِ فكْرَةٌ ما فهو يحسُّ بها مملوَكةً لهُ وراجعَةً إليه ويمكنٌهُ إبقاؤها في وعيه أو التخلص منها والتفكير في غيرها، وينطبقُ نفسُ الكلام على الصور العقلية أيّ التخيلات فعندما تمثل صورة معينةٌ في ذهن الإنسان سواء استحضرها هو أو تداعت إلى وعيه لسبب أو لآخر فإنه يستطيع استبْقاءها إن كانتْ متوافقةً مع إرادَتِهِ كصورة شخص عزيز أو حبيب ويستطيع كذلك إبعادها عن ذهنِهِ إن لم تكن تروقُ له؛ ونفس الكلام ينطبق على ما يمكن تسميَّتُهُ بالاندفاعات أيِّ الشعور المفاجئ برغبةٍ في فعلِ شيءٍ ما كأنْ يشعرَ الإنسان بالرغبة في القفزِ مثلاً أو في الصراخ فإنَّ الطبيعيَّ هو أنْ يستطيع الإنسان التخلص من هذه الرغبة متى أراد (وائل أبو هندي, 2000).
أما في حالة الفكرة الاقتحامية أو الو سواسية فإن الأمر يختلف حيث يحسُّ الشخص بأنَّ الفكرة إنما تحشرُ نفسها في وعيه رغمًا عنه، ويوقنُ بالطبع أن مصدرها هو عقله لكنه يحسُّ بأنها غريبة عليه لأنها عادة ما تكون مخالفة بشدةٍ لتوجهات هذا الشخص ومبادئه ومشاعرِهِ أو أنها على الأقل فكرة لا معنى لها أو لا وجاهة فيها فيكون ردُّ فعله شيئاً من القلق والضيق وربما القرف فيحاول أن يتخلص منها لكنَّهُ للأسف يعجز عن ذلك، وَكلما قاومها كلما زادت حِدَّةُ إلحاحها على وعيِّهِ؛ وينطبق نفس الكلام على الصور العقلية الوسواسية والتي غالبا ما تأخُذُ شكْلاً جنسيًّا أو مُقَزِّزًا بشكل أو بآخر بحيثُ تنتفضُ لها نفس المريض ويقشعر بدنهُ من فرط ما تزعجُهُ وتؤلمُ ضميرَهُ لكنه لا يستطيع الخلاص منها، وكذلك في حالة الاندفاعات فغالبا ما تأخذُ شكل الرغبة في فعل شيء خارج عن المألوف في موقفٍ مهيب كأن يخرج الواحد لسانه في المسجد أو الكنسيةِ أو أن يتفَوَّهَ بألفاظٍ خارجةٍ أو ربما أخذت شكل اندفاعاتٍ جنسية تجاه المحارم أو شكلاً عدْوانيًا تجاه الناس في الشارع أو في القطار مثلاً.
والمقصود هنا هو محاولة الوصول إلى تفهم لخبرة الوسواس نفسها كخبرة نفسية واعية تختلف عن الخبرة العادية؛ فيتضح مما سبق أن إحساس الإنسان بالفكرة الو سواسية مختلف عن إحساسه بأفكاره العادية فالفكرة الو سواسية تقتحم عليه وعيه وتتعلق غالبا بما لا يحبه أو ما لا يتفق معه وهيَ بالتالي تزعجه فيحاول التخلص منها لكنه كلما حاول الخلاص كلما زاد إلحاح الفكرة عليه وزاد قلقه وتوتره وعذابهُ بحيث يشعرُ وكأنما سقط في حلقة مفرغة لا يستطيعُ الفكاكَ منها. وما أريد أن أبينه هو مدى قسوة الإحساس بعدم القدرة على التحكم في محتوى الوعي لدى الإنسان وهو ما يصل ببعض المرضَى إلى حالة من اليأس والإعياء جديرة بالرثاء.
وبعد كل هذه المقدمة نصل إلى إشكالية التسمية فقد اقترحنا من قبل تغيير الترجمة العربية لكلمة (Obsession) من وسواس أو فكرة وسواسيه إلى فكرة تسلطية، وبينا أنها فكرةٌ تستحوذ على عقل المريض المبتلى بالوسوسة، إلا أننا بعد أربعة أعوام من صدور كتابنا الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي، وهو ما جعل عملنا أكثر تخصصا في مرضى نطاق الوسواس القهري بوجه عام، فمارسنا العلاج السلوكي المعرفي مع مرضانا وسمعناهم أكثر وأكثر، فلمسنا ما يستوجب البيان.
