من الإمبراطورية العثمانية إلى الدويلات الحماسية العباسية
كانت إمبراطورية عثمانية عظيمة انهارت وتشرذمت، تحت ضربات الإنجليز والفرنسيين، الغالبية العظمى من جنود معارك تحطيم الدولة الإسلامية كانوا عرباً من قبائل الجزيرة العربية. قادهم ضابط مخابرات إنجليزي سمي لورنس العرب، صورته سينما هوليود كأسطورة استقدمت مفاهيم الحرية والاستقلال للعُربان.
مولتهم بريطانيا بسرقة الجنيه الذهبي المصري واستبدلته بجنيه من ورق.. وبدون غطاء يذكر من الذهب!!
بكلمات أخرى "هزمتنا بمالنا وقاتلتنا برجالنا".
زعم الشريف حسين آنذاك بأنها الثورة العربية الكبرى ضد الاستعمار العثماني، وهكذا جَند العُربان ليهاجموا الأتراك، مبشراً بوطن عربي كبير مستقل عن الدولة الإسلامية العثمانية تحت زعامته. التاريخ السري لهذه الحقبة منشور وموجود بكل لغات الأرض لمن يرغب في أن يكتشفه، كيف عمل الشريف حسين وأبنائه -عن قصد أو بدونه- على تمكين بريطانيا من ابتلاع مشرق العرب.
قُتل آلاف العرب والأتراك وغيرهم من المسلمين الذين دافعوا عن بلاد العرب وتركيا ضد الهجمة الغربية وعُربان "الثورة العربية الكبرى". وسقط وطننا العربي الكبير تحت خنجر التمزيق الانجلوفرنسي، ومقابل ذلك أعطيت صحراء شرق فلسطين لأبناء الشريف حسين التي يطلق عليها الآن الأردن.
فور نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا، كشف الثوار الروس للعالم أجمع عن المخطط الانجلوفرنسي القذر المسمى باتفاقية "سايكس بيكو". لحقه مشروع الانتداب البريطاني لفلسطين وبسيطرة بريطانيا الكلية على فلسطين أصدرت وعد بلفور، وسَحقت الثورات الفلسطينية المتعاقبة، واستقدمت مئات الآلاف من اليهود وسلحتهم ودربتهم في فلسطين وفي مستعمراتها العربية.
تمكن الأتراك من تحرير الجزء المحتل من بلدهم الأم، وسُمح لتركيا بالاستمرار والحياة بعد إلغائها للسلطنة العثمانية وإعلانها تحويل البلاد إلى جمهورية قومية علمانية ذات توجه غربي.
الشعب التركي إلى يومنا هذا ينعتنا بالخونة العرب، وتقيم تركيا تحالف استراتيجي عسكري مع إسرائيل وأمريكا دون أي اعتبار لأمننا القومي أو اعتراض شعبي تركي واسع علي ذلك.
سُرقت فلسطين بأرضها ومائها وعقاراتها وسُلمت للمرتزقة الصهاينة، في أكبر عملية سطو مسلح في التاريخ الحديث. الشعب العربي الفلسطيني كان شعب أعزل لم تكن لديه جيوش ولا حتى نواطير، كان تحت حماية وسيطرة السلطنة العثمانية.
المستعمر البريطاني قام بإنجاز مشروع الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، المهزوم أمام أسوار عكا وتحت مزاريب غزة بتحويل فلسطين لدولة يهودية.
دربت بريطانيا العصابات الصهيونية وزودتها بأحدث تقنيات الحرب الجوية البحرية والبرية وحرب العصابات وفنون الإرهاب الدموي، وأنشأت لها كل مؤسسات الدولة والنظم القادرة على الحرب والاستمرار بها لعقود طويلة.
