برنامج وثائقي بريطاني يكشف أكبر عملية تزييف آثار في اسرائيل، أكاذيب إسرائيلية هدفها تثبيت أحقية اليهود بأرض فلسطين
عرض التلفزيون البريطاني قبل أيام برنامجاً وثائقياً كُشف فيه النقاب عن عملية تزوير معقدة أبطالها بعض الخبراء وتجار التحف في إسرائيل. لكن خطورة محاولة التزوير هذه, والتي خدعت كبار المؤرخين والباحثين في الدراسات التوراتية, أنها تستخدم لتثبيت المزاعم بأحقية اليهود التاريخية بأرض فلسطين.
كان جاك استروك, طبيب الملك لويس الرابع عشر, أول من لاحظ أن أسفار موسى الخمسة في التوراة مؤلفة من مصادر مختلفة جداً. ثم طرح المستشرق الألماني فيلهاوزن (1844- 1948) نظريته القائلة إن هذه الأسفار الخمسة جُمعت بعد سبي اليهود إلى بابل, وليس قبل هذا التاريخ. فسُمّيت نظرية فيلهازون هذه بالنظرية الوثائقية. ثم توصلت الدراسات التاريخية, التي تعززت بالتنقيبات الآثارية على أيدي علماء غربيين أول الأمر, ثم إسرائيليين في ما بعد إلى النتائج المذهلة الآتية:
أولا: أن "تاريخ" الآباء الإسرائيليين, كما جاء في التوراة, مجرد أسطورة.
ثانياً: أن الإسرائيليين لم يقيموا في مصر, ولم تكن لهم قصة خروج من مصر. ولم يغزوا أرض كنعان.
ثالثاً: أثبتت الأبحاث الأركيولوجية (التنقيبات الآثارية) أنه لم يكن هناك أي ذكر لإمبراطورية داود ـسليمان (على نحو ما جاء في التوراة). وجاءت المكتشفات الآثارية منسجمة مع استنتاجات الدارسين والناقدين للتوراة، لقد كان كل من داود وسليمان التوراتيين حاكماً لمملكة قبلية تسيطر على رقعة صغيرة, الأولى في الخليل, والأخرى في القدس.
رابعاً: والأهم من هذا كله, أن المنقبين عثروا على نقوش مدوّنة باللغة العبرية القديمة تتطرق إلى ذكر "يهوه وزوجته أشيرة" أي أن إله إسرائيل (القديم) كانت له زوجة.
ويرجع تاريخ هذه النقوش إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وهذا يعني أن إسرائيل لم تعرف الديانة التوحيدية قبل هذا التاريخ. وهو يأتي معززاً لآراء عدد من المؤرخين, خارج إسرائيل وداخلها, من أن الديانة التوحيدية الإسرائيلية لم تكن أقدم من مرحلة السبي البابلي (الذي حدث في القرن السادس قبل الميلاد), وأنها مستوحاة من تطور الأفكار الدينية في بابل وفارس.
لكن هذه الأدلة لا تأتي على مرام المؤسسات الرسمية في إسرائيل, حتى المحافظين المسيحيين الذين يؤمنون بحرفية التوراة. ويبقى اللهاث وراء الأدلة التي تعزز الروايات التوراتية حول عراقة الدولة الإسرائيلية, نشطاً حتى في إطار ليّ عنق الحقائق, أو تزييفها. وكان آخر محاولات التزييف اللوح الآثاري الذي يُفترض انه يقدم دليلاً على تأريخية معبد سليمان, وهو الذي كان محور البرنامج التلفزيوني الوثائقي الذي بثته القناة البريطانية الرابعة أخيراً.
اللوح المزوّر
في اجتماع سري في العام 2001 عُرض على عدد من علماء الآثار الإسرائيليين البارزين, لوح آثاري مذهل. كان هذا لوحاً حجرياً يرقى على ما يبدو إلى عام ألف قبل الميلاد, وعلى صفحته الأمامية كتابة تتحدث عن ترميمات أُجريت على معبد الملك سليمان. وإذا صح ذلك, فإن هذا يُعتبر أول دليل آثاري ظهر حتى الآن حول هذا المعبد الأسطوري. وأثارت هذه "اللقية" ضجّة واهتماماً.
لأجل الوثوق في صحته, نُقل اللوح إلى الدائرة الجيولوجية في إسرائيل. وبعد إجراء العديد من الفحوصات, التي اشتملت على الفحص الكاربوني الشعاعي لتحديد زمنه, أعلن العلماء رسمياً أن الحجر حقيقي (غير زائف). وقد كشف الفحص أيضا عن وجود جسيمات ذهبية صغيرة جداً في الطبقة الخارجية من الحجر. ويُفترض ان هذه الجسيمات الذهبية هي ما تخلّف عن الحريق الذي تعرض له المعبد بعد أن سبى البابليون أورشليم في 586 ق.م.
