المشي على حبل مشدود
من هنا تبدأ العلاقة بين الطبيب وشركات الأدوية!!
تبدو العلاقة بين الطبيب وشركات الأدوية للوهلة الأولى علاقة بسيطة وبريئة ومنطقية؛ فشركات الأدوية هي المنتجة للأدوية التي يصفها الطبيب لمرضاه، إذن لا بد من وجود علاقة، وهي أن تقوم شركات الدواء بإعلام الطبيب بطبيعة الدواء الذي تنتجه ودوره حتى يعلم الطبيب بوجوده ويستطيع كتابته لمريضه حتى تتحقق الفائدة التي يبتغيها الطبيب للمريض وهي الشفاء أو التحسن حسب طبيعة المرض، وبالتالي يأتي مندوب الشركة إلى الطبيب في عيادته أو مستشفاه ليعلمه بوجود الدواء بصفة شخصية أو أن يكون هذا بصورة جماعية من خلال اجتماع للأطباء يقوم فيه مندوب الشركة بشرح كيفية عمل الدواء والجميع يعلم أن هذا بمثابة اجتماع يتحاور فيه الجميع حول الدواء بحيادية فالأطباء السامعون يتداولون المعلومات بينهم ويناقشون مندوبي الشركة من أجل مصلحة المريض، كل هذا يبدو طبيعيا وبريئا، فمن أين تبدأ المشكلة؟ ومن أين بدأ تباعد نقطتي الزاوية؟!
البداية
بدأ من أن مفهوم الإعلام العلمي اختلط بمفهوم الدعاية التسويقية وبدا الأمر أيضا في البداية بسيطا؛ فمندوب الشركة يوزع أقلاما وميداليات وأجندات وغيرها من وسائل الدعاية على الأطباء ليتذكروا الدواء، هكذا يبدو الأمر بريئا جدا لا يكاد يلتفت إليه، ولكنه اللعب على النفس البشرية الشرهة، فالقلم والأجندة لهما أثر في النفس لا علاقة له بالعلمية برغم أنفي وأنفك؛ لأن الصورة بعد قليل أصبحت حقا مكتسبا ومغنما يسأل عنه الطبيب المندوب: أين الأقلام؟ أين الأجندات؟ وفي السؤال اللهجة المهددة: من أكثر مني كتابة لدوائكم؟!
وأيضا المندوب من الناحية الأخرى يمنح ويمنع، ليتقابل الطبيبان:
* من أين هذه الأجندة؟
** إنها من شركة كذا.
* كان مندوبها عندي بالأمس ولم يعطها لي سنته سوداء.
أو تصله الرسالة الخفية: "إنك لم تكتب الدواء بصورة كافية"... هكذا كانت البداية من القلم والكراسة، ولتدخل عينات الدواء المجانية الحلبة أيضا؛ لأن بعض الأدوية غالية الثمن والطبيب يستخدمها لجذب الزبون بإعطائها له أو بيعها له بسعر أرخص، ويبدو طبيعيا بعد الاجتماع -المفترض أنه علمي- أن يقدم الشاي و"الجاتوه" أو حتى الغداء، للحضور في براءة يفتعلها الجميع باتفاق متواطئ... "دا شيء عادي"، ولكن هذا العادي تحول إلى دافع أساسي للحضور والسماع، أو عدم السماع... فهناك غداء... وهناك "جاتوه"، أمور تصلح للدعاية لأي شيء إلا الدواء، لأن الدواء شيء يخص حياة الناس، حتى الآن ما زلنا في البسيط و"الهايف"
ولكنه كان بداية المنزلق الذي كانت خطوته التالية هي أن من يقوم بشرح عمل الدواء لم يعد مندوب الشركة، ولكنه طبيب من الأطباء لا يدري أحد ما هي طبيعة علاقته بالشركة، والأخطر ألا يكون ذلك بشكل مباشر؛ فمن خلال محاضرة علمية خالصة في موضوع طبي يتم تقديم الدواء بشكل حيادي، أو هكذا يبدو للسذج، بحيث يتم ضرب حتى قيم الدعاية، والتي أولها أن يكون واضحا أن ما يتم هو دعاية وليس مادة تحريرية أو علمية بلغة الصحافة والإعلام، وليكن ما يحصل عليه هذا الطبيب يتراوح بين مبالغ مادية أو هدايا عينية أو تسهيلات في المؤتمرات العلمية كل حسب مكانته أو قدرته أو...
