بعد عام من تطبيق القانون الجديد للصحة النفسية
صدر القانون رقم 71 لسنة 2009 المسمى قانون رعاية المريض النفسي في24/ 5/2009 بعد مساجلات امتدت عدة شهور في اللجنة الصحية بمجلس الشعب كان طرفاها الجمعية المصرية للطب النفسي برئاسة الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة ممثلة للأطباء النفسانيين والتي أبدت اعتراضا شديدا على القانون بدء من تسميته ومرورا بعدم الرجوع إليها والاستعانة بها واستشارتها في وضع القانون وانتهاء بالحاجة للدراسة الكافية حتى يناسب القانون أوضاع المجتمع المصري خاصة وأن القانون الجديد قد تم وضعه في إنجلترا ولم يراعي القيم الخاصة بنا على حد قول الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة وكان الطرف الثاني ممثلا في الأمانة العامة للصحة النفسية برئاسة الدكتور ناصر لوزا والذي تبنى القانون الجديد رغم عدم درايته بواقع المنظومة الصحية النفسية ولتظهر خطايا القانون عند التطبيق العملي ولترتبك المستشفيات في محاولة لتوفيق أوضاعها وقيل في تبرير ذلك أن العجلة في تطبيق القانون هو للاستفادة مما يظهر من مشاكل وأخطاء في وضع اللائحة التنفيذية وللمرة الثانية لم يشارك الأطباء النفسيون في المستشفيات والذين اعترضوا على القانون أيضا مرتين مرة عند إقراره ومرة عند تنفيذه ولم تشارك أيضا الجمعية المصرية للطب النفسي في وضع اللائحة التنفيذية رغم الوعود المقطوعة بذلك لتخرج اللائحة التنفيذية بقرار وزير الصحة رقم 128 لسنة 2010 في 29/3/2010 أي منذ شهرين تقريبا فهل أضافت اللائحة التنفيذية شيئا إلى القانون وهل استفاد المريض النفسي؟ هذا ما نحاول أن نوضحه من خلال عناوين ومحطات هامة أبرزها خروج القانون إلى واقع التطبيق العملي.
1) الطبيب المستقل:
استحدث القانون ما أسماه بالتقييم الطبي المستقل ويكاد يكون هو المفهوم الأخطر سواء لمخالفته للأعراف الطبية السائدة في كل فروع الطب أو لما يترتب عليه من إجراءات مكلفة بدون داع حقيقي:
- فالأصل في العلاقة بين الطبيب والمريض هو الثقة وبغيرها لا تنشأ علاقة علاجية بين الطرفين في كل فروع الطب عامة وفي فرع الطب النفسي الخاصة.
والتذرع بأن هناك خصوصية للطبيب النفسي لغياب القدرة العقلية لمريضه ولأنه الوحيد الذي يملك سلب حرية المريض هو ذريعة غير صحيحة لعدة اعتبارات
1 – أنه فيما يخص طبيعة المرض المصاب به المريض ومن ثم طبيعة العلاج المقترح أو الذي يقرره الطبيب فإن جميع المرضى بجميع الأمراض ليس لديهم القدرة على تقييم التشخيص أو العلاج وإلا ما كان هناك طب أو أطباء ومن هنا جاء قسم الأطباء ومن هنا جاء ميثاق الشرف والالتزام الأخلاقي للطبيب لأن المريض بين يدي طبيبه مهما كانت قدرته العقلية لا يملك ضمانا للاطمئنان إلى ما يقرره الطبيب من تشخيص أو علاج إلا ما استقرت عليه البشرية منذ كان هناك طب وأطباء وهو ضمير الطبيب المهني وفي هذا الإطار نظمت نقابات الأطباء في كل أنحاء العالم الإجراءات التي يحاسب بها الطبيب في حالة الوقوع في الخطأ المهني الذي يكون سببه التقصير في اتخاذ الإجراءات اللازمة للتشخيص الصحيح والعلاج الصحيح مع اعتبار الاختلاف في التشخيص أو العلاج في المساحة المعتبرة والمعترف بها علميا في كل تخصص لا تقع في هذا الإطار وتكفلت الجمعيات العلمية المتخصصة في كل فرع من فروع الطب في تفصيل مواثيق الشرف الخاصة بها.