ثم عُرض اللوح الحجري على المتحف الإسرائيلي لشرائه. وقيل أن السعر الذي طُرح كان عشرة ملايين دولار. بيد أن المتحف أراد أن يعرف من أين جاء الحجر, لأن حامله كان إنسانا يدعو الى الشبهات. ثم سرعان ما اختفى اللوح... وبعد البحث الذي استغرق تسعة اشهر, تعرفت السلطات الإسرائيلية على مخْبر خاص استؤجر من قبل جامع آثار قديمة يدعى أوديد غولان.
ولدى استجواب هذا الأخير, أفاد بأنه كان واجهة لجامع آثار آخر. بيد أن السلطات لم تصدقه. وكان أوديد غولان هذا صاحب صندوق حجري (لدفن عظام الميت) عُرف بصندوق يعقوب (أخي عيسى المسيح), وهو من اللقى الآثارية المثيرة أيضاً, ظهر قبل عامين, كانت عليه كتابة تشير إلى اسم يعقوب أخي المسيح. فداهمت السلطات شقة غولان وعثرت على صندوق العظام والحجر الغريب. وتقرر هذه المرة إخضاع هذين الأثرين للفحص الدقيق لمعرفة حقيقتهما.
لدى الدراسة اللغوية لنص الحجر المكتوب بلغة عبرية قديمة, توصل علماء اللسانيات إلى أن هناك عيباً لغوياً فيه. فهناك عبارة باللغة العبرية تعني الآن "تم ترميمه" لكنها في العبرية القديمة تعني عكس ذلك تماماً: "تم تدميره". فاستنتج العلماء بأن هذه الكتابة دُونت الآن من قبل إنسان معاصر يجهل المعنى القديم لهذه العبارة. فليس يُعقل أن يشير من قام بترميم معبد سليمان إلى أنه قام بتدميره. (الكتابة على اللوح منسوبة إلى الملك الإسرائيلي يهوشاع الذي تفيد التوراة بأنه رمّم المعبد بعد دماره).
أما جيولوجياً, فقد أُحيل الحجر إلى يوفال غورين, العالم في جيولوجيا الآثار رئيس المعهد الآثاري في جامعة تل أبيب. وسرعان ما اكتشف أن هناك فريقاً من المزيفين البارعين الذين ضلّلوا الخبراء السابقين الذين فحصوا الحجر. واتضح أن "الباتينا" Patina, أو غشاء العِتق (الغشاء الذي يكسو مادة ما بأثر القدم وغالباً ما يكون أخضر اللون) صُنع حديثاً. وان جسيمات الفحم الكاربوني التي قُدّمت دليلاً على التاريخ الكاربوني الشعاعي أُضيفت إلى الحجر, وإن الأجواء الذهبية كانت إضافة حديثة بارعة أيضاً. وبذلك توصل المسئولون إلى أن اللوح الحجري وصندوق العظام كانا كلاهما زائفين.
لكن من كان صانع هذين الأثرين الزائفين وكيف؟
قرر الدكتور يوفال غورين الكشف عن الحقيقة. وبحث بنفسه عن أصل الحجر, الذي اتضح أنه أخذ من قلعة بُنيت في أيام الصليبيين, وتوصل أيضاً إلى العملية التي تم بواسطتها صنع الباتينا (غشاء العِتق) والمواد التي استُعملت, كما توصل إلى أن من بين المزيفين كان خبراء في أمور كثيرة.
وعندما ألقى البوليس القبض على أوديد غولان وفتشوا شقته, عثروا على ورشة (مشغـل) مع عـدد غـير قليـل من الأدوات والمواد و"اللقى الآثارية" التي كانت في طريقها إلى الإنجاز. فكان هذا دليلاً على أن العملية كانت تجري على نطاق أوسع مما توقعوا.
وتوصل المحققون إلى أن جامعي الآثار في العالم دفعوا مئات الآلاف من الدولارات على لُقى مزيفة وصلت إليهم من طريق وكلاء أوديد غولان. وتم فحص العشرات من هذه المواد على يد الدكتور يوفال غورن, فاتضح أنها كانت زائفة كلها, فدعا هذا البوليس إلى الاعتقاد بأن اللُقى التي تم صنعها على أيدي فريق المزيفين نفسه وجدت طريقها إلى متاحف مهمة في العالم.
ويعتقد الآن بعض علماء الآثار أن كل ما وصل إلى السوق في السنوات العشرين الأخيرة من مصدر غير محدد ينبغي اعتباره زائفاً.
وان الكثير من هذه المواد, مثل اللوح الحجري الذي تم الكشف عن بطلانه, يأتي في إطار الرغبة لدى جامعي الآثار في البرهنة على أن ما ورد في الكتاب المقدس من روايات تاريخية, لا سيما تلك التي ترقى إلى المرحلة الأقدم, حقيقة تاريخية.
المصدر: فلسطين اليوم