في زمن الصورة والكلمة والديجيتال والمجموعات البريدية والشبكة العنكبوتية لن تعدمنا الحيل ولابد أن نفعل شيئاً ".. هكذا تحدد الهدف من القيام بالمغامرة الصحفية النسائية إلى عالقي رفح.. أما "عدة الشغل" فكانت كوتشي وجينز وملابس قطنية واسعة مريحة وكابات وكاميرات (فيديو وفوتوغرافيا) وأجهزة تسجيل وأوراق وأقلام وشوية إرادة وكمية كبيرة من الصبر والتحدي والأمل مع زجاجات من المياه وبعض المعونات الغذائية للحبايب هناك وكام جنيه من اليد القصيرة وحمد الله كثيراً كثيراً على العين البصيرة التي رأت هناك ما لا يخطر ببال ويحتاج إلى كتب وليس مقال!
البداية سجلتها الإعلامية زينات أبو شاويش بدعوة انطلقت من شبكة فلسطين للإعلام والدراسات التي تقوم على رئاسة تحريرها ومعها مجموعة من الإعلاميات من مختلف الصحف والفضائيات والمواقع والإذاعات أيضاً, والتي تزامنت مع دعوة الناشطة إيمان بدوي أحد أهم وأبرز نشطاء الإنترنت على الساحة, ومعها أفراد من مجموعة "افعل شيئاً" أو"do something" التي تديرها.
استطاعت زينات جمع حشد إعلامي منوّع, بينما تمكنت إيمان وفريقها من جمع مواد اغاثية لا بأس بها.. تضافرت الجهود وتلاقت عبر الشبكة العنكبوتية ومنها إلى الأرض وكان الاتفاق هو "حملة إعلامية" ومساندة إنسانية.
انطلقنا جميعا في صباح الأحد 22 يوليو إلى العريش ومنها إلى رفح لنرى ونسمع ما لم يكن يخطر ببال ,ولكننا بعدها لم نستغرب كثيرا لأن اللقاء وببساطة شديدة كان مع لاجئي 2007 على معبر رفح.. نعم.. إنه التاريخ يعيد نفسه!
هذه التسمية ليست من عندياتنا وإنما نطقها أحد العجائر العالقين هناك على المعبر بقوله :"إحنا يا بنتي سمونا كل الأسامي.. مبعدين, لاجئين, وأخيراً عالقين.. وهذا الوضع والله ما بيذكرني إلا بالـ " 48 "!
أوضاع مأساوية لا يمكنك أن تصفها إلابالـ"لاجئية".. لا أدري لماذا تذكرت "رجال في الشمس" الذي تحول من رواية كتبها غسان كنفاني إلى فيلم لا يمكن أن ينساه كل من شاهده حيث كان يحكي أزمة ثلاثة فلسطينيين "علقوا" في خزان مياه فارغ على الحدود العراقية الكويتية في الأربعينات فاختنقوا وانسلخوا بلهيب حرارة قيظ أغسطس وماتوا بداخل الخزان في الصحراء قبل الوصول هرباً إلى الكويت، ولابد و"العالقين بالعالقين" يذكروا أن تتجه ذاكرتك نحو العالقين في مخيم الرويشد على الحدود الأردنية العراقية هربا من ميليشيا جيش المهدي في العراق أيضاً، وكأنه كتب على الفلسطينيين أن يكونوا عالقي هذا العصر!
ما إن تصل إليهم حتى يتملكك الشعور بأنك في معتقل مفتوح إلى السماء.. كل الأعمار موجودة بدءاً من المواليد حتى العجائز في الثمانينيات من العمر.. في مخيمات العريش أسرّة ملقي عليها نساء وضعن مواليدهن للتو فأصبن بحمى النفاس أما المواليد فقد كان حظهن الجفاف, مرضي عمليات القلب المفتوح أوشكت قلوبهم على السكون والسكوت تماماً, ومرضى عيون عميت وابيضت من المرض والحزن, ومرضى إصابات في السيقان أوشكت على الدخول إلى مرحلة البتر.