المؤتمرات العلمية
ثم تضع شركات الأدوية يدها على المؤتمرات العلمية لتتحول إلى مؤتمرات للدعاية للأدوية على حساب المحتوى العلمي الحقيقي، ولنرى في هذه المؤتمرات العجب العجاب:
1. جلسات كاملة للدعاية لا يقوم بها مندوبو الأدوية ولكن يقوم بها أساتذة الجامعة بما لهم من تأثير علمي، بحيث يبدو الأمر محاضرة علمية وهو في الحقيقة دعاية للدواء... ولا مانع من أن يخرج الأستاذ الدكتور من قاعة ليدخل قاعة أخرى ليقوم بالدعاية لأدوية متنافسة.
2. على اعتبار أن من يقوم برعاية المؤتمرات هو شركات الأدوية فيخضع اختيار من يحضر المؤتمر لمعايير الشركات؛ فمن يصف الدواء بكثرة وأصحاب النفوذ في المستشفيات والعطاءات ومنظمو المؤتمر وحاشيتهم التي قد تصل إلى الأحفاد والخدم على رأس القائمة، في حين يحرم الأطباء الصغار من الحضور المفترض أنه أصلا للأطباء الصغار لرفع كفاءتهم العلمية.
3. تقوم شركات الأدوية أيضا بتمويل الرحلات إلى المؤتمرات العلمية الخارجية والتي تتحول إلى رحلات ترفيهية يتم فيها مكافأة المرضي عنهم من شركات الأدوية، وبالطبع هم الأطباء الكبار أصحاب العيادات الذين يكتبون الدواء أو لهم سلطة في إقرار تداوله في المستشفيات وهكذا....
4. وليكون المشهد داخل أروقة المؤتمر أشبه بالسيرك أو بالمولد؛ حيث تنصب شركات الأدوية ما هو مفترض أنه مقراتها للالتقاء بالأطباء وشرح الأدوية لهم.... لتتحول إلى ساحات لمسابقات وهمية يقوم الأطباء بحلها بمساعدة مندوبي الشركات؛ ليجري السحب بالطبع داخل الجلسة المخصصة للدواء، إنه "اليانصيب... التمبولا..." سمِّه كما تشاء، ولكنه مشهد حضرته إحدى الصحفيات في أحد المؤتمرات بعد أن جاءت تمني نفسها بكم الحصيلة العلمية التي ستحصل عليها؛
فإذا بها ترى هذا المشهد العجيب... وهذا الكم العجيب من الهدايا... وشركات توزع نسكافيه... وشاي... وماء وحلوى... ولم يكن باقيا إلا أماكن للرماية بالبنادق حتى يكتمل المشهد ويصبح مولد سيدي المؤتمر.
ولأن المشهد ما زال به القليل من العلم والتستر وراءه؛ فكان لا بد من أن تصل الصورة لمنتهاها حتى لا يتحجج أحدهم أنه لم يفهم أو يعرف، فكانت المشاهد السافرة القادمة:
1. القيام برحلات ترفيهية سياحية من الألف إلى الياء، لا علاقة لها بأي علم، ولا يتخللها أي كلمة حتى عن الدواء...
2. يقوم الطبيب بحصر عدد علب الدواء التي كتبها، وذلك بأن يطلب من المريض العودة مرة أخرى لينزع جزءا من علبة الدواء الكرتونية أو يأخذ نشرة الدواء من داخل العلبة، وليحصل مقابل ذلك على مقابل مادي مباشر عن كل علبة أو عدد من علب الدواء، وليس العينات ليقوم هو ببيعها بمعرفته إلى زبائنه بسعر أرخص أو غيره، بحيث تكون الصفقة مباشرة لا خفاء فيها ولا التواء.
3. يطلب الأطباء طلبات محددة من مندوبي الشركات، تبدأ من تليفونات محمولة للأبناء وتصل إلى أدوات كهربائية....
4. في أثناء المؤتمرات يتم تنظيم برنامج سياحي خاص لبعض الأطباء الذين يتم اختيارهم من قبل شركات الأدوية، مثل زيارات لأماكن معينة أو حفلات غداء أو عشاء في أماكن خاصة.