وإلا فماذا يملك مريض يعاني من بعض ضيق النفس أمام طبيبه الذي يقرر له في البداية قسطرة للقلب استكشافية ثم بعد القسطرة يقرر له أن 90 % من شرايينه مغلقة وبالتالي فالأمر يحتاج إلى جراحة قلب مفتوح لتغيير شرايينه...... ليحتجز المريض في المستشفى لعمل العملية الكبرى ويحتجز لشهور بعيدا عن عمله وعن حياته الطبيعية...... هل رأى المريض شرايينه المغلقة وهل لدى المريض القدرة على تقرير إن كانت عملية القلب المفتوح هي أفضل الخيارات ولماذا لم نطلب تقييما طبيا مستقلا ليعمل مقابلة إكلينيكية ويقوم بفحص المريض أولا لتقرير استحقاقه للقسطرة الاستكشافية ثم لإعادة القسطرة للتأكد من مما قرره الطبيب ثم لحضور العملية للتأكيد من أن الطبيب قد قام فعلا بتغيير الشرايين التالفة ولم يكتف فقط بفتح القلب ثم إغلاقه.
وهكذا في كل القرارات الطبية في مختلف الفروع الطبية من إزالة لرحم شابة إنقاذا لحياتها من نزيف خطير يودي بحياتها وهي تحت المخدر وحتى لو حصل الطبيب على موافقة أهلها فأين القدرة العقلية لهؤلاء الأهل لاتخاذ القرار في موقف لم يروه لأنه في غرفة العمليات والطبيب لا يرى حلا إلا ذلك لإنقاذ ابنتهم أو زوجتهم مما يؤثر على مستقبلها حتما في إنجاب أطفال لماذا لا ينتظر الطبيب رأي المجلس القومي لأمراض النساء والتوليد ويتم إبلاغ النيابة لإرسال طبيب لمناظرة الحالة.................
وأليس حرمان فتاة من الإنجاب بقرار طبي أخطر من احتجاز مريض في مستشفى نفسي لحصوله على العلاج من هلاوس وضلالات تجعله يرى كل العالم معاديا له ويريد الانتقام منه.
2 – إذن فالحديث عن القدرة العقلية أو الاحتجاز للمريض هو مجرد تبرير في غير موضعه لأنه إما أن نثق في الطب والأطباء في كل الفروع وفي الإجراءات التي اتبعها المجتمع الطبي عبر قرون من الزمان لحماية مرضاه أو لا نثق وعندها لا يصح تخصيص الطبيب النفسي بوضعه في موضع الاتهام باستغلال غياب القدرة العقلية لمريضه في احتجازه بدون مبرر إن فلسفة العلاج بدءًا من تعاطي المضاد الحيوي في أدوار البرد البسيطة وانتهاء بقرارات العلاج الإشعاعي أو الكيماوي في حالات السرطان الخطيرة تقوم على ضرورة إذعان المريض لهذه القرارات الطبية بحيث يصبح العكس هو الصحيح وهو أنه في حالة رفض المريض للإجراء العلاجي فهو المطالب بالتوقيع على قرار رفضه للعلاج ضد النصح الطبي لأن الأصل هو العلاج الذي يقرره الطبيب بما يمليه عليه علمه وضميره المهني.
3 – أنه في حين تستخدم ذريعة غياب القدرة العقلية للمريض لاتخاذ هذه الإجراءات الشاذة التي تكسر العلاقة العلاجية بين الطبيب ومريضه فإننا نجد القانون يتحدث في مواضع أخرى عن الإرادة الحرة المستنيرة للمريض في دخول المستشفى أو في الموافقة على العلاج وهي إرادة كما أوضحنا سابقا لا يمكن الحصول عليها من المريض العادي في الفروع الطبية المختلفة فما بالنا في المريض العقلي الذي من طبيعة مرضه هو غياب هذه الاستنارة وبالتالي فليس حل المشكلة في تقييم طبي مستقل لأنه من يقرر في النهاية القدرة العقلية للمريض هو الطبيب نفسه أيضا.
4 – إن التقييم الطبي المستقل لا يتم إلا في حالة وجود خلاف جوهري وبطلب قضائي لحسم الخلاف أما جعله أمرا روتينيا فهذا ضد العلاقة الطبية العلاجية لأنه في العلاقة العلاجية بين الطبيب النفسي ومريضه فإن السرية والحفاظ على أسرار المريض جزء أساسي بل وركن لا يمكن التنازل عنه، فإذا تصورنا أن المريض وهو يتحدث إلى طبيبه بعد بناء الثقة بينهما عما يشعر به بل وعن ضلالاته وهلاوسه ليجد نفسه مضطرا في كل مرة يطلب فيها العلاج أن يتحدث إلى طبيب لا يعرفه ولم يطلبه من أجل إعادة تقييمه....... من أعطانا هذا الحق في اقتحام خصوصية المريض بهذا الشكل لقد تكونت العلاقة العلاجية مع طبيبه المعالج عبر لقاءات متعددة ومواقف كثيرة ليأتي هذا المستقل ليحاول الحصول منه في جلسة باردة سريعة على ما يجعله قادرا على تشخيصه، عن أي طب نفسي يتحدثون.......
