مقدمة
ملاحظة لفتت انتباهي كلما جلست مع إحدى صديقاتي أو معارفي المتزوجات، أو كلما جمعنا حوار حول الزواج والعلاقات بين الزوجين، فأجد التنهيدات الحارة، أو التعليقات الساخرة من قبيل "يللا كلنا لها" "مفيش حلاوة من غير نار"، وحينما كنت أتحدث يوما حول تصوري لهذه العلاقات وجدتهن يتغامزن بلغة يبدو أنني الوحيدة التي لا تفهمها ثم قالت إحداهن "معلش لسه عندها أحلام البنات الخيالية"، وبدا الأمر أوضح حينما وجدت إحداهن وهي تقاربني في العمر تشكو حالها وبعد حوار طويل حاولت فيه أن أوصل لها أن الأمور قد تكون غير ما تبدو قالت لي "يا عزيزتي أنا لست حالة خاصة فكرة السعادة في الزواج هذه فكرة خيالية رومانسية مثل فكرة الفارس على الحصان الأبيض، الرجال كلهم كده أنت فقط لم تجربي"!!! وكانت إجابتي لها رغم حيرتي: أحاول أن أصدقك عزيزتي لكنني أصدق كتاب ربي أكثر بكثير والله تعالى وصف العلاقة الزوجية بوصف دقيق ".... جَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً....."(الروم:21) فكيف لي أن أقتنع بأن السعادة الزوجية هي الاستثناء وأن الأصل غير ذلك؟
ومنذ ذلك الوقت قررت أن أبحث بنفسي عن أسباب هذه الشكاوى التي أصبحت كثيرة هذه الأيام بدرجة لا نستطيع فيها اتهام الأشخاص كالزوج أو الزوجة قدر ما أحسب أن علينا اتهام المفاهيم التي من خلالها تنبعث التصرفات والأحكام على كل الأمور، ومقالاتي القادمة ستكون بإذن الله محاولة متواضعة مني للبحث في الأسباب الحقيقية لغياب الروح من بيوت الكثيرين ثم محاولة لتقديم حلول تميل إلى العملية والواقعية قدر الإمكان، وإن كنت لن أغفل التأصيل من مقالاتي لاعتقادي أن مفاهيم الإنسان وقناعاته هي المحرك الأكبر للتغيير الحقيقي والفعال، وهذا جهد المقل وبالله التوفيق.
وصفة نبوية
كثيرا ما تنشأ المشكلات ما بين الزوجين نتيجة لعدم استيعاب كل طرف طبيعة الآخر (المختلفة عنه بالتأكيد) واحتياجاته، وخلال سماعي لكثير من المشكلات التي يحسب كل طرف فيها أن الآخر يتعمد إيذاءه ألمح أن المشكلة الأساسية تكون كامنة في عدم فهم كل طرف احتياج الآخر.
وسألت نفسي ما الذي يحتاجه الزوج من زوجته؟ وخلال رحلتي في البحث سطعت في عقلي عبارة لأكرم الأزواج وأفضلهم بين الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أضعها بين يدي الزوجات وصفة ذهبية للسعادة الزوجية.
فحينما غارت عائشة رضي الله عنها من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المتكرر لخديجة رضي الله عنها قالت له: "هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: (لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء) [مسند أحمد 6/118 ـ ابن حجر في فتح الباري 7/140، 9/327 ـ ابن كثير في البداية والنهاية 3/126]......".
هذه الأدوار التي قامت بها الزوجة الحكيمة خديجة رضي الله عنها أثرت في قلب من؟ في قلب سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فحمل قلب النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا الوفاء لزوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها بسنوات بل وأعلن بوضوح ورغم زواجه صلى الله عليه وسلم من غيرها بل ومن البكر عائشة رضي الله عنها قرة عين رسول الله ومهجة فؤاده، إلا أن البصمات التي تركتها خديجة رضي الله عنها (والتي كانت تكبره بعقد ونصف) لم تمحى من قلبه صلى الله عليه وسلم فأعلن للجميع أن لا أفضل من خديجة.
وحينما قرأت في كتب العلاقات الزوجية المترجمة عن الغرب وجدتهم يشرحون ذلك فيقولون، خطوات ذهبية للوصول لقلب زوجك:
أولا: المرأة تحتاج من الرجل العاطفة أما هو فيحتاج منها التقدير والإعزاز.
ثانيا: شاركي زوجك اهتماماته، وإن لم تكن في دائرة اهتمامك.
ماذا فعلت خديجة رضي الله عنها؟ قدمت لزوجها صلى الله عليه وسلم التقدير في لحظة كذبته الأغلبية، وكانت كلماتها رضي الله عنها الواثقة حينما جاءها زوجها صلى الله عليه وسلم يرتجف من الغار، فإذا بعباراتها الحكيمة تهدئ روع نبي الأمة ويشاء الله أن تكون هذه الزوجة هي وسيلة التثبيت الأولى في حياة نبي البشرية إلى يوم الدين لتتعلم الزوجات أنهن قد يكن المؤثر رقم واحد في حياة أزواجهن.
