لأول مرة في التاريخ، تُجرى تجربة على مليارات البشر دون موافقتهم، دون بروتوكول علمي، دون لجنة أخلاقية تراقب النتائج، الفئران هذه المرة نحن، والمختبر هو العالم كله، والعلماء لا نعرفهم، أما التجربة فاسمها: السوشيال ميديا، وما زلنا في منتصفها، نراقب أنفسنا وهي تتغير، دون أن نعرف إلى أين تقودنا!
نحن الجيل الذي عاش على الحافة بين زمنين متناقضين تماماً، تذوقنا طعم الانتظار الطويل لرسالة في البريد العادي، عرفنا لذة الترقب لرنة الهاتف الأرضي، كنا نحسب الأيام والساعات، نملأ الفراغات بالخيال والتوقعات، نكتب رسائل طويلة بخط اليد، نختار الكلمات بعناية لأنها ستسافر أياماً، ثم فجأة، دون مقدمات، انقلب كل شيء رأساً على عقب، صرنا نعيش في عصر الإشباع الفوري المحموم، حيث كل رغبة لها زر، وكل سؤال له إجابة لحظية، وكل شعور له رمز جاهز، أما أبناؤنا فوُلدوا في قلب هذه العاصفة الرقمية، لم يعرفوا السكون قط، نشأوا في عالم يضج بالإشعارات المتواصلة، لا ينام ولا يصمت ولا يتوقف لحظة واحدة!
هؤلاء الأطفال الذين نقلق عليهم اليوم هم ثمرة طبيعية لبيئة صنعناها بأيدينا، أو بالأحرى، استسلمنا لها دون مقاومة حقيقية تُذكر، جيل كامل تربى على قانون اللحظة الآنية، فكل شيء هنا والآن وفوراً، المعلومة بضغطة زر واحدة، والمتعة بسحبة إصبع للشاشة، والصداقة بطلب إضافة، والتسوق من أي متجر وأنت متكئ على الأريكة، حتى الحب صار وجبة سريعة التحضير، والعلاقات الإنسانية قابلة للحذف والإلغاء، والغضب ينتشر بسرعة الفيروس المدمر في الفضاء الرقمي اللامحدود!
المفارقة المؤلمة هي أن الحياة الحقيقية ما زالت عنيدة، بطيئة وصلبة، لا تعترف بقوانين السرعة الرقمية المجنونة، فالشجرة تصر على أخذ وقتها الطويل لتثمر، والجرح يرفض الالتئام بضغطة زر سحرية، والحكمة تأبى أن تُحمّل كملف مضغوط، اما الحب الأصيل العميق فما زال يحتاج زمناً طويلاً ليتجذر وينمو ويزهر، لكن هذا الجيل المسكين حُرم من تعلم فن الانتظار الجميل، إذ لم يذق حلاوة الترقب المثير، ولم يعرف أن بعض الأشياء الثمينة تحتاج للنضج البطيء!
والحصيلة المحزنة؟ جيل لامع براق لكنه مبعثر مشتت، يعرف كل شيء سطحياً ولا يعرف شيئاً عميقاً، متصل بالعالم كله لكنه غريب تماماً عن نفسه، يسبح في محيطات من المعلومات لكنه يغرق في قطرة واحدة من الحكمة، يملك جيشاً جراراً من «الأصدقاء» الرقميين الوهميين لكن قلبه فارغ موحش، يحصد آلاف القلوب الحمراء والإعجابات لكنه لا يشعر بذرة رضا حقيقي!
الأخطر من كل ما سبق أن هذا الجيل «التجريبي» سيصبح قريباً جداً آباء وأمهات، فكيف يا ترى سوف يعلمون أطفالهم الصبر وهم لم يتعلموه أبداً؟ وكيف سينقلون عمق التأمل وهم يعيشون على السطح دائماً؟ وكيف سيورثون قيمة الانتظار الجميل وهم يرون أي تأخير عطلاً كارثياً؟
مؤكد أن الحل الواقعي لا يكمن في خوض حرب خاسرة محتومة ضد التكنولوجيا، بل في إعادة اكتشاف التوازن المفقود بحكمة، أن نتعلم رقصة جديدة رشيقة بين السرعة والبطء، بين الاتصال الدائم والانفصال الضروري، بين الصخب المستمر والصمت الشافي، أن نستخدم أدوات العصر الجديدة دون أن نصبح نحن أدوات مستعبدة له، أن نحتفظ ببطئنا الإنساني الجميل الأصيل وسط جنون السرعة القاتلة.
التجربة الكبرى التي نخضع لها مستمرة بلا توقف، والنتائج النهائية الحاسمة لم تظهر بعد، لكن البوادر المقلقة تنذر بتحول عميق جذري في جوهر الإنسان ذاته، فنحن لسنا أمام جيل فاسد منحرف كما يتوهم البعض ظلماً، بل أمام جيل مختلف جذرياً كلياً، يحتاج منا الفهم العميق قبل الحكم المتسرع، والمساعدة الصادقة قبل الإدانة، والحب الحقيقي قبل اللوم، وعلينا كآباء أن نعلم اننا لسنا مجرد متفرجين على هذه التجربة، فنحن جزء منها ونملك خياراً واحداً، أن نتعلم من التجربة أثناء حدوثها، وأن نتذكر دائماً أن أجمل الأشياء في الحياة ما زالت تحتاج الوقت، وقتا لتنمو، وقتا لتنضج، وقتا لتُحِب وتُحَب، ووقتا لتُفهم....
فلنُعِد لأبنائنا هدية الوقت... قبل أن ينفد الوقت؟!
واقرأ أيضًا:
دخان.. من غير نار! / العطش.. قرب النهر!