من قال أن الإنسان يعامل كآلة مطلوب منها أن تعبر عن أعراضها بصورة ميكانيكية حتى يستطيع المستقل القادم أن يعيد تشخيصه في دقائق معدودة فالمستقل متعجل في أمره فوراءه حالات أخرى يريد تقييمها ووراءه تفتيش على منشأة أو اثنين يريد إنجازه فالعداد يعد ولا وقت للمشاعر أو بناء علاقة علاجية مع المريض.... ولماذا علاقة علاجية فهو ليس معالجه ولا يخصه ذلك فالمريض ليس الهدف بل تقييم الطبيب المتهم ثم يتحدثون عن حقوق المريض النفسي ورعايته فارق كبير بالطبع بين إحساس المريض بطبيبه المعالج وإحساسه بطبيب قدم للتقييم والتفتيش إن احتمالات عدم تعاون المريض مع هذا الطبيب المستقل ورفض الحديث معه هو الأصل خاصة وإذا استحضرنا حق المريض في معرفة من يتعامل معه وما هي طبيعة هذه المقابلة فلا يصح خداعه، مثلما حدث مع أحد الحالات في مستشفى المعمورة عندما تم استدعاء المريض لمقابلة الطبيب المستقل فرفض المريض فتم إخباره بأن هذا الطبيب سيقوم بعمل إجراءات الخروج فأذعن المريض...... وهذا سؤال لم يجب عليه واضعو القانون أو لائحته التنفيذية ماذا لو رفض المريض التقييم المستقل وما هي الأضرار النفسية الناجمة عن هذا الأمر على المريض خاصة وأن الأمر ليس بطلب من المريض...
5 – تعالوا نحسب معا تكلفة التقييم الطبي المستقل كما أقره المجلس القومي للصحة النفسية الذي رصد مبلغ مائة وخمسون جنيها عن كل حالة يقوم الطبيب المستقل بمناظرتها فإذا كانت حالات الدخول في مستشفى المعمورة للطب النفسي (الإحصائية الرسمية) هو خمسة آلاف مريض في العام 2009 فان تكلفة تقييم هؤلاء المرض هي 750 ألف جنيه مصري ولا يقول أحد بأن هذا التقييم هو للدخول الإلزامي فقط فالكل يعرف بعد عام من القانون أن حالات الدخول الإرادي ليست في الحقيقة دخول إرادي ولكن المرضى المزمنين الذين دخلوا المستشفى عدة مرات وعرفوا النظام يوافقون على الدخول الإرادي ليطلبوا الخروج بعد ساعات من دخولهم ليضطر الطبيب لتحويله إلى دخول إلزامي بالطبع يحتاج إلى تقييم مستقل وإذا أضفنا إلى ذلك طلب القانون لتقييم مستقل أيضا لحالات العلاج بالصدمات الكهربائية وإذا كان التقييم لا يتم مرة واحدة بل ربما يتم لبعض المرضى مرتين أو ثلاثة في حالة استمرار علاج المريض لمدة ثلاثة أشهر أو ستة أشهر فنحن نتحدث عن ميزانية للطبيب المستقل فقط قد تصل إلى مليون جنيه سنويا.
6 – من أين ستأتي هذه الأموال؟! من صندوق الصحة النفسية؟! ومن أين سيأتي صندوق الصحة النفسية بإيراداته الأساسية؟! من فرض رسم 100 جنيه على دخول كل مريض، من سيدفع المائة جنيه؟! في حالة مستشفى حكومي مثل مستشفى المعمورة فمن سيدفع هو وزارة الصحة، يعني وزارة الصحة في العام الماضي من المفترض أن تدفع 2/1 نصف مليون جنيه للصندوق ليسدد منه الصندوق مليون جنيه للطبيب المستقل.... طبعا وزارة الصحة أصلا لا يوجد بها هذه الميزانية، لتصبح تكلفة إجراء من المفترض أن يلجأ إليه فقط عند حدوث شكوى أو خلاف هو مليون ونصف مليون جنيه... هذا في مستشفى واحد فقط هو مستشفى المعمورة للطب النفسي فما بالنا بكل المستشفيات العامة الحكومية كم سيبلغ لأن -في النهاية- الميزانية واحدة وصندوق الصحة النفسية ليس صندوقا خاصا ولكنه تابع للدولة وميزانيتها.