ذُبح المواطن الأعزل في فلسطين وهُجّر من بقي، وتأتي جيوش العرب لإنقاذ أهلهم بجيوش مسلحة بمدافع تطلق قذائف من "القطن"!! غير مُجهزين وغير مُنظمين وبأعداد ضئيلة أمام الجيوش والعصابات الصهيونية عالية التنظيم وكاملة التسليح من الطائرات إلى الدبابات. أُرسلت جيوشنا بقرار سياسي من غير تنسيق أو تنظيم "لرفع العتب أمام الشعب العربي"!!
والنتيجة ذُبح جُنودنا وضباطنا العرب.
هُزمنا وسُحقنا، سُلحت إسرائيل بمصانع حربية فرنسية بريطانية (حتى مفاعل ديمونا النووي ومصانع الطائرات أهدتهم فرنسا للصهاينة)، ومُولت بسيول من المال، ما استكانت إسرائيل عن العربدة فهاجمت غزة وقامت بالمجازر في خان يونس عام 1955.
ومتحالفة مع بريطانيا وفرنسا هاجمت مصر وحيدت سيناء في حرب 1956 عام النكسة الكبرى وبإسناد من الأسطول السادس الأمريكي بعتاده, وبغطاء سياسي أمني غربي كامل، هاجمت إسرائيل كل العرب وأذلت الجميع.
دَفنت إسرائيل أسرانا أحياء في رمال سيناء، أطلقت أبواق الدعاية والبروبغندا العالمية -بعد النكسة الكبرى- على الكيان الذي سيطر على كامل فلسطين وأجزاء واسعة من الوطن العربي "الكيان الذي لا يقهر".
ذاكرتنا الشعبية تخبرنا كيف هَزمت سواعد الفدائيين الفلسطينيين وبإسناد أردني في "معركة الكرامة" هذا الجيش الصهيوني بعد أقل من عام على النكسة شرق نهر الأردن.
في حرب 1973 "رُغم كل مأخذي علي هذه الحرب التحركية ودور أمريكا القذر وبعض الزعامات العربية المتآمرة" إلا أن الجندي العربي أكمل عمل الفدائيين الفلسطينيين في معركة الكرامة، حُطم هذا الجيش الذي فَتحت أمريكا له جسراً من السماء، كي تقلب موازين المعركة.
تصدت له نفس المجموعات الفدائية في بيروت عام 1982 وهو معزز بالجيوش والسفن الحربية الأمريكية البريطانية والفرنسية، ولم يزد تعداد الفدائيين آنذاك عن بضعة آلاف، لقد جسدوا أعظم مشاهد الصمود والتحدي المقاوم في ذاكرتنا القومية أمام جبروت الغرب والصمت العربي الذي لا زال يدوي...
شاهدنا كيف دحرته المقاومة اللبنانية من جنوب لبنان في عام 2000، وكيف هزمته المقاومة الفلسطينية في غزة في 2005 وجعلته يهرب منكسراً. أتي حزب الله بمقاومته "الأسطورية" على آخر مقولة من مقولات البروبغندا الغربية لقد هزم كل تشكيلات الجيش الصهيوني براً وبحراً وجواً في تموز 2006.
إلى اليوم أسمع صدى هذه المعركة في شوارع أوروبا، حين أرى بعض الشباب الأوروبي الغربي يرفع قبضته في الهواء ويطلق أمامي صيحات تردد "هزب الله" احتراماً للمقاوم الأسطوري في جنوب لبنان.
المقاومة في غزة تصمد في 2008 و تبعثر خطط الصهاينة، رُغم الحصار والتجويع، والسجن الكبير، تصنع محلياً سلاحها وتبتكر طرقاً للوصول للعدو، في غزة خنجر الأخ مغروز بين الضلوع، ولكنها لازالت شامخة وتقاوم.
هنا وبعد هذه الوقائع التي لا تستطيع حجبها أو تحريفها أو تزويرها أو تأويلها كل مصانع الدعاية المحلية والعالمية، أين نحن من هذه الحقيقة الساطعة؟؟؟ والقائلة ذلك كله تم بشرط واحد مركب وأساسي: الرغبة الشعبية في التغيير وهزيمة الصهيونية وسحقها من بنت جبيل إلى رفح وذلك من خلال المقاومة والإرادة الجماهيرية الواعية. لقد احترمت المقاومة هذا الإجماع المقاوم في لبنان وجسدته في بناء منضبط صلب ومرن لا تمزقه المؤامرات الغربية أو أذنابها من الرسمية العربية، فسكنت قلوبنا وعقولنا.
