يجري في القدس تهويد منظم للمعالم وطرد للأهالي وهدم للمساكن، لن يوقفها مزيد من القمم العربية المتهافتة، أو المفاوضات البائسة، ولا حتى بإعلان مزيد من الانتفاضات التي لم يقطف حصادها حتى الآن سوى المقامرين بقضية فلسطين. فالقدس بحاجة لمن يحررها، والطريق إلى ذلك إنما يكون بالعدة والعتاد، من خلال الفرق والفيالق العسكرية التي تنطلق من دول الطوق المحيطة بفلسطين، مؤازرة بتلك القادرة على حسم الحرب في المنطقة لا سيما تركيا وإيران.
من الواضح أن هذا الحل مستبعد تماماً على الصعيد السياسي الرسمي الذي تتحكم به الأنظمة في العالم الإسلامي، وهذا أمر مفهوم حيث أن وظيفة هذه الأنظمة تكبيل الأمة لا تحريرها، أما غير المفهوم فهو أن يجد استبعاد الجيوش من المعركة لتحرير فلسطين والأقصى مناصرين له من قبل من يتصدى لقضايا الأمة على المنابر وفي المتديات وفي وسائل الإعلام، على اعتبار أنه طرح غير ذي صلة بالواقع.
وكأن هؤلاء يعفون من تقع على عاتقه المسؤولية من واجباته، وكأنه يجب الاستسلام للواقع البائس الذي تحياه أمتنا عوض تغييره بما يخدم قضاياها، لا سيما عندما تعتبر شعوب هذه المنطقة بأسرها أن قضية فلسطين هي قضيتها، وأن القدس هي قدس كل فرد فيها. وتراها كم هي متشوقة تواقة لتحريرها ودك كيان الغاصبين لها رغم ما يمكن أن تتكبده من تضحيات، هي على أتم الاستعداد لها. ما يعني ضرورة التفكير الجاد في معالجة واقع جيوش الأمة الحالي وتوجهاتها لاستعادة دورها في خدمة الأمة وقضاياها، بدل أن تكون سند الحاكم الفاسد ورأس حربته في خاصرتها.
الأشد غرابة في هذا الإطار، أن "تصدع" حناجر قيادات "حركات المقاومة" في المنطقة بالدعوة المكررة إلى تحييد الجيوش بحجة عدم توريطها في حرب لا قبل لهم بـها مع "إسرائيل"، داعين بدل ذلك إلى تفعيل المقاومة الشعبية، مع العلم أن القوى الشعبية تقر بعدم قدرتها على تحرير فلسطين. وهكذا يمنح ممثلو المقاومة الرخصة للحكام لإبطال دور الجيوش وإعفائها من مسؤولياتها تجاه أمتها، بدل أن تعمل على تجييش الأمة لتفجير طاقاتها وتجيير مقدراتها (وعلى رأسها الجيوش) لجرها معها في حربها للقضاء على الأعداء الغاصبين للمقدسات.
فأي مقاومة لا تكون صاعقاً يطلق عملية التغيير الشاملة في المنطقة، يجعل من مقاومته تلك مجرد أداة للضغط، تستعملها القوى الإقليمية في إطار التسويات والصفقات التي تجريها وترعاها الدول الكبرى. والأعجب (من دعوة ممثلي المقاومة لتحييد الجيوش) أن تسعى تلك الحركات بدأب للانخراط في سلك النظام الرسمي الحاكم في المنطقة، ذاك الذي يعد آفة هذه الأمة وأس بلائها، ما يسبغ الشرعية المفقود على تلك الأنظمة.
وعلى فرض التسليم جدلاً بأنّ حركات المقاومة الشعبية أكثر جدوى من الجيوش لقهر العدو وإلحاق الهزيمة به، عندها يجب أن تتم المطالبة بتحويل تلك الجيوش إلى منظمات مقاومة (على شاكلة ما حصل عند انهيار النظام العراقي والتحاق قطاعات كبيرة من الجيش بالمقاومة). هكذا ينخرط الجند المدربون والمهيئون للقتال في الحركات المقاومة بدل تركها لمجموعات من المتحمسين والهواة.