5. تكتب الشيكات المدعمة للمؤتمرات باسم منظم المؤتمر ولا توجد أي رقابة على الصرف.
6. ليصبح المشهد الأخير هو تعاقد بعض شركات الأدوية مع بعض الأساتذة على منصب يسمى "المشرف العلمي"، مع احتفاظه بمنصبه الجامعي وهو ما يتعارض مع حياديته كأستاذ؛
ليتحول الأمر من تعاقد بالقطعة إلى تعاقد بعقد دائم تحتكر فيه جهود هذا الأستاذ لشركة بعينها، وفي الغالب لا يتم الإعلان عن هذا التعاقد ليبدو الأمر حماسا علميا بريئا لدواء بعينه وليصل الأمر لعمل أبحاث المفترض أنها علمية... ويتم الحصول على دعم مالي ضخم تحت ادعاء إجراء البحث والذي تكون نتائجه بالتأكيد لصالح الدواء.
7. لم نتحدث عن العطاءات والمبالغ التي تدفع من أجل إدخال دواء واستبعاد آخر بدون قواعد واضحة أو شفافية لما يجري في هذه العطاءات.
لتصبح الصورة في النهاية هي منظومة من الفساد والإفساد لهذا المجال الخطير والحيوي من حياة الناس... (مجال الأدوية) ولتبدأ القصة من الشركات ولتنتهي عند الأطباء الذين شاركوا فيما يحدث في تضامن مرعب بالطبع ضد مصلحة المريض.
الجشع
الجشع من الطرفين هو سيد الموقف، ولا يتصور أحد أنه بعيد عن الأزمة؛ فكما قال أحدهم: من أجل أن تكتمل المسرحية بنجاح فلا بد من وجود جوقة من الكومبارس. والمشاهدون هم في الحقيقة صغار الأطباء أو صغار كبار الأطباء الذين يحصلون على الفتات من الكعكة الكبيرة، وهم يتصورون أنهم أصبحوا كبارا لأنه تمت دعوتهم لأحد المؤتمرات أو أحد الحفلات...
والأمر لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في العيون حتى يستطيع الكبار أن يأكلوا الكعكة وهم في مأمن، لأن باقي الحضور يمثلون الخلفية والستار للمشهد حتى لا يصبح الأمر مفضوحا، ولذا فمن يخدع نفسه أو يمنيها بأنه لا علاقة له بهذا الفساد أو أنه لا يكتب الدواء أو أنه لا يطلب من شركات الأدوية، وأنهم يدعونه لسواد عينيه وحبهم له.. فإنه يحمي نفسه بنوع من التبرير النفسي؛ لأنه لو تمعن في الصورة بصدق مع النفس لأدرك أنه لا يغني عنه شيئا أنه مجرد مسمار صغير في آلة الفساد الكبيرة.. وأن مسئوليته عن ذلك قائمة مهما حاول الإنكار أو التهرب.
حلول مقترحة
والآن... ما هو الحل حتى نصبح عمليين ولا يتحول الأمر لمجرد نقد ورفض دون تقديم حلول عملية، وما سأقترحه هو أفكار مبدئية تحتاج للحوار والنقاش والإنضاج والإضافة حتى نصل إلى ميثاق متفق عليه من الجميع.
1. البداية هي العودة إلى الأصل، أصل العلاقة بين الطبيب وشركة الأدوية، العلاقة العلمية الصريحة الواضحة الخالية من أي مؤثرات.
• المندوب في العيادة أو المستشفى يشرح الدواء في زيارات منتظمة يتفق على عددها حتى لا تثقل الطبيب.
• لا هدايا من أي نوع ولا تحت أي مسمى... لا أقلام.. لا أجندات.. لا نتائج... لا....
• هذه الوسائل ممنوعة طبقا لميثاق وقانون الصيادلة الذي ينص على حظر الدعاية للدواء بأي وسيلة، أي إن المسموح به فقط هو الشرح المباشر لطبيعة الدواء وطريقة عمله بدون أي مؤثرات أخرى.