الجميع هنا "أعزاء قوم ذلوا" يوسف شاب متفوق عائد من بعثة من بريطانيا يقول "كل شيء أصبح قريب منّا المرض النفسي قبل المرض الجسماني", "ما بدنا مساعدات.. ما بدنا أكل ولا شرب.. بدنا نرّوح "صرخة تسمعها هناك من الجميع.. أطفالاً في عمر المدرسة ونساءاً وعجائزاً وشباباً.. أما في رفح فالوضع أكثر مأساوية.. لقطة لم تفت زميلتنا "نوارة نجم".. إنها صرخات يوسف الذي يفترش حصيرة بالية تحت شجرة خوخ بأحراش رفح ويلقي بمحتويات كيس كبير من الأدوية على الأرض "يا عالم احنا بننام في الجوامع وتحت الشجر.. جينا مصر علشان نروح خاسين دم.. جبت بنتي علشان أسوي لها عملية بواسير ومرتي عندها سرطان بالثدي, كان معي 2000 دولار دفعتهم أدوية وما خلصت مشوار العلاج.. وما عندي صحة أشتغل واصرف عليهم لأني أصلا مريض من عشر سنين وبأجل علاجي, وما عاد عندي جنيه أشتري بيه بسكوتة لبنتي.. أبيعها يعني.. أبيع بنتي؟! "وأمام صرخات يوسف وبكاؤه وشروعه في تمزيق أوراق الأشعة وملفات بنته وزوجته الصحية أوشكت الكاميرا أن تسقط من يد نوارة ولم تتمالك نفسها من النحيب والبكاء.. أما زينات الفلسطينية الأصل فقد أطلقت لنفسها العنان لدى وصولنا إلى حدود رفح المقابلة لغزة فهرولت لتعتلي إحدى التلال الرملية وتصرخ بأعلى صوتها وتقبل الأرض: غزة.. شايفاكي يا يما!
حاولت زينات تهريب قدراً محرماً دولياً من فرحتها الممزوجة بالألم فتحدثت إلى والدتها عبر الجوال فتحول المشهد إلى صورة أكثر دراما تيكية.
"ندى" كانت تجلس في مؤخرة الحافلة, فتحت الشباك المجاور لمقعدها وقفزت لدى قربنا من المعبر وتوقف الحافلة وانطلقت صوب الجانب الآخر ولم يوقفها سوي صرخات أحد البدو المارين: "يا مجنونة وقفي هناك حرس ح يطخوكي".
أما إيمان بدوي التي أتعبت فكرها وأدمعت عيناها كثيراً وهي تنظر إلى القدر الضئيل من المال والمعونات الغذائية التي حملناها مقارنة بحجم المأساة فإنها لا زالت تؤمن بأنه لابد من الاستمرار وبأن النشاط الشبكي "الإنترنتي" هو أسلوب "للتحرّك السلمي العملي" وأنه من الممكن أن يكون خط دفاع فاعل عن الحرية، والكرامة، والوطنية, والعدالة، والجهر بالحقّ، والتناصر في المعروف، وأنه يمكنه أن يمثّل خطرا على الاستبداد والاستغلال والفساد والقهر.
وبرغم أن حرارة الجو الشديدة قد ضاعفت لهيب الصورة الممتدة أمامنا.. فقد عدنا مرة أخرى إلى تجمعات العالقين في رفح.. توجهت هديل مراسلة الإذاعة الكندية بميكروفونها إلى "ياسر" شاب في الثلاثينيات من العمر كان ينتحب هو الآخر قائلاً "ما حدا حاسس فينا.. أنا عاجز أحمي زوجتي وأختي وبنتي.. عاجز أوكلهم وأشربهم.. السحالي والفئران بتعدي على روسنا واحنا نايمين في الليل.. ناس تخوتها –أي أسرّتها- جزاز "زجاج" واحنا تخوتنا الرمل؟!"
بعدها أخذت هديل تسألنا العون قائلة: "يا جماعة أرجوكم لو لقيتوا حد من العالقين يتحدث الإنجليزية ضروري تدلوني عليه" وبالفعل عثرنا علي شابين أحدهما طبيب والآخر الشاب القادم من البعثة من بريطانيا.