في حين شذت بعض تنظيمات المقاومة الفلسطينية في غزة عن أعراف المقاومين وتصادمت مع ذاتها الوطنية والإسلامية، وتجاهلت بمجموعها أنــها تشكلت معبرة عن الرغـبة والإرادة الشعـبية المقاومة. ونتيجة لعـربدتها في غزة وسـقوطها في رام الله حتماً ستُفضي بها إلى الشطب الكلي من ذاكرة الإرادة الشعبية بشقيها الوطني والإسلامي.
الثوار فصيلة من البشر تقترب من مصاف الأنبياء والقديسين، و قتلهم أو استباحة حرمتهم والتمثيل بجثثهم لا يصدر إلا عن ذئاب بشرية وشياطين داخل أجساد آدمية.
نحن عندما خرجنا ثورةً على الظُلم والاستعباد والقهر والطُغيان كنا حرباً على مُجسدي ذلك من احتلال وإمبريالية ورجعية، كان الإنسان العربي هو بؤرتها… كانت ثورة لتحرير وتطوير الإنسان… ليس فقط لاستعادة الأرض.
أنتم تعيدون التاريخ بنا إلى دويلات المماليك، فتتحالفون مع الأعداء ضد أنفسكم وضد من دفع بكم للأمام لتمثيل حقه المقاوم، الضفة الغربية وغزة كيان مُحتل، أقمتم فيه الدويلات!!!
وأحييتم فيها سوالف الشراذم و جماعات الحشاشين، ورجعتم بوعينا الشعبي إلى عصور الجاهلية التي تنأى بنا عن الوفاق الوطني. أخرجتم علينا قادة لا يستطيعوا كتابة الحروف الأولى من أسمائهم، في عصر ثورة المعلومات الرقمية المعولمة (مع العلم قبل أن تفرضوا أنفسكم علينا بالنار والدولار، كنا من أكثر شعوب الأرض علماً و تعلما وهذا بشهادة الأمم المتحدة).
خونتم المناضلين وأبعدتم المتعلمين وأقفلتم أفواه المثقفين وفتحتم أفواهكم للدول المانحة "لله يا محســــنين". ترغبون بحكومات ووزارات توزع الجوع علي الأفواه, وتستَعبد شعب مُحتل يقبع داخل مدن وقرى مُحاطة بالأسوار والأسلاك الشائكة المكهربة والمراقبة بكاميرات إلكترونية تطلق الحمم علينا آلياً، حتى البوابات أنتم يا وزراء ويا زعماء لا تقدرون على الاقتراب منها أو عبورها بدون تصاريح من جندي في جيشهم, أنتم لا تبصرون أبعد من أنفوكم المزكومة، فأنتم في حقيقة الأمر في غزة وفي رام الله، لستم أكثر من سجانين لشعبكم وقائمين علي توفير أمن الصهاينة الملاعين، انظروا حولكم وشاهدوا ما حل بشعبكم "حتى لو كانت نيتكم سليمة، العبرة في النتائج" آلا ترون ما فعلتم به!!! حتى الكرامة فأنتم تحطمونها...
