تاريخ اضطراب الوسواس القهري (3)
ابن خلدون ( 1332 م- 1406 م ) يذكر في مقدمته أنواعاً جديدة من الوسواس
ونأتي معاً الآن إلى أول ما كُتب عن علم الاجتماع لنلتقي بابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن المجتمعات وتاريخها في مختلف العصور؛ وهو هنا يضيف نوعاً جديداً من أنواع الوسواس وهو ما يمكنني أن أطلق عليه "الوسواس المجتمعي"، ويضرب لهذا النوع بعض الأمثلة ومن أهمها اعتزاز أبناء سيدنا يعقوب عليه السلام (بني إسرائيل) من الأسباط بنسبهم بدون أن يقدموا من الأعمال الصالحة ما يتوافق مع عظيم حسبهم ونسبهم فيقول:
"الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالأصالة:
والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن قال صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".. وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك. وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل. فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت:
أولاً: لما تعدد في سلفهم من الأنبياء والرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب مفتهم وشريعتهم ثم بالعصبة.
ثانياً: وما آتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به. ثم انسلخوا من ذلك أجمع وضربت عليهم الذلة والمسكنة وكتب عليهم الجلاء في الأرض وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين. وما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون: هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة. وكثيراً من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان."
ولا يكتفي ابن خلدون "بالوسواس المجتمعي"، بل يأبى إلا أن يضيف إلينا نوعا آخر منتشر بين الحكام والأمراء والوزراء الخائفين والمتوجسين على مستقبلهم المادي فنراهم يهربون أموال دولهم إلى خارجها، طمعاً في تأمين مستقبلهم في دول أخرى بعيدة عن بلادهم، وهم لا يدركون أن عزهم ومجدهم وغناهم مع أبناء شعوبهم وباستثمار المال في داخل بلادهم وليس في دول أخرى بعيدة عن دولهم وشعوبهم، ولنطلق على هذا الوسواس: "وسواس أهل الدول"، أو "وسواس أصحاب السلطة":
" الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل. فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الجباية معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم فله عليهم عزة وله إليهم حاجة. فلا يطير في سهمانه من الجباية إلى الأقل من حاجته. فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي مملقين في الغالب وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته.
فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم وتقل حظوظهم إذ ذاك لقلة غنائهم في الدولة بما انكبح من أعنتهم وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلىء خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطي ويتسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثلونها.
ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القبيل الماهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار ولكثرة الخوارج والمنازعين والثوار وتوهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدولة.
ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة. ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً وواحداً بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه.
وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حديرة وبني برد وأمثالهم وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا. سنة الله التي قد خلت في عباده. فصل: ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته. وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم.
واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع. فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر.
وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولاً فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل رقبته من الخدمة ضناً بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد وغيرة من خدمته لسواهم. ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الحج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف.
وأما ثانياً فلأنهم وإن سمحوا بحل ربقته هو فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به. ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضاً أو بالقهر ظاهراً لما يرون أنه مال الجباية والدول وأنه مستحق للإنفاق في المصالح.
وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المكتسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة. ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بإفريقية الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فراراً من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده وركب السفين من هنالك وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجواهر حتى الكتب واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئاً فشيئاً بالتعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره.
فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب وإنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهمونة من الحاجة فغلط ووهم. والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة. والدول أنساب لكن:
النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع والله أعلم".
ويختم هذا المفكر العبقري بنوع ثالث من الوسواس أو دعونا نقول عرض من الأعراض الموجودة في الشخصيات الوسواسية القهرية ألا وهو: "وسواس اقتناء الكنوز والتحف والآثار التاريخية"، وقد تكون هذه الكنوز معادن ثمينة أو جواهر وأحجار كريمة أو أثاث أثري أو تحف ثمينة أو تماثيل أو سجاد يدوي ثمين أو مخطوطات أو متعلقات شخصية لبعض الشخصيات التاريخية أو لوحات أو كريستالات أو نجف أو طوابع وعملات نادرة الوجود في زمننا الحالي، وشاء حظنا أن يروي لنا ابن خلدون- وهو قد تولى القضاء في مصر، ودرَّس بالجامع الأزهر- هوس بعض الناس في البحث عن آثار الفراعنة (يطلق عليهم ابن خلدون: القبط)، وما خفي عنهم من الكنوز، لدرجة أنهم يستعينون بالسحرة من المغرب كي يدلونهم على أماكن تلك الآثار والدفائن، ولقد ذكرني كلام ابن خلدون بالعيادة النفسية لسيجموند فرويد في فينا– مؤسس نظرية التحليل النفسي– والذي كان يحتفظ فيها بقطع أثرية تاريخية أصلية ونادرة، وبالذات من آثار الفراعنة، ويدرك دارسو الطب النفسي ممن قرأوا عنن حياة فرويد كيف كان شديد الدقة والترتيب النظام والتفاني في العمل مع مرضاه لدرجة إدمان عمله، ثم مواقفه الصلبة الجامدة مع كل من حاول أن يغير أو يضيف إلى نظرياته في التحليل النفسي مما جعل بعض تلامذته وزملائه يخالفونهه وينشقون على فكره من أمثال يونج وأدلر وغيرهما؛ باختصار كان فرويد من أصحاب "الشخصيات الوسواسية القهرية"، وهذا هو رأي إريك فروم في شخصية فرويد.
المصادر:
- ابن خلدون (2004) . مقدمة ابن خلدون.
ويتبع >>>>>>>: تاريخ اضطراب الوسواس القهري (5)
واقرأ أيضاً:
تاريخ اضطراب الوسواس القهري/ الطب النفسي الإسلامي