![]() |
حتى بعد أن خلق الله لنا الدابة لتحمل عنا أثقالنا لا يزال شق الأنفس ينقض كاهلي إلى تلك البلدة البعيدة كل يوم مثل جثة لا أدري متى سأواريها..
أتساءل متى يُمهَّد الطريق الذي نطوي تحت أقدامنا، متى تنتهي تلك المعاناة المزمنة، متى يصبح الطريق خطا مستقيما بلا منحنيات وحفر ومعارج مرهقة؟
أعرف جيدا أني في دار ابتلاء واختبار ولا مجال لبستانٍ هنا نُحلَّى فيه من أساور {لنبلوكم أيكم أحسن عملا...} {ليبلوكم فيما آتاكم...} {لينظر كيف تعملون...}
لكن أنا إنسان وأحيانا أرهق مثل موسى لما ورد ماء مدين، وفي الكثير من الأمور يضيق صدري فأنا لا زلت هنا على الأرض الذي تكون جسدي من ترابها وأثَّر فيه طينها، فأدعو الله أن يكشف عني ما بي، وأنتظر زمنا أدعو كل وقت وعلى كل حال، فإن طالت معاناتي، وانقطعت أسبابي، أدعو ربي أن يلهمني الصبر على تلك المعاناة والمصاب الذي حل بي دون أن آيس من روحه، وأعلم دوما أن {ربكم أعلم بكم...} وفي مثل هذه الحالة لا علم لي بهدف الرب أو خطته -إن جاز تعبيري- في استمرار معاناتي المزمنة..
من هنا حاولت أن أتدبر مفهوم الدعاء من وجهة ما، من تذوق ما، تبعا لاتجاهي وتكويني النفسي والثقافي، ولكلِِ وجهة هو موليها.
اكتشفت ذات تلاوة جهرية قبيل المغرب وأنا متكئ على سطح منزلي أقلب وجهي في السماء إذ كنت أقرأ في سورة الأنبياء أن الله استجاب دعاء من هم أكثر مني إيمانا بل وصنع لهم المعجزات.
بدا لي أن هذا حدث فقط لتحقيق رغباتهم بمعزل عن أي ملابسات أو تداعيات أخرى، شعرت بالغبطة.. بل بالغضب.. لعلي أكون أكثر صراحة ملئني الغضب وشعرت بما يشعر به سلطان جائع بعد أن تداولت به الأيام..
اهتز جسدي من صوت الرعد المفاجئ وانتبهت إلى السحب الكثيفة التي تكونت فوق رأسي في السماء، عاتبت الرب (أستغفر الله) وقلت: لقد استجبت يا الله لكل هؤلاء المصطفين الأخيار ولقد لبثتُ على تلك الكرة العالقة في الفضاء أكثر مما لبث المسيح عيسى بن مريم على الأرض ولم تستجب لدعائي، وأنا لست محمدا (ص) لأقول إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي.
حقيقةً يا رب إني أرغب وأتمنى وأمد عيني أحيانا إلى ما متعت به الآخرين بغض النظر عما أخذت منهم وأعطيتني، أعرف أنك أنعمت علي بالكثير الذي أحمدك عليه كل ليلة، لكن ضيق صدري وقلة حيلتي وشق نفسي يرهقني كل لحظة فإن كان في قضائك أن معاناتي سرمدية فألهمني الصبر الجميل ولا تحملني ما لا طاقة لي به.
بعد أن اشتد المطر وهممت بالرحيل بدت لي فكرة لا أستطيع تجاوزها منذ ذلك الحين.
الله عز وجل عندما أكد كثيرا على استجابة دعاء المصطفين الأخيار والأبرار، كذلك الفجار والكفار {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون...}
بدا لي أن الأصل في مسألة الدعاء لدُنيا نُصيبها هي عدم الاستجابة، ودون ذلك استثناء!، لذلك نبه عليها القرآن كثيرا كي لا نغتر بالأسباب وننسى أن هناك إله بيده كل شيء وإليه يرجع الأمر كله.. وقبل أن تتحامل علي أيها القارئ دعني أشير لك على وجهتي، ولكلٍ وجهة.
قال الله عز وجل لنوح عليه السلام لما دعاه في مشهد مروع {لا تسألني ما ليس لك به علم...}
وتخيل معي لو أن كل دعائنا الدنيوي مجاب فما معنى الدنيا؟ وما معنى الاختبار؟ لقد فقدت الدنيا معناها!
لو علم طالبا مثلا أنه سينجح لا محالة فلماذا سوف يتعلم لكي ينجح في اختبار نتيجته معروفة مسبقا؟! هنا الاختبار أصبح بلا معنى.