زميلتنا دينا مراسلة "الديلي ستار أوف ايجبت" افترشت الأرض إلي جوار أنجاد وسهي.."أنجاد" زوجة في العشرينيات من العمر تقول "ولادي ثلاثة هناك يا أختي منهم اتنين توأم رضع وأنا جيت للعلاج.. بدي أروّح لولادي.. يا ريتني أموت حتى أروّح.. اللي بيموت بتروح جثته يا أختي والأحياء لأ" ثم أخذت تهذي مرددة : "اللي بيموت يروّح.. اللي عايش لأ"!
أما "سهي" 35 سنة فقد صرخت قائلة: "ليش بيعملوا لنا مخيمات.. إحنا مش ح نرّوح.. والله هاي مؤامرة.. أنا عندي بيت.. إحنا ولاد ناس إحنا قوادم!
وأخيراً ولأنها لا زالت تؤمن بـ "الحلم العربي" فقد بدت هادئة كعادتها إنها الزميلة الصحفية نور الهدي زكي.. متماسكة, ممسكة بقلمها وأوراقها لا تغادر رسم الأحاسيس ونقش تعابير الوجوه العالقة تماماً كأصحابها!
استلقينا الحافلة مرة أخري للذهاب إلي مقر آخر للعالقين برفح وأثناء مرورنا شاهدنا أهالي رفح يشعلون النار في بعض إطارات السيارات في مظاهرة احتجاجية علي طردهم من مساكنهم.. لم نفهم الأمر توقفنا ونزلنا وتحدثنا إلي بعضهم.. كانوا يصرخون.. "إنهم يريدون اقتلاعنا من بيوتنا, يقولون لنا هذه ليست أرضكم وبدل البيوت ح نعطيكم تعويضات" وكانت المفاجأة أن هناك إجراءات معاينة تجري علي قدم وساق لإزالة بيوت سكان رفح الممتدة علي عمق 3 إلي 5 كم من الحدود حتى الداخل.. أهالي رفح يقولون أن هذا الإجراء هو إجراء أمني بسبب الأنفاق الممتدة تحت هذه البيوت والتي تهدد الكيان الصهيوني, أما العالقين من الفلسطينيين فيفسرون ذلك بأنه التوطين مقابل إهدار حق العودة.. ولا أحد يعلم أين الحقيقة.. الحقيقة الوحيدة الماثلة أمام أعين الجميع هي هدم بيوت علي مراحل ومظاهرات احتجاجية بالمقابل!
عدنا بالفعل مرة أخرى إلى مجموعة من العالقين "ورايا 12 ولد وبنت يا بنتي والله بغزة.. مين يوديني لهم؟ لازم أروح لهم جثة يعني؟ والله احنا هنا جثث أحياء.. جثث أحياء" هذه هي كلمات أم خالد سيدة في الخمسين من العمر.
"صوريني يا خالة.. صوريني".. ببراءة يجري "جاسر" 9 سنوات خلفي يطلب أن أصوره ثم يكمل " احكي معي.. أنا بدي اتكلم خالة.. أنا كنت بالعمرة مع أبوي ووالله أنا شاطر وما بدي أظل هنا وتفوتني المدرسة!"
"انصرونا يا بنات" هكذا نادت علينا الحاجة فتحية, سيدة عجوز في السبعين من عمرها تقول "والله مليح الصحافة تنصرنا.. صورونا يا بنات قولوا للعالم يصحى, والله كل ما تيجي صحافة يخبونا منهم تخباية.. خايفين نتكلم؟! قولولهم أننا بدنا نرّوح.. بناتنا بتولد تحت الشجر وتموت بالحمى وتيتيم الصغار.. هذا ظلم.. حرام!
تنقلت بنا الحافلة بين تجمعات كثيرة للفلسطينيين في الأحراش, حي الصفا, حي النور, حي الإمام علي, الشيخ زويد, فندق السلام.. القصص الإنسانية تكفي كتباً وليس مقالات هنا أو هناك هذه هي الحقيقة المرة وكأنه كتب علينا أن تكون أغلب أحداثنا ولحظات حياتنا انجازات مأساوية واختراعات تعذيبية!
