كم من الوقت تمضيه بمعاودة التفكير بالذكريات؟.. وكم من الساعات تقضيها سارحاً في الأمنيات؟.. وما بين طرفي الذكريات والأمنيات، كم تبقى منتبهاً إلى لحظة الآن؟.. كمن يقف على قنطرة جسرٍ إذا نظر يمينه رأى الطريق الذي يفضي به للذكريات، وإذا نظر يساره رأى الطريق الذي يمضي به إلى الأمنيات، واقفاً في المنتصف، في لحظة الآن، فهذه اللحظة التي يمتلكها حقيقةً.
تمر الذكرى على شكل صورة أو فكرة، وتمر التطلعات والأمنيات عن طريق الرغبات والانفعالات، فتأخذ الذكريات بعدها شكل استجابة انفعالية، وتتطور الأمنية إلى أفكار وصورٍ ذهنية، هكذا صمم هذا الجسر الذي نمر فيه كل يومٍ جيئةً وذهاباً، ثم نقف على قنطرته متأملين واقعنا الآن على حالته التي هو عليها.
إن الذكريات ذخيرة لا تنفذ، وكل لحظة نمر بها دام أنها تجاورزت قنطرة الجسر تتحول إلى ذكرى، وتنضم إلى مخزون الذكريات، وهذا ما يميز بشريتنا، فرصيد الذكريات يشكل لنا التعلم، والمعرفة، والخبرة، وهو الذي يشكّل ما نحن عليه الآن.
أما الأمنيات فهي المرغوبات التي نصبوا إليها، والتي لم تحدث بعد، لكن في حال أنها تحدث فقد أصبحت في لحظة الآن، فتكون على قنطرة الجسر، وفي حال حدثت وانتهت تمسي من رصيد الذكريات والماضي، فهي الدافع والمحرك للمضي قدماً في الحياة، بل هي نبض الحياة، وإيقاع المسير للأمام.
تكمن فكرة قنطرة الجسر بتنظيم علاقتنا مع الماضي والمستقبل بناءاً على لحظة الآن، فالماضي خبرات والحاضر يشكله العلم والعمل بها، والمستقبل تصورٌ لتوظيف هذه الخبرات أو زيادة رصيدها، وكما من الممكن أن تسير الأمور بطريقة صحيحة في أي أمر، فقد تسير أيضاً بشكلٍ غير صحيح، فالماضي هو علمٌ للعمل، للتعلم لا للتألم، للتأمل لا للانغماس والغرق فيه، والمستقبل محرك العمل على قنطرة الآن، فلا أمل بلا عمل، وإلا سيصبح الإنسان كياناً راكداً غارقاً في الماضي، يتجرع من الألم الذي لا علم فيه، أو يعاقر الرغبة في مستقبل لا يعمل له.
ليس غريباً أننا نحن البشر قد نحتاج لجرعة من الألم، وأخرى من الأمل، فبعض الألم من الماضي جرعة للتعلم وتسديد الخطى، وبعض الأمل في المستقبل جرعة لتحفيرنا ودفعنا وتحريكنا للأمام، فبين جرعةٍ من الألم والأمل نقف على قنطرة الجسر فنفكر بخطوتنا الجديدة، وحياتنا التي لا نريد، أو تلك الحياة التي لا نريد أو لم نعد نريدها في أحيانٍ أخرى، فجرعة محددة من الألم أو الأمل نافعة ومفيدة، لكن كحال أي جرعة لاي دواءٍ كان، فالجرعات الزائدة ستتحول إلى داء وأدواء، وليس غريباً علينا أن نعرف أن جرعات الألم الزائدة ضارة ومؤذية، لكن هل من الممكن أن تكون جرعات الأمل كذلك؟
إن جرعات الأمل الزائد سمية جداً، فعندما تعيش أملاً لا يتحقق، وعندما تتعلق بآمالٍ مستحيلة، أو عندما تغرق في أحلام اليقظة بأنك تصير وتصبح وتعمل.....، كل ذلك سيكون سمياً إذا زاد عن حده، ومن أدلة ذلك أنك اليوم وصلت لبعض ما كنت ترغب به البارحة، لكنه عندما تحقق ما عدت تنظر إليه، وصرت متشوفاً لتحقيق رغباتٍ وآمالٍ جديدة، وصرت قلقاً تجاه خوفك بأن لا تحقق ما تريد، ولم تشعر بالأمان لما حققته فعلاً..... وهكذا، عندما لا نحتفل بما حققنا، ولا نحفل بما تحقق، فهذا دليل سمية جرعات الأمل، فالأمل الذي لا ينتهي سيصبح قلقاً لا ينتهي، فإلى أين تريد الوصول؟؟ لقد وصلت مرات، ومرات، ومرات حتى الآن في حياتك، فهل فرحت بذلك؟ أم عاقرت كأساً من الأمل بالمزيد الذي لن ينتهي أبداً.
على قنطرة الجسر، نقف هناك كل يوم، لكننا قد لا نعود للماضي للتعلم فتصبح عودتنا مليئة بالألم، أو لا نرغب بالمستقبل من خلال العمل والجد، فيمسي الأمل عبئاً ثقيلاً ومصدراً للإحباط وخيبة الظن، فالأصل لعملنا على قنطرة الجسر هو الحاضر الذي نعيشه الآن، ونعرف أن ما نملكه فيه هو اللحظة، هذه اللحظة، فذات اللحظة التي مرت صارت ماضياً، وتلك اللحظة التي لم تأتي بعد هي من المستقبل. أما قنطرة الجسر فهي اللحظة، وسر الحياة هو أن تعرف كيف تعيش هذه اللحظة بحق.
عمان 19/ 10/ 2019
واقرأ أيضاً:
سيكولوجية الضواري / ما هو الحزن ؟ / مرآة النفس1 الارتباط بالحياة / مرآة النفس2 الإطار الذهبي