"ما أشبه اليوم بالبارحة!"
مخاطبا نفسه ملقيا نظرته الأخيرة على مظهره. اليوم سيلتقي بها مجددا. اللقاء الأخير بينهما كان منذ أربعة أشهر، عندما فشل في التهرب من حضور إحدي المناسبات العائلية. واليوم كذلك, لا يملك غير الذهاب فهي مناسبة عائلية لا يمكن الاعتذار عنها, تحاور مع نفسه لتكون النتيجة:
"وإيه المشكلة لما أشوفها النهاردة.. دي خلاص صفحة من حياتي وقطعتها نهائيا، ده حتى اسمها بقيت أكرهه.. حظرتها من حياتي نهائي من خمس شهور!!"
حظرتها؟؟ نعم.. ذلك الحظر الذي فرضه عليها يوم مجيئها إليه معتذرة عن عدم استطاعتها استكمال قصة حبهما, لأسباب تختلف من قصة لأخرى لتكون النتيجة واحدة "أرجوك خلينا أصدقاء أو إخوات أحسن.. مش عاوزة أخسر إنسان رائع زيّك.. وهتكون لي أقرب صديق.. ابقى كلمني.. باي!"
تركته في ذهول.. كيف أمسى؟ كيف أصبح..؟!! لماذا ؟ ومتى وكيف؟
تصارعت الأسئلة بداخله، تبحث عن إجابات لتهدأ، وما من إجابات!!
حقيقة واحدة: "كل شيء انتهى"
كانت تمارس حياتها بصورتها المعتادة.. بينما هو يحاول تغيير كل شئ. لايتحمل لقاءها بأي مكان. لا يتحمل ذكر اسمها بأي حديث. ليكون تفسيره أنه زهدها، بعدما تحرر قلبه من أسر عشقها، وتعافت روحه من إدمان روحها. توالت رحلة الأيام، كل يوم يزيد من قوة الحظر الذي فرضه على كل ما يخصها، أو يذكره بها: الأماكن التي جمعتهما سويا، الأصدقاء المشتركين بينهما، كل وسائل التواصل الالكتروني أو الواقعي معها لم تسلم من الحظر أو الحذف، حتى الأغاني التي اعتادا سماعها سويا حظرها تماما من حياته. تمنى لو يستطيع حذف كل أيام المناسبات التي احتفلا بها سويا، من تقويم السنة بأكملها! حتى وجدها أمامه منذ أربعة أشهر مضت.. مقبلة عليه تبتسم إليه بود، تهنأه سائلة عن أحواله، وأردفت معاتبة:
"فينك؟؟ مختفي ليه؟؟ طمني عليك.. "وقبل أن تكمل حديثها، وجد نفسه يرد سريعا"
"الحمد لله"
غادرها دون سلام، كان يريد الهروب، الهروب منها؟؟ لا.. إنما الهروب من إحساس الهزيمة.. لحظة أن التقت عيناهما تيقن أنه رجل مهزوم! تأكد أن كل ما أقنع نفسه به كان أوهاما.. بقدر ما كان يحظرها من حياته، بقدر قوة توغلها بأعماقه.. لم يكن هذا الحظر القهري سوى غلالة رقيقة، مخادعة، تصبغ الأفعال بظاهر الكراهية والنسيان، باطنها حب وألم واحتياج يجتاح كيانه بمكر وهدوء..!
تيقن لحظتها أنها لا تزال تعني له شيئا، بل أنها لا تزال له كل شيء، وما هو غير نجمها السابح بمدارها. لهذا السبب كان يتجب لقاءها أو السماع عنها، ليس لأنه تعافى منها كما كان يوهمه قلبه.. قرر مواجهة قلبه.. ذلك القلب المراوغ، الذي خدعه بالاستسلام لحظرها من الحياة، بينما تسكن مطمئنة بخلجات القلب وجنبات الروح.. كان عليه الاعتراف لقلبه بهزيمته أمام سطوتها. محاولا استمالة هذا القلب، لعله يترفق به، فيتوقف عن المراوغة، فبدون الاعتراف بإدمانه لن يستطيع أبدا التعافي منه..
ولأن الحياة لا تملك متسعا من الوقت لمواساة قلب يتألم أو الترفق بروح تتعذب، كان عليه متابعة أيامه..!
ها هو اليوم بطريقه لحضور مناسبة أخرى ستجمعه بها بعد ما يقارب الأربعة الأشهر.. هذه المرة لم يحاول التهرب من الحضور.. إنما كان حريصا على الحضور، يتحدى نفسه.. سريعا ما وجدها أمامه. هذه المرة هو من توجه إليها بكل ثقة وهدوء بادرها بالتحية:
"كل سنة وانتي طيبة.. النهاردة عيد ميلادك..صح؟!"
وغادرها... غادرها متعجبه، تتساءل مع نفسها:
"لا يزال للآن يتذكر يوم ميلادي؟ ويوجه لي التهنئة وهو من كان يتجنب سماع اسمي؟؟ ألهذه الدرجة لا يزال لي محبا ولقلبي عاشقا..؟" غير مدركة أن قلبه بدأ الآن -والآن فقط- التحرر من قيود حبها.
أما هو فقد أدرك أخيرا أن تجنب اللقاء أو الاتصال لا يكون دليل زهد أو كراهيه، بل دليل محبة تستعمر القلب، لكنها ترواغ الكرامة والكبرياء فتظهر أنها تجُنب أو زهد، ضد الحب هو اللا حب.. اللا شيء، بعد نهاية قصة الحب, تكون الكراهية أحد أوجه الحب المجروح.. عندما تتلاشى تلك الكراهية, يكون القلب بالفعل قد برأ من ذلك الحب.. فكرهته ونسيته هي محاولة القلب لتغليف الحقيقة بوهم ليقتنع بها.. بينما نسيته فأصبحت لا أحبه و لا أكرهه, هي الكشف عن حقيقة -مقتنع تماما- بها. و يوم أن استطاع التعامل معها كأي إنسان آخر، لم يكن هذا دليل على وجود الحب بالقلب، بل إنه أخيرا تمكن من تصحيح مكانها بحياته. كانت حبيبة -هجرته- والآن بعدما اتفق مع قلبه وروحه, أصبحت لا تستحق أكثر من لقب زائرة.. مجرد زائرة..!! وبينما لا تزال مزهوة بأوهام قوة حبها الذي يأبى الموت، كان هو بسيارته يستمع لأغنيتهما المفضله احتفالا بتعافي قلبه.
مرددا هامسا: "ما أجمل اليوم عن البارحة..!"
واقرأ أيضاً:
روح الحياة / أغنِيَاتٌ لصاحِبَةِ الفستانِ الأسودِ ! / الترهات الماكثة / نا حين لا تدلُ !! / موعد ! / دخـولٌ ومغادرَةٌ! / شـاحِبَةٌ أنتِ ! / وقت لطقطقة الأصابع