أعرف عزيزي القارئ أنك لازلت غاضبا من أن "الأصل في مسألة الدعاء لدنيا نصيبها هي عدم الاستجابة المباشرة من الله ودون ذلك استثناء"
دعني أشير إشارة ثانية.
في سورة الفجر وأنت تعلم جيدا بما يوحي الفجر! وشرح مثل هذه الأمور يبدو مبتذلا جدا.
قال الله عز وجل {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن.. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن.. كلا...}
والواضح جدا أن سعة الرزق تشعر الإنسان بالكرامة كما قال الشاعر(إن الدراهم في المجالس كلها تكسو الرجال مهابة وجلالا) فهو حين يمتلكها مكرم منعم في شعوره الداخلي، وفي نظر الآخرين { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون...}
ومن الواضح أيضا أن ضيق الرزق يجلب الإهانة والحاجة إلى الناس كما يدعو كذلك إلى نفورهم من حولك كما قالت لي أمي ذات ليلة (الفقير ريحته وحشة)، أي إهانة هذه!
فلماذا قال الله عز وجل "كلا"؟
وهي تعني هنا بالمتبادر للذهن أن الله لم يكرم أحدا بسعة رزق ولم يهن أحدا بضيق رزق.
لكن يظل الشعور الإنساني بالإهانة والكرامة متوقف على السعة والضيق في الرزق بمفهومه الشامل!
فليس سفرك رحلة قطار في درجة أولى مكيفة كتملصك من قاطع التذاكر في درجة شعبية.
الأمر لا يحتاج لمزيد من التوضيح!
فلماذا قال الله "كلا" إذن؟
ووجهتي هنا تشرحها الآيات التي تليها.. {بل لا تكرمون اليتيم.. ولا تحاضون على طعام المسكين.. وتأكلون التراث أكلا لما.. وتحبون المال حبا جما}
ما معنى هذا الكلام؟ من وجهتي الفكرية فقط..
معناه أن الله عز وجل لم يهن أحدا ولم يكرمه بشكل مباشر، بل هي مسؤولية مجتمعية في الأساس، جزء من الخطة الإلهية أو الهدف الإلهي إلى التدافع والتراحم والتكافل.
أي أن التصرفات والأفعال الإنسانية المجتمعية لها نصيب الأسد من أزمنة المعاناة الإنسانية، من صنع فقيرا وغنيا.. مريضا وصحيحا.. مثقفا ومهمشا. كريما ومهانا.
أي لو أنا نحن أكرمنا اليتيم لن يصرخ في وجه السماء ويقول ربي أهانن.
ومن أنعم الله عليه سيشعر بمزيد من المسؤولية تجاه الآخرين، والأقرب أن يقول رب ابتلان! ليس أكرمن! أو ربما يقول: فتنني، وهذه مسؤولية أكبر.
{ونبلوكم بالشر والخير فتنة...}
{أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات! بل لا يشعرون!!}
إشارة ثالثة:
لقد ذُبح الكثير من الأطفال ونجا موسى واحد!
كم من يعقوب فقد ابنه وعاد يوسف واحد!
حتى أنت يا صديقي القارئ كم من دعاء دعوته ولربما تذكر منهم الآن استجابة مباشرة لدعاء واحد!!
وتأمل مآل مؤمن آل فرعون ومؤمن آل يس!
هل كل هؤلاء الذين أهلكتهم المعاناة كانوا لا يدعون الله؟!
أفعال الله عز وجل غير خاضعة للتخمين البشري، وإن كنا لا نجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، لكننا في النهاية لن نحيط بكافة الملابسات لنحكم على سنن الرب في عالم النفس البشرية المليء بملابسات لا تحصى، فيظل الدعاء بمفهومه المتسع هو ما يعيننا على كل حال.
والقرآن الكريم والسنة النبوية زاخرة بالكثير من هذه المفاهيم.
{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس!}
وسيدنا حاطب بن أبي بلتعة ارتكب فيما يشبه الخيانة العظمى بالثقافة المتعارف عليها إنسانيا، وتأمل رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيه!
هنا طبعا تحدثتُ عن النموذج الشائع في الحياة، وهو من صميم المنهج القرآني (مخاطبة النموذج الشائع)، قطعا ثمة حالات فردية لا تدخل في القضية ولسنا بصددها الآن، فهو ليس ببحث علمي أو أكاديمي بل هو ما يشبه بمواكبة العصر من خواطر خفيفة (تويتات.. منشورات.. ريلز.. شورتس...).
واقرأ أيضًا:
التدخين والكافيين ورمضان / قطيعة قاسية جدا!!