7 – من هو الطبيب المستقل هو الطبيب الذي لا علاقة له بالمنشأة التي يحتجز بها المريض ويعينه المجلس القومي أو المجلس الإقليمي من سجلات الأطباء المستقلين المسجلة عنده الذين يحق لهم القيام بإجراءات الدخول الإلزامي والتقييم المستقل يعني أن الأطباء سينقسمون إلى أطباء شطار وحلوين سيتم تسجيلهم بالمجلس القومي أو الإقليمي وأطباء آخرين رغم حصولهم على الماجستير في الطب النفسي أو حتى الدكتوراه ورغم حصولهم على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء ورغم حصولهم على شهادة الأخصائي أو الاستشاري من نقابة الأطباء أو كونهم وظيفيا في مستشفياتهم حاصلين على درجة الأخصائي أو الاستشاري ورغم السنوات الطويلة من الخبرة في مجال الطب النفسي فإن المجلس القومي والإقليمي لن يسجلهم لماذا؟!
لأنهم لم يحصلوا على دورة في القانون الجديد ليصبح حضور دورة في القانون الجديد هو المسوغ الحقيقي لتمارس مهنتك كطبيب نفسي في مستشفاك الخاص أو العام حتى تشخص مريض وتعالجه وتقرر حجزه بالمستشفى فأنت غير مؤهل لذلك رغم شهاداتك العليا ورغم سنوات خبرتك ورغم اعتراف النقابة بك ووزارة الصحة بل وكلية الطب والجامعة....
هناك جهة جديدة استحدثها القانون واللائحة لتمنحك ترخيصا جديدا للمهنة لتكون طبيبا مستقلا تحصل على العطايا والهبات التي يصرفها المجلس من صندوقه العامر وبذلك لم يكتف القانون بالتمييز ضد الطبيب النفساني دون كل الأطباء بوضعه موضع الاتهام والشك بتعيين طبيب مستقل يراقبه ويراجعه في كل إجراء يقوم به، بل إن هناك تمييزا ضد الأطباء النفسانيين وبعضهم البعض فإما أن تبدي فروض الولاء والطاعة للقانون رغم تعارضه مع كل مبادئ الطب النفسي بصورة خاصة والطب بصورة عامة فتحضر الدورة ليقوم أصحاب الجلالة من الفاهمين للقانون بتعليمك للطب النفسي الجديد ليحصلوا على ألاف الجنيهات المرصودة من أجل التدريب على فهم القانون لهؤلاء الجاهلين بما استحدثه واضعو القانون...... إما أن تجلس وتذعن وتحضر الدورة وإما فأنت مطرود من جنة المجلس القومي والإقليمي، فلا تستطيع أداء مهامك كطبيب ولا تحصل الأموال المرصودة لأصحاب الحظ والنصيب.
8 – وليس كل الأطباء المستقلين سواسية لأن التكليف يأتي من المجلس القومي أو الإقليمي دون أية قواعد وما حدث في الفترة السابقة دليل على ذلك ففي حين حضر أطباء مستقلون من القاهرة ليقوم أحدهم بتقييم أربع حالات في مستشفى المعمورة ثم يتوجه إلى مستشفى خاص للتفتيش عليه بصفته مفتش من المجلس القومي على المنشأة ثم يقيم أربع حالات أخرى في هذه المستشفى الخاصة ثم يتوجه إلى مستشفين أحرين للتفتيش وطبعا التفتيش على المنشأة بمقابل.
في نفس الوقت فإن استشاري الطب النفسي الذي من نفس المحافظة يطلب منه تقييم حالة واحدة فقط في أحد المستشفيات الخاصة في حين أنه أكثر خبرة وأكبر سنا بل وأكثر استقلالا.... لأنه على المعاش ولا توجد له أي صله حقيقية بأي مصالح الآن في حين أن صاحبنا القادم من القاهرة له مصالح لأنه لابد أن يضع في الاعتبار أن أطباء الإسكندرية الذي فتش عليهم سيأتون غدا ليفتشوا عليه.... أي تحول الأطباء إلى كاتبي تقارير ضد بعضهم البعض، وهذا أيضا ليس ادعاء فهذا ما حدث فعلا عندما حدث تفتيش متبادل بين أطباء منشأتين حيث قطعوا بعضهم على حد تعبير راوي الواقعة هل رأيتم الاستقلال ورأيتم رعاية مصالح المرضى؟! أنه المنع والمنح، إنه تقسيم التورتة على المقربين إنها المناصب والأموال توزع من أموال دافعي الضرائب دون رقابة ودون مساءلة.
ويتبع >>>>>: هل استفاد المريض النفسي؟!(2)
واقرأ أيضا:
ماذا نريد من جمعيتنا المصرية للطب النفسي2 / قراءة نقدية لمشروع قانون الصحة النفسية الجديد / حقوق المريض النفسي بين الرعاية والوصاية / المستشفيات النفسية في مصر.. عقاب المريض وليس علاجه