الحشود ليست فاقدة العقل في الحقيقة. إنها مكونة من أفراد غاية في التعاون توحدهم أهداف واهتمامات مشتركة.
لا شيء يثير شهية الأخصائي النفسي المبتديء مثل مثيري الشغب. فلننظر بعين الاعتبار إلى ما حدث في أغسطس 2011 بعدما قتلت الشرطة مارك دوجان الشاب البالغ من العمر 29 عاما من ضاحية توتنهام في لندن. اندفع الآلاف إلى لندن والعديد من المدن البريطانية في أسوأ اضطرابات شهدتها البلاد في عقد من الزمان، وعندما نجحت الشرطة في السيطرة أخيرا على الأوضاع بعد ستة أيام من العنف والتخريب، أدان الجميع بداية من رئيس الوزراء دافيد كاميرون وحتى كتاب الأعمدة الصحفية من كل توجّه سياسي.. أدانوا ذلك الجنون الأهوج المرتاب الذي يمكنه أن يُنْشِب حريقًا وشيكًا من حادثة قتل وحيدة مع التسليم ببشاعتها. النظرية الشائعة هي أن مثيري الشغب قد أسلموا عقلانيتهم ووعيهم الذاتي لعقلية الحشد.
لقد كانت وجهة النظر المتعلقة بسلوك الجماهير تلك هي المهيمنة منذ الثورة الفرنسية واقتحام سجن الباستيل. اعتبر جابريل تارد Gabriel Tarde- المتخصص في علم الجريمة الفرنسي في القرن التاسع عشر- حتى أكثر الحشود تحضرا "دودة وحشية ذات إدراك غير متجانس تتحرك بطريقة غير منتظمة باستمرار طبقا لما يمليه عليها عقلها". حاول جوستاف لوبون Gustave Le Bon؛ عالم النفس الاجتماعي المعاصر لـ"تارد"؛ أن يشرح سلوك الجماهير كشلل في الدماغ: "منوّما مغناطيسيا بواسطة الجماعة، يصبح الفرد عبدا للدوافع اللاواعية. هو لم يعد نفسه؛ لكنه صار إنسانا آليا لا تقوده إرادته"، هكذا كتب لوبون في 1895.
"منعزلا وربما مهذبا بطبيعته، يتحول ذلك الفرد إلى همجي بين الحشود... ذرة رمل وسط ذرات رمال آخرى يمكن للرياح أن تعبث بها كيفما تشاء."
هذه هي الفكرة السائدة عن سلوك الغوغاء لكن تبيّن أنها خاطئة. في السنوات القليلة الماضية، اكتشف متخصصو علم النفس الاجتماعي أنه بدلا من التخلي عن العقلانية وإدراك الذات، فإن الناس في الحشود يعيدون تعريف أنفسهم طبقا لمن حولهم في ذلك الوقت، إن هويتهم الاجتماعية تحدد كيف يتصرفون.
يقول ستيفن ريتشر Stephen Reicher، المتخصص في علم النفس الاجتماعي في جامعة سانت أندروز، إن هذا النموذج لسلوك الجماهير ينطبق على كل حالة اضطراب عامة في العقود الثلاثة الماضية حيث جُمعت المعلومات. إنه يتفق أيضا مع ما خرجت به أعمق التحقيقات حول الاضطرابات الأهلية التي حدثت، وهي لجنة كيرنر [i] Kerner commission التي تقصّت حول أحداث شغب حدثت في لوس أنجيليس وشيكاجو ونيوآرك وغيرها من المدن الأمريكية في الفترة من 1965 وحتى 1967. ربما أشدّها خطورة كانت تلك التي وقعت في ديترويت في يوليو عام 1967 حينما أغارت الشرطة على بار غير مرخص وتجمع مئات من الزبائن والمقيمين المحليين في الشوارع للتظاهر. بعد أكثر من أربعة أيام من العنف بين المتظاهرين والقائمين على تطبيق القانون مات 43 شخصا، وأصيب 1189 شخصا وتم تدمير أكثر من 2000 مبنى.
لقد استنتج تقرير كيرنر أن العامل الرئيس وراء ذلك الاضطراب الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية كان الحرمان المتفشّي داخل المجتمعات السوداء. لقد لوحظ أن نسبة السود من العاطلين عن العمل ضعف مثيلتها في البيض، أما فيما يتعلق بالفقر فقد كانت النسبة حوالي أربعة أضعاف مقارنة بالبيض. لقد أشار التقرير أيضا إلى أن مثير الشغب التقليدي كان أفضل تعليما من الشخص العادي في مجتمعه، وأكثر اندماجا معه وأن احتمالية أن يكون له سجل إجرامي قليلة. واستنتج تقرير كيرنر: "يبدو أن مثيري الشغب كانوايبتغون المشاركة الكاملة في النظام الاجتماعي والمنافع المادية التي يتمتع بها غالبية المواطنين الأمريكان". "فبدلا من رفض النظام الأمريكي، كان هؤلاء قلقين حيال إيجاد مكان لأنفسهم داخله".