ومن المفارقات في هذا الصدد، أن يطلب من أطفال ونساء وتلاميذ المدارس والمعاهد والجامعات إشعال انتفاضة جديدة في الضفة الغربية نصرة للأقصى، فيما يُبرر لجيوش المسلمين الجرارة، تلك التي تتجاوز العشرة ملايين مقاتل الشخير في ثكناتها. مع العلم بأن أي انتفاضة تحصل، لن تشكل في نهاية المطاف سوى أداة ضغط إضافية لا أكثر في عملية التسوية الجارية، والتي لن تفرز في أحسن الأحوال سوى سلطة بائسة تتحكم برقاب أهل فلسطين.
أضف إلى ما سبق أنه قد ثبُت يقيناً قدرة تلك الجيوش (على علاتها) من إلحاق الأذى البالغ بــ "إسرائيل"، حين تصدّى الجيش الأردني (مثلاً) لأرتال الجيش الإسرائيلي في معركة الكرامة (سنة 1968) فمزقها إربا، وكذلك حين شن الجيشان المصري والسوري حرب أكتوبر تشرين الأول 1973 على "إسرائيل". ولا يعنينا كثيراً ما حصل لاحقاً من تدهور في الأوضاع العسكرية نتيجة المؤامرات والقرارات السياسية المنحرفة، التي حاول أصحاب القرار من خلالها استثمار نتائج تلك الحروب في تسويات رخيصة ترضي الولايات المتحدة الأمريكية وتضع أوراق اللعبة كلها بين يديها.
كما يرُدّ تلك الذريعة بشكل قاطع كذلك هو أنّ تلك الجيوش لم تفتأ تتقاتل فيما بينها أو مع قوى داخلية، وتتكبد الآلاف وربما مئات الآلاف من خسائر في أرواح جنودها في معارك، المنتصر فيها خاسر، كما وقع بين مصر واليمن (1962-1968) وبين إيران والعراق (1980-1988)، وبين الجيش السوري والجماعات الإسلامية (1979-1982) وبين الجيش الجزائري والجماعات الإسلامية المسلحة (1991-2007)، وبين الجيش اليمني والحوثيين (2004-2010)، وبين الجيش الباكستاني وطالبان (2009-2010) وهكذا.
أوليس كل هذا وغيره دليلاً واضحاً على أن الجيوش تستطيع أن تقاتل، بل وأن تقاتل طويلاً إذا ما أريد لها. إذن لماذا لا تُدفع هذه الجيوش لتقاتل من أجل تحرير مقدساتها، فهي على الأقل حينها تقاتل من أجل قضاياها المحقة، بدل أن تستنزف في خدمة مصالح الدول الكبرى أو في سبيل ترسيخ أقدام حكام لا همّ لهم سوى الحفاظ على كروشهم وعروشهم.
وخلاصة القول، إنّ تحرير الأقصى بل وكافة فلسطين يكمن في تحريك الأمة جيوشها، التي لا يؤمل أن تتحرك في ظل هيمنة أنظمة حاكمة ارتضت التبعية للأجنبي. ولذلك كان لا بد من السعي الدؤوب لتغيير تلك الأنظمة. وعلى المتنفذين والمفكرين والمقاومين وكل المخلصين تحمل مسؤولياتهم في عملية التغيير هذه، حتى تستقل الأمة بقراراتها وكافة مقدراتها وبالتالي تتحرك لتحرير بلادها ومقدساتها.
واقرأ أيضاً:
الوحدة الوطنية الفلسطينية لأجل فلسطين/ الفلسطينيون يبحثون عن مخرج عربي!/ إعادة تشكيل الإطار السياسي الفلسطيني/ الصراع الفلسطيني الفلسطيني/ عكا