إننا نستطيع تعريف كلمة (Obsession) بأنها: فكرة أو إحساس أو شعور أو صورة أو رغبة أو نزعة ملحة (رديدة أو راجعة أو متكررة) ومقتحمة للوعي البشري رغما عن صاحبها الذي يرفضها ويستهجنها بمعاناة وانزعاج شديدين ولكنها تزيده إلحاحا كلما زاد هو انزعاجا أو استهجانا أو مقاومة، ونستطيع تلخيص ذلك بقولنا هي حدث عقلي واعي يتسم بالتسلط والإلحاح رغما عن صاحبه.
فهل يا ترى تكون ترجمتنا لكلمة (Obsession) بفكرة تسلطية هي ترجمة تختزل كل الأحداث العقلية السابقة في الفكرة بمعنى أن المريض إذا تخلص من إلحاح الأفكار مثلا بعد أن فهم أنها أفكارٌ تسلطية وأن الشعور شيء مختلف أو الصور الذهنية شيء مختلف؟ هل نحن كنا قاصرين في الترجمة؟ أم أن اعتمادنا على ما يولده الحدث العقلي التسلطي بالتأكيد من فكرة تسلطية هي التي تعذب المريض مبررٌ أو كافٍ؟
ولكي أوضح أضرب لكم مثلا بالزوجة التي كانت توسوس مثلا بأنها ستخون زوجها الذي تحبه ولا تحب غيره فتشك بالتالي في سلوكها كله، أو بأنها أرادت من الاتصال بأخٍ لزجها أن تسمع صوت ذلك الأخ وليس لتطمئن على صديقتها وزوجة أخي زوجها وتشك بالتالي وتوسوس حول نيتها من ذلك الاتصال، عندما تتخلص هذه الزوجة بعد العلاج المعرفي السلوكي أو العقاري أو كليهما من مثل هذا النوع من الأفكار ثم تأتيك في إحدى الجلسات لتقول: أشعر بأنني مشتاقة لسماع صوت شقيق زوجي؟ شعور يا دكتور وليس فكرة!، أو عندما تقول أخرى أنها كانت تشعر بحركة قدمها أو أصابعه حركة كأنها تحاول بها كتابة لفظ الجلالة وأن هذه كأنها حركة وليست فكرة يا دكتور فهل هذه أيضًا فكرةٌ تسلطية؟
وهنا كانت الإجابة أو هكذا يجب أن تكون، لا يا ابنتي هي ليست فكرة وإنما حدثا عقليا تسلطيا قد يكون فكرة أو خاطرة أو صورة أو صوتا أو شعورا أو إحساسا (يربك واحدة من الحواس الخمسة)، كتلك المريضة التي كانت تمارس أفعال التحقق القهرية حول غلق أنبوب الغاز، فكانت إذا منعت نفسها من الاستجابة لفكرة أنها لم تغلقه جيدا بدأت تستشعر رائحة الغاز في أنفها، فتستسلم لفعلها القهري وتقوم لتتحقق من غلق الغاز فتجده مغلقا، أي أن الترجمة الأدق لكلمة (Obsession) هي حدث عقلي تسلطي، ونعيد الشروط السابقة هكذا:
في الطبِّ النفسيِّ يوصفُ حدث عقلي ما بأنه حدث عقلي تسلطي أو وسواسيٌ إذا توفرَّتْ له عِدَّةُ شروط:
1- أن يشعرَ المريضُ بأن الحدث العقلي يَحْشُرُ نفسه في وعْيِهِ وَيفرضُ نفسه على تفكيرهِ رغماً عنه لكنه ينشأُ من رأسِهِ هو وليس بفعلِ مؤثِّر خارجي.
2- أن يوقِنَ المريضُ تفاهَةَ أو لا معقوليَّةَ أو سخافة الحدث العقلي وَعَدَمَ صِحَّتِه وعدم جدارته بالاهتمامْ، لكنه رغم ذلك لا يستطيع كف عقله عن الاهتمام ولا مشاعره عن القلق بشأن ذلك الحدث.
3- محاولة المريض المستمرة لمقاومة الحدث العقلي وَعدم الاستسلام له.
4- إحساس المريض بسيطرةِ هذا الحدث العقلي وقوته القهريةِ عليه فكلما قاومه كلما زادَ إلحاحا عليه، فيقعُ في دوامةٍ من التكرار الذي لا ينتهي (وائل أبو هندي, 2002).
فما هو يا ترى رأي الموسوسين؟ وما هو رأي أصدقاء مجانين من الأطباء النفسانيين ومن غيرهم؟ شاركونا الرأي في الرد على سؤال: فكرة تسلطية أم حدث عقلي تسلطي؟، وأهلا بكم جميعا.
المراجع العلمية:
(1) وائل أبو هندي (2000): الوسواس القهري:مقال منشور بمجلة طبيبك الخاص؛العدد 381 سبتمبر 2000 صفحة 73 إلى صفحة 75 .
(2) وائل أبو هندي (2002): الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ص 3 إلى 13.