"اسمعوا" معي كلماتها ولا أقول "اقرؤوا" فكأني أسمع نبراتها الواثقة المليئة بالحنو والعاطفة وهي تقول:
"كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".
الزوج في لحظة ضعف، بل وحيرة يخشى أن يكون ما رآه في الغار ضربا من الجنون فإذا بالزوجة المحبة تعدد عليه ما تراه وتعلمه من مزاياه بلغة واثقة أن مثله لا يضيعه الله أبدا.
ولو تأملنا قليلا في الموقف لوجدنا أن خديجة رضي الله عنها كانت تراه كذلك فعلا وتفخر به وكان ذلك الموقف موقفا حكيما منها للتعبير عن تقديرها وفخرها وعلمها بمزايا زوجها.
وبالمقابل نجد كثيرا من الزوجات اللاتي يتفنن في الإسهاب في وصف عيوب الزوج حينما يخطئ، أو التعليق على السلبي دائما حتى في أمور الحياة اليومية فكنت أجد إحداهن يدخل زوجها يحمل صنفا من الفاكهة أو شيئا للمنزل ويقدمه لها بابتسامة فأجدها تنشغل بفحص جودة الفاكهة أو الهدية والتعليق على السلبيات أو السؤال عن السعر ثم قد ينتهي الأمر ببعض عبارات التأنيب لسذاجته في الشراء، وفي كثير من الأحيان لا تقصد الزوجة عدم تقدير الزوج قدر ما تكون تعبيراتها عملية بشكل كبير، لكنها بذلك تغفل احتياجا دقيقا عنده، ومع تراكم المواقف نجد الأمور تتوتر وعادة ما تتضح في محاولة الزوج الاستبداد بالرأي واستخدام السلطات بتعسف وهو يقول "حقي"، وكثيرا ما يكون أساس ذلك شعوره المستمر بعدم تقدير زوجته له ولكل ما يفعل حتى إن إحداهن كانت كلما رأت زوجها ينشغل بجهاز الكمبيوتر مثلا جعلت تنتقده وتكيل له الاتهامات، وحينما يشعر الزوج بعدم تقدير الزوجة له تبدأ الأزمة ويبدأ الشرخ.
سمعت هذا التعليق من أحد الأزواج خلال خلاف له مع زوجته، قال: العالم كله يحترمني ويقدرني وهي الوحيدة التي تنتقدني على الدوام، يبدو أنها لا تجد في فارس أحلامها.
عزيزتي الزوجة: خديجة رضي الله عنها علمت أولا مزايا زوجها، ولاحظي أنها لم تذكر مزايا خاصة بتعامله معها بل مزاياه في التعامل مع الحياة، ويؤسفني أن أقول إن كثيراً من الزوجات لا ترهق نفسها كثيرا لمعرفة مزايا الزوج، أو تقيس مزاياه بحسب ما يقدمه لها شخصيا من عاطفة ولا تنشغل بمجالات عمله أو أهله أو مجتمعه.
ثم عبرت لزوجها عن هذا التقدير ليس بحديث مفتعل بل بثقة كبيرة ثبتته حال الأزمة ودعمته حال الضعف.
ثم إنها شاركته اهتمامه فقامت معه لابن عمها ورقة ابن نوفل، فلم تسفه من الأمر، بل ولم تقل ربما كان وهما عارضا وسيزول وطالبته بالتناسي مثلا، بل فهمت الزوجة الحكيمة حجم تأثير هذا الاهتمام في حياة زوجها فسارعت لمشاركته فيه بكل ما أوتيت من قوة فتربعت على عرش قلبه صلى الله عليه وسلم بلا منازع.
لم تكن خديجة رضي الله عنها مثل كثير من الزوجات اللاتي نراهن اليوم -أقول لم تكن نموذج الزوجة القابعة في المنزل بعيدة عن كل اهتمام لزوجها فإذا عاد إليها بعد يوم حافل وجدها في واد بعيد فيضطر إلى الصمت ويظل يتهمها بالتقصير الذي لا تفهمه هي-، بل لاحظي أيتها الزوجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لحظة الخوف والضعف لم يلجأ لأحد من أهل الأرض إلا لشريكة حياته خديجة رضي الله عنها وقارني ذلك بما يحكون عنه من ظاهرة الصمت الزوجي التي تعاني منها الكثير من البيوت.
وأدعو كل زوجة تبحث عن السعادة الزوجية أن تقيس كلماتي على حياتها حتى في المواقف اليومية العادية لترى حجم قربها أو بعدها عن اهتمامات زوجها، وحجم تعبيرها عن تقديرها له بالمقارنة بتعبيرها عن ما تنتقده فيه.
مع تمنياتي بكل السعادة والرخاء.
وإلى لقاء قريب مع: "سادتي الرجال...... هوناُ"
واقرأ أيضاً:
أطفالنا: القضية الفلسطينية / التكافؤ بين الزوجين أحد مقومات الرباط الزوجي / فن إدارة الخلافات الزوجية / رسالة إلى الزوجات: قلب زوجك (2) / سر الخلافات الزوجية المتكررة