2. تنظيم الندوات العلمية من الممكن أن يكون تحت رعاية شركات الأدوية، ولكن يتم الفصل التام بين المحاضرة العلمية التي يلقيها المحاضر وبين فقرة الإعلام العلمي التي يقوم بها مندوب الشركة ويكون المقابل لرعاية الشركة للقاء هو تأجير المكان ولا يكون للشركة علاقة بدعوة الأطباء واختيارهم للحضور أو بعمل عشاء أو غيره للأطباء؛ حيث إن الأصل في الدعوة للمحاضرات والندوات أنها عامة حيث إن عدد الحضور في هذه الحالة لن يكون له تأثير لعدم وجود تكلفة إضافية (العشاء... وما شابه)، ويقوم بالدعوة للندوة العلمية... الجهة المنظمة لها سواء أكانت جمعية علمية أو نادي الأطباء أو النقابة، وتنتهز شركات الأدوية فرصة التجمع للإعلام بوجود الدواء وتدفع مقابل ذلك إيجار المكان ولا تقوم بتحضير المادة العلمية لمنع أي علاقة مباشرة مع الطبيب المحاضر.
3. تقوم شركات الأدوية بدعم المؤتمرات العلمية أيضا من المنبع، بمعنى أن الجمعية العلمية للمهنة هي التي تقوم بتنظيم المؤتمرات العلمية ويكون حضورها متاحا لجميع الأطباء بنفس الشكل وتحدد نسبة واضحة للأطباء الشبان؛ لأنه من المفترض أنها أصلا مخصصة لهم لرفع كفاءتهم العلمية من خلال ورش العمل والمحاضرات العلمية؛ وبالتالي فإن لدى الجمعية العلمية المفتوح عضويتها لكل المنتظمين في الفرع كشفا بأسماء الأطباء مرتبا حسب السن والأقدمية والحصول على المؤهل العلمي، ويتم اختيار الأطباء وفق الترتيب في الكشف حسب نسبة كل مجموعة علمية أو سنية، بحيث يكون هناك تكافؤ للفرص بين الجميع، ويحظر تماما اتصال شركات الأدوية بالأطباء أو دعوتهم، ويسمح لشركات الأدوية نتيجة المقابل المادي المدفوع لدعم المؤتمرات بالتواجد في أروقة المؤتمر في مساحات مخصصة للإعلام، ويحظر استخدام الأساليب التجارية من "تمبولا وسحب وغيره.."؛
ويقتصر الإعلام عن وجود الدواء بالأوراق العلمية وتخصص لهم جلسات للدعاية يقوم بها مندوبو الشركات ويحظر تماما على الأساتذة وغيرهم القيام بهذا الأمر، بحيث تستقل الجلسات العلمية تماما عن جلسات الدعاية ويكون هذا واضحا ومعروفا للجميع، وتلتزم الهيئات الصحية أيضا بمراعاة الترتيب وأولويات الاختيار فيمن يتم ترشيحه لحضور المؤتمرات العلمية بحيث يعلم الجميع متى سيكون عليه الدور للحضور.
4. في حالة قيام طبيب أو أستاذ جامعي بالعمل كمستشار علمي لأحد شركات الأدوية يحظر عليه الجمع بين منصبه الطبي أو الأكاديمي وبين دوره الإعلامي والدعائي في شركة الأدوية، وكذلك عند قيامه بالأبحاث لصالح دواء بعينه فلا بد من أن يكون تحت رقابة علمية محايدة، ويتم الإعلان في حالة تقاضيه لمقابل مادي نتيجة الأبحاث.
5. يتم الاتفاق والتوافق على هذه المبادئ، وتضم لميثاق المهنة في نقابة الأطباء ونقابة الصيادلة وتوضع عقوبات واضحة لمن يخالف الأمر، وأيضا للجمعيات العلمية الخاصة بالمهنة. وتتعرض الشركات التي تخالف ذلك للعقوبة من قبل نقابة الصيادلة والتي يمكن أن يصل الأمر بالنقابة لاعتبار ما تقوم به مخالفة قانونية تستحق إبلاغ النائب العام عنها.
6. يعرض الأمر -إن تتطلب ذلك- على مجلس الشعب لسن القوانين اللازمة لتنظيم هذا الأمر بعد جلسات استماع مشتركة بين الأطباء والشركات للوصول إلى الصيغة المناسبة لتنظيم هذا الأمر.
واقرأ أيضا:
ماذا نريد من جمعيتنا المصرية للطب النفسي2 / هل استفاد المريض النفسي؟!(1)