التجربة الجزائرية والفيتنامية وحتى الأيرلندية، كلها حاربت إمبراطوريات عظمى وانتصرت، الشرط الوحيد الذي جَسد هكذا انتصارات كان الوحدة الميدانية للمقاومة المُجسدة لرفض الشعب الواعي للمحتل، والمرهفة السمع لإرادة الشعب، فاستمالت عقول وقلوب شعوبها. أما أنتم فتعملون بأفعالكم على شطب هذا الرفض الشعبي المقاوم، أضحى لا وجود لكم بالعقول فما بالكم بالقلوب! ما المانع لدى كل من قَتل وعَذب أو جرح أخ أو أخت فلسطينية، بأن يرتمي عند أقدام ذويهم طالباً السماح والعفو، فهذا الرجل أب وأخ وجد وأسير ولديه الشهداء، هذه أمي وأمك، أختي وأختك، هم أنا وأنت، ما المانع لديكم؟؟؟
يا قادة هذا العصر البائس، كثير من معارك الثورة الفلسطينية التي وقعت مع بعض الأنظمة العربية، كانت تحت شعار حماية القرار الوطني الفلسطيني المستقل. لنحمي ما سمي من قبل بعض الأنظمة "ببدعة القرار الفلسطيني المستقل". لماذا إذن سلمناه لـ "ديك تشيني" لم أعلم يوماً أننا عشاق عيونه الزرقاء. تهاجمون اتفاقيات لم يجف حبرها بعد، كما حدث في صنعاء، وتُحبطون شعب تعلقت أهدابه بمصالحة بين الأخوة "الأعداء"، حتى قرارنا أضحى مرهون لدول أجنبية… العيون الزرق قتّالة!!!
الشعب الفلسطيني لن يرهن مستقبل أطفاله مقابل رواتب 150 ألف موظف تأتي من الدول المانحة، هذا الشعب الذي أعطاكم حتى أطفاله الرضع، لا يريد سلاطين ولا شيوخ أو جزارين.
لو رغب بذلك لما قاوم عبر التاريخ الإسكندر الأكبر المقدوني ودحره, أو نابليون بونابرت ورده علي أعقابه، العالم كله يعرف تاريخنا ومآثرنا إلا أنتم عشاق الكراسي في غزة ورام الله، هذا طالعنا السيئ الذي أتى بكم تشيدون دويلات لشعب مستعمر في أرض محتلة، أنها لسابقة تاريخية حقاً، عجبي!!!
أن شطب السلطة الفلسطينية التي نتجت عن اتفاق مبادئ لم يحترم منهم ولا حتى عُشر مبدأ، أضحى أمراً ملحاً وشديد الأهمية لإنقاذ شرف وكرامة الشعب الفلسطيني، ديمومة هذا الوضع يصب في صالح فئة فُرضت علينا.
الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال كان يقاوم وحاله أفضل من الآن بمراحل على كل الأصعدة المادية والمعنوية، كان العالم من اليابان إلى موزمبيق يساندنا، والكثير من شباب الشعوب الغربية والشرقية يتغنون بنا وبثورتنا، وقاتل بعضهم في صفوفنا وسقط بعضهم دفاعاً عنا، ويتزين شبابهم بكوفيتنا الفلسطينية بفخر واعتزاز.
ما الذي تبدل؟ وبالذات بعد حرب الإجرام التي حدثت في غزة، حتى العرب والمسلمين يشيحون بوجوههم عنا، فمن يَقتل أهله لا أحد يصادقه.
لتسقط رموز هذه الحقبة وإفرازاتها الآن وليس غداً، قلنا شعبنا كان أحسن حالاً بكل المقاييس قبل سلطتكم، وحتماً سينجون من الفقر والجهل الذي حط عليهم بقدرة عبقريتكم السياسية وشجاعتكم في قتال بعضكم البعض، شعبنا سيرمم صورته النبيلة التي تشوهت بأفعالكم الهمجية.
نحن لن نرهن حقنا في فلسطيننا من أجل رواتب لسلطة فاسدة حتى النخاع ومناطقية وعشائرية، تفرض منطق التشرذم من أعلى الهرم الرسمي الفلسطيني.
لن نفرط بشبر من ترابنا بوهم تفاوضي هو السراب بعينه، بشائره هي بقاء الاحتلال وتوزير فلان أو ترئيس علان على شعب أنهكتموه وقمعتموه باسم معارك التـــحرير تارة وباسم الديــــن تارة أخرى.
د.صائب شعث (مفكر عربي وكاتب متخصص بشئون العالم العربي)