أصابنا الدوار من اللف والدوران فنصحنا البعض بضرورة زيارة الشيخ عبد القادر الغلبان "مختار"- أي عمدة - الفلسطينيين, وبالفعل توجهنا إليه .. شيخ مسن يقيم بالمكان منذ 27 عاماً, ويأوي في بيته 250 من العالقين في بيت متهالك بسيط.. الجميع ممن يفترشون الأرض تجمهروا حولنا أثناء حديثنا معه.. وجه مناشدة حارة لجامعة الدول العربية وللرؤساء العرب للتحرك وإنقاذ من بقي من العالقين, ووصف الأمر بأنه مؤامرة عربية حولت الشعب الفلسطيني إلي شحاتين ومرضي ومتسولين.
وهنا هب أحد الرجال مقسماً بالله أنهم –أي العالقين–يعتزمون اقتحام المعبر إن لم يتم فتحه يقول "والله لندب نفسنا ع المعبر دب ويضربونا بالنار ما بيهمنا.. خلينا نموت شهداء أفضل من ميتة الهوان هاي!".
(يا ليل ما أطولك .. مشيتني حافية
ميزان ما أتقلك .. هديت لي كتافي
دابت حشيشة قلبي لأجلكم.. دابت
والشعرتين السود يا يما.. بروؤسنا شابوا!)
هكذا جاء صدي صوت "ريم بنا" وهي تنشد "يا ليل ما أطولك".. نعم "الليل هنا طويل.. طويل جداً" هذا هو ما شعرنا به جميعا ًحينما جن علينا الليل وليس شعور العالقين فقط.. ربما لأنه ليل ظلم, ليل جوع وعطش وخوف, ليل مهانة وانكسار, ليل الفلسطينيين.. ربما!
ربما كان الليل أيضاً مؤذناً بانتهاء مهمتنا, لكنه في حقيقة الأمريكان مؤذناً ببدءها, فما انتهي هودور مرحلي.. خطوة.. لابد أن تليها خطوات أوسع وأشمل, وربما تكون قضية العالقين هي التي فجرت شرارة هذه الخطوات.
فقد انتهينا جميعا إلي حقيقة مفادها أننا في واقع مرحلتنا الخطيرة الراهنة، علينا أن نجسّد نقلة نوعية واجبة علينا جميعا، من لديه انتماء فكري أم لا ومن له موقع يتحرّك منه أم لا، وهي النقلة التي تتطلّب منّا جميعا أن نطرح قضايا الإنسان ومستقبله، وقضايا الأمة ومصلحتها العليا، فوق سائر الانتماءات، وأنه يتعين علينا أن نتجاوز سائر الذرائع والعوائق والعراقيل.
وأنه لابد من التحرّك الشعبي والأهلي بالإمكانات المتوفّرة التي يمكنها أن تتطور بالإيمان والإخلاص والجهد والمثابرة، فتتجاوز الاعتبارات الشخصية الفردية، والعصبيّات الانتمائية، وإن ذلك كله من شأنه أن يجعل التحرك متميزاً لمن قاموا به ومنشطاً لمن لا تزال تقعد به همته وهواه!
إيمان وزينات ونور الهدي ونوارة وهديل ودينا ونيرمين وندي ورشا وأسماء وكاتبة هذه السطور, بالإضافة إلي رامي ووائل وسمير ومحمد وعبد الرحمن.. على اختلاف الأفكار والأيدولوجيات جمعنا الولاء للدين والوطن والأمة, للإنسان المقهور في عصر انتشار الاستبداد والاستغلال والفساد، والأنانيات والعصبيّات.. ونحسب أننا بهذا الولاء مثلنا الكثرة الكاثرة من أبناء أمّتنا وبناتها، أضعاف ما يمثلّه حزب أو منظمة أو جماعة أو هيئة، واستطعنا صنع تشكيل يضع الولاء المشترك لما تقتضيه المصلحة العليا هو الأساس وبدون ذلك سيظل العالقون عالقين وسنلحق بهم أجمعين!
اقرأ أيضاً:
معاً لنتكاتف ضد المحتل / أبو مازن وأمريكا وخطة لإسقاط حماس / النكبة الأشـدّ خطراً من نكبـة 05/06/1967م / السياسة الإسرائيلية الأمريكية والموقف االمطلوب