يتماهي هذا بدقة مع نظرية ريتشر القائلة بأن الناس داخل الحشد لا يتصرفون بجنون أو بلا عقل، وإنما بالتعاون مع من حولهم. إنهم لا يفقدون عقولهم وإنما يحكم سلوكهم هدف عقلاني كليا. في لندن، كان الكثيرون (وليس الكل رغم هذا) من مثيري الشغب مدفوعين بالشعور المشترك بالظلم حيال الطريقة التي تتعامل بها الشرطة مع مجتمعاتهم في الشهور والسنين السابقة، وخصوصا ازديادمعدل توقيف الشباب السود وتفتيشهم من قبل الشرطة بلا مبرر وجيه. عندما بدأت المظاهرات، شعر كثيرون - وكجزء من جماعة ساخطة - بأن لديهم سببا شرعيا للانضمام إليها.
من المدهش أن هذا النموذج يفسّر أيضا لما لا تُصاب الحشود بالذعر في المواقف الطارئة فيعرّض الناس أنفسهم للخطورة العالية. عندما ضربت الطائرتان المختطفتان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001، أجَّل معظم الموجودين بالداخل خروجهم بدلا من التوجه نحو أقرب مخرج. حتى أولئك الذين خططوا للهرب انتظروا لستة دقائق قبل التحرك نحو السلالم. البعض تسكّع لنصف ساعة في انتظار المزيد من المعلومات، أو جمع أشياء لأخذها معهم، أو الذهاب إلى الحمام، والانتهاء من الرسائل الإليكترونية، أو إجراء مكالمات هاتفية.
على غرار ما سبق، يؤكد الباحثون أن الركاب يموتون في الحوادث لمجرد أنهم لم يحاولوا الخروج. خذ مثلا، حادثة حريق الطائرة في مطار مانشستر في المملكة المتحدة في 22 أغسطس 1985، عندما ظل 55 شخصا جالسين في مقاعدهم وسط النيران. يقول جون ليتش John Leach الذي درس سيكولوجية الكوارث في جامعة أوسلو إنه ربما يمكننا أن نعزي ذلك إلى حالة الذهول المشتركة التي أصابتهم. على العكس من الاعتقاد الشائع بأن الجماهير عادة ما تصاب بالذعر في أثناءالكوارث، فإن المجموعات الأكبر تهيم بلا وجهة ولا هدف لأنها تستغرق وقتا أطول للخروج بخطة.
لقد ساعد الفهم الجديد لديناميكيات الحشود السلطات في أوروبا على إعادة تدوين القواعد الخاصة بإدارة الحشود. في الحالات الطارئة، يتم تشجيع الناس على تجنب الركون إلى الوضع الراهن والتفكير في خطة للهروب. بالمثل، يتم تدريب قوات الشرطة على تبني أسلوب أكثر حساسية وتواصلية مع الحشود الكبيرة. لو أن سلوك الجماهير ينبع من القيم الاجتماعية للأغلبية بدلا من القلة الاجرامية، فإن إرسال قوات مكافحة الشغب للتعامل معهم سوف يجعل الأمور أسوأ لأن كل فرد يعامل وكأنه معتد. من المحتمل أن المعتدين المفترضين سوف يردون المعاملة بالمثل مما قد يؤدي إلى تفاقم العنف.
استُلهمت تلك التغييرات بشكل كبير من كليفورد ستوت Clifford Stott الباحث في جامعة ليدز. لقد أنجز ستوت معظم عمله بالاندماج مع الحشود وخصوصا مشجعي كرة القدم الإنجليز في المباريات المقامة بعيدا عن موطنهم وتسجيل ما يفعلون. لقد كان متواجدا، مع ديكتافون في جيبه، في أشرس وأهم نوبات عنف ملاعب كرة القدم في أوروبا والتي تورط فيها مشجعون إنجليز بما فيها نهائيات كأس العالم في إيطاليا في 1990، وفي فرنسا في 1998. ستوت لديه بعض الشك في أن معظم حوادث عنف كرة القدم يمكن فهمها جيدا في إطار هويات المجموعات الكبيرة بدلا من التابعين معدومي العقل السائرين وراء قلة مثيرة للشغب. على سبيل المثال، كانت الأغلبية من المشجعين الإنجليز في مسابقات الدوري في إيطاليا وفرنسا مسالمين في البداية، ولكنهم جميعا غيروا موقفهم حينما بدأوا يشعرون بأن الشرطة المحلية تستهدف المشجعين الإنجليز على وجه الخصوص، ولهذا السبب نفسه، فإن مشجي كرة القدم الاسكتلنديين نادرا ما يقعون في المشكلات برغم شربهم للكحول بشراهة، حيث أن اللاعنف أصبح جزءا من هويتهم. عن طريق تجنب الصراع، فإن مشجعي سكوتلاندا يقومون بتمييز أنفسهم عن المشجعين الإنجليز بل وحتى يقومون بمعاقبة الذين يرتكبون العنفمنهم.
