رمضان أتى بدون أن يأذن له المسؤولون بالقدوم، ولربما كان ليوقفه بعضهم على المطار بحجة أن أوراقه غير شرعية، أو أنه طائفي، أو مذهبي، أو أنه يحاول بمجيئه تعكير الوضع الاقتصادي بالبلد لزيادة المصروف وقلة الإنتاج.
لربما كانوا ليوقفوه على المطار بحجة أنه يذكّر المواطنين بالاتكال على الله، وليس على المسؤولين في شؤونهم وشجونهم. فلا يطلبون إلا من الله العفو والرحمة والكرم والعناية. وهكذا يأخذ رمضان الحكم من أيدي الحكام إلى عند الله، فيصومون له، ويبجّلونه، ويعظّمونه سبحانه ويتذكرون أنه هو من يعطي ويمنع، يرزق ويحرم، يوظّف ويطرد... وما المسؤولون إلا عبيد صغار لا حول لهم ولا قوة.
تذكّرت في هذا الليل الرمضاني كل هذا واستفقت لمناجاة الباري عزّ وجلّ عند الفجر، بعد أن كنت أمضيت ليلاً ساخناً انقطع فيه الهواء وتوقفت فيه النسمات. حتى مروحة المنزل توقفت طوال الليل بسبب انقطاع التيار الكهربائي الذي طالما افتقدناه خاصة في هذه الأيام الرمضانية الأخيرة.
نعم، لقد شاء المسؤولون أن لا يؤمّنوا لنا الكهرباء. ولم يهتموا بشأنها لأن مشاغلهم كثيرة. ولربما شغلتهم الصلاة والعبادة وصيام النهار وقيام الليل من التفكير بكم موتة يموت المواطن كل يوم، ويشنق على حبال الكهرباء. وكم من الأطعمة يرمي في النفايات لعدم وجود التيار.
نعم، لقد استبدل المسؤولون التيار الكهربائي بتيارات أخرى. منها: التيار الوطني الحر، وتيار المستقبل، وتيار 14آذار، وتيار 8آذار، وتيارات وتيارات ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن التيار الكهربائي هذا ما ينفع الناس، لذلك قطعوه.
والله لم أعد أفهم لا أنا ولا كل المواطنين "الغلابا" مثلي، ما هو الخطر المحدق في لبنان إذا ما اخترع له المسؤولون تياراً كهربائياً، أضحى في هذا العصر دم شريان الحياة؟؟
المهم، كان ابني الصغير قد أمضى ليلة كاملة بيضاء، يتقلب فيها كالفروج على حماوة الطقس. فطلبتُ منه أن يخرج وينام على البلكون حيث الهواء أقل حرارة من الداخل الذي تحول إلى فرن لانقطاع أسباب التكييف إلا من مروحة ماتت لفقد أوكسجين الكهرباء من شريانها.
خرج ابني إلى البلكون مستسلماً وافترش البلاط كي يمتص من أديم الأرض بعض البرودة، يوازن بها حرارة جسده التي ارتفعت كما حرارة مياه برادنا المتوفي.
لم يلبث الولد دقيقة حتى غفى وسلّم روحه لله. نطرتُ إليه وتألّمت. وكنت قد بدأت المناجاة. انتبهتُ بأن الله سبحانه هو الذي خلق الفقراء والأغنياء، وخلق المسؤولين والمواطنين، وهو المسؤول الأكبر وأحكم الحاكمين، فانتبهتُ لأرفع الشكوى مباشرة إليه سبحانه، واشتكيت على مَن يتحكم برقاب العباد في هذا البلد، وتمنيتُ أن يعانوا ما يعانيه المواطن من حريق في الصيف وغريق في الشتاء. وقلتُ للباري، هل يرضيك ما يفعله بنا المسؤولون؟ أم أنت مَن أمرهم أن يفعلوا بنا ما يفعلوه؟
يا رب: إنه ابني ينام على البلاط بسببهم، وهم ينامون على المكيفات في سرائرهم. يؤلمني أن أراه على هذا الحال وأنت ترى ما أراه. قطعاً يؤلمك أكثر مني هذا المنظر وأنت أرحم الراحمين.
تقدمتُ بشكواي ضدهم. كل المسؤولين طبعاً. وقلت له أن عنده لا تنام الدعوى. لربما كان يمهل المسؤولين برحمته لأنه لا دعوى مقدمة ضدهم. فعند الباري الدعاوى لا تؤجَّل ولا تحتاج إلى مبلغ من المال لفتح ملف ولا إلى محام ولا إلى أوراق بول وضرائب و TVA.
وقلتُ له يا جبار يا منتقم، يا أحكم الحاكمين خلّصنا من جَوْر هؤلاء الظالمين ولا تسلمنا لهم طرفة عين بعد اليوم. تقدمتُ بشكواي واطمأننت، ودخلت إلى الدار لأن الله سريع الإجابة، وأيقنتُ أني في الصباح الباكر سوف أسمع خبرهم جميعاً في الصحف لأن الله سبحانه لا يحب ظلم العباد ولا يؤخّر الشكوى.
وصلت إلى بساط الصلاة، وانتبهتُ بأنه سبحانه قد يرضى ببعض الأسى للعبيد في الدنيا كي لا يعاقبهم في جهنم في الآخرة. وقد يكون قد أخّر مسؤولينا إلى يوم الحساب ليذيقهم طعم انقطاع الكهرباء، وحرارة الآخرة بدون مكيّف، حيث لا مكيّف يستطيع أن يبرّد ناراً أُعدّت لغضبه وانتقامه. وقلتُ له: لتكن مشيئتك في المسؤولين وفي العباد، وإني أسحب شكواي لتقرر أنت ما شئت متى شئت، وسلّمتُ أمري وأمر ولدي إليه، فأحسست أني مسلم حقاً بالتسليم والاستسلام.
وتذكرت قوله سبحانه في سورة الأنعام: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ"(الأنعام:165). صدق الله العظيم.
ولكني خشيت أن يرفع الشكوى لله ضد الحكام الظالمين عبدٌ آخر غيري ولا يسحبها سريعاً. وعندها... لربما نسمع خبرهم بين سطور الصفحة الأولى من الصحف، وعندها سيصير: يا ويلنا من نار جهنم.
عبد مواطن في لبنان
واقرأ أيضاً:
الإنسانيّة... إلى أين؟ / لقد أكل الحملان الذئب!!! / ماء... مّــاء... مّـــاء... كهربــاء / رؤيا في عرنابا