لقد قدم ستوت ومعاونوه بحثهم لقوات الشرطة البرتغالية قبل بطولة كرة القدم الأوروبية التي كان من المزمع إقامتها في البرتغال لأول مرة في 2004. لقد نصحوا قوات الشرطة بالتخلّي عن تكتيكات قوات مكافحة الشغب المستخدمة في معظم مسابقات الدوري الماضية، واستخدام أسلوب هاديء لا يلفت الانتباه وحازم لكن ودود بدلا منها.تقبل البرتغاليون النصيحة وطوَّروا برنامجا للتأكد من أن جميع ضباط شرطتهم فهموا النظرية والكيفية التي يترجمون بها إياها إلى سياسة عدم مجابهة. كانت النتيجة هي الغياب الكامل تقريبا لأي اضطرابات أثناء المباريات الإنجليزية في يورو 2004.
أصبح اليوم نموذج الهوية الاجتماعية لسلوك الجماهير هو الإطار الذي تُرَاقب من خلاله جميع مباريات الاتحادات الأوروبية لكرة القدم بالرغم من أنه في روسيا وأوروبا الشرقية مازال يطبق بشكل متقطع. يعمل ستوت الآن على تطبيق النموذج على ما هو أبعد من كرة القدم. في 2009، طلبت مفتشية صاحبة الجلالة للشرطة HMIC، وهي جهة تفتيش رقابية مستقلة في المملكة المتحدة تراقب عمل الشرطة، من ستوت أن يكتب تقريرا عن تطبيق سيكولوجية الحشد على عمليات حفظ الأمن والنظام العام. لقد تبّنت العديد من توصياته وجاءت إحدى النتائج بإنشاء نقاط تواصلية في لندن وفي كل مكان تقوم بإرسال ضباط في زي موحد مميز إلى جموع المتظاهرين لفتح باب للتواصل معهم وليس للتجسس عليهم كما يظن بعض النشطاء. بالرغم من وجود مشاكل متعلقة بالثقة في شرطة لندن في أعقاب أعمال شغب 2011، فقد تم الاستعانة بالضباط التواصليين بنجاح حوالي 50 مرة في أثناء دورة الألعاب الأوليمبية التي أقيمت في لندن 2012.
لقد علمت سنوات البحث الميداني ستوت وريتشر ومتخصصي علم النفس الاجتماعي الآخرين أن اللاعقلانية معدومة المخ نادرة داخل الحشود، وأن التعاون والإيثار هما القاعدة عندما تتعرض حيوات البشر للخطر. عندما فجر متطرفون إسلاميون أربعة من القنابل داخل نظام النقل في لندن في ساعات الذروة الصباحية في 7 يوليو 2005 وقتلوا 52 شخصا، وجرحوا أكثر من 770 شخصا، انبثقت العديد من القصص الاستثنائية حول سلوك التعاون وسط تلك المجزرة والفوضى. في الظلام، في الأنفاق المليئة بالسخام تحت الأرض حيث علق المئات مُجَرَّدينمن أي وسيلة لمعرفة ما إذا كانوا سينجون، كان هنالك من الذعر القليل، وكان هناك شعور عام بـ"أننا جميعا في نفس القارب" كما عبر عنه أحد الناجين.
في جامعة ساسيكس، دشَّن الباحثون بقيادة عالم النفس الاجتماعي جون دروري John Drury مصطلح المطاوعة الجمعية Collective Resilience، وهي التوجّه نحو التعاون المتبادل والوحدة وسط المخاطر لوصف الكيفية التي تتصرف بها الحشود تحت الضغطغالبا. هناك العديد من النماذج الموثقة بخصوص هذا الأمر. في 2008، أجرى فريق "دروري" مقابلات مع 11 من الناجين من المآسي خلال الأربعين عاما السابقة بما فيها كارثة ستاد كرة القدم في هيلزبره حينما مات 96 من مشجعي ليفربول بعدما احتجزوا في حظائر مزدحمة، وتفجيرات الجيش الجمهوري الأيرلندي التي قتلت ستة خارج هارودز في لندن في 1983، في كلا الحالتين، استعاد أولئك الناجون شعورا قويا بالتآزر في أثناء الأزمة واستعدادا لمساعدة الغرباء. يقول "دروري"- الذي يطلق على الحشود اسم خدمة الطواريء الرابعة[ii] وهو توجه لا يشاركهم فيه البوليس - بأنه من دون ذلك التعاون، كان من الممكن أن ترتفع معدلات الخسائر أكثر بكثير. من وجهة نظر دروري، من الخطا أن نلوم الجماهير على سلوكهم في الحشودباعتباره سببا فيما ينتج من كوارث. غالبا ما تكون المشكلة الحقيقة هي ضعف التنظيم: الكثير من الناس في مكان واحد أو تصميم رديء للمكان.
لقد أوضح دروري أن الكارثة حتى ولو كانت صغيرة مثل تعطّل قطار في نفق، فإنها تخلق "حشدا سيكولوجيا" من أولئك الذين كانوا غرباء فيما سبق. "تتشاركون فجاة المصير المشترك، وتتحول دائرة اهتماماتكم من الشخصي إلى العام".
"أنا أعتقد أننا جميعا نقبل بأن المرء قد تجاوز تعريف أو تصنيف الشخص بوصفه مشجع كرة قدم " قال أحد الناجين من مآساة هيلزبره. "لا أعتقد أن أي شخص رأى مشجعي ليفربول أو مشجعي نوتس فوريست... لقد كف الناس عن رؤية بعضهم البعض كمشجعي كرة.. لقد كانوا ناسا فقط."
هذا الشعور بالمشاركة والإحساس بانهيار الحواجز هو واحد من تجارب الحشود الأكثر شيوعا. الحشود السيكولوجية غالبا ما تكون ناجزة وتسبب شعورا بالارتقاء في الأماكن التي توجد فيها. أثناء مقابلاتي مع الناس بعد الثورة المصرية في 2011، غالبا ما كنت أسمع المشاركين يقولون بأن الأيام التي قضوها في التظاهر بميدان التحرير بالقاهرة كانت أفضل أيام حياتهم على الإطلاق. "لقد كانت الثورة أعظم حدث سأمر به في حياتي." هكذا أخبرني الصحفي العلمي محمد يحي. "لقد كانت قطعة من الجنة" قالها باسم فتحي أحد الشباب الذي ساعد في تنظيم المظاهرات المبكرة. "لا أحد يفكر فيك باعتبارك مسلما أو مسيحيا، فقيرا أو غنيا".
الصحفية أورسولا ليندسي Ursula Lindsey تتذكر ذلك المشهد كالآتي: "بمجرد أن ترى ذلك الحشد، تشعر بأن المد في جانبك. لقد شعرت بأنك على حق كليا. لقد جعلت الجموع الناس تشعر بالروعة. لقد كانت معنوياتهم في السماء بسبب رؤيتهم لأنفسهم كجزء من هذه الجماعة الضخمة. لقد كانت تجربة لانهائية، منفتحة العقل وإيجابية. لقد رأيت تبخّر الخوف، وهذا الانتشاء بسبب أن الكثير الكثير من الناس كانوا معك. تلك ال 18 يوما أخرجت أجمل ما في الناس. لقد قدم الناس أفضل "إصداراتهم".
الفكرة القائلة بأنه في الحشود، قد نقدم أفضل "إصداراتنا" هي الصورة المعاكسة لوجهة النظر التي شاعت منذ الثورة الفرنسية، ولأن العلم يؤيد هذه الصورة الجديدة من التآزر في حشود كرة القدم إلى الإيثار في ضحايا الكوارث والتضامن بين المتظاهرين، فإن الدليل على سلامة عقل الحشود وتآلف الجماهير له الغلبة على ما سواه الآن.
مايكل بوند
ترجمة أسماء شهاب الدين
[i] (لجنة كيرنر) هى لجنة استشارية قومية لتقصي الحقائق حول الاضطرابات الأهلية وأسسها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، وتتكون من 11 عضوا على رأسهم اوتو كيرنر حاكم إيلينوي الذي سميت اللجنة باسمه (المترجمة).
[ii] (قوات الطواريء الرابعة) هي مجموعة من المختصين المدربين على مساعدة الناس وتوعيتهم في المواقف الصعبة والطواريء التي يتعرضون لها وهي مملوكة لمجموعة أكروماس البريطانية ومؤخرا قررت الشركة توسعة نشاطها لمساعدة الناس في بيوتهم لتصليح الأعطال وحتى تعليق الصور على الحوائط (المترجمة).
واقرأ أيضًا:
المؤامرة الإيطالية على مصر / خوف الرصاص من الهتاف! / حدوتة محسن فكري / الوصمة / من يحرس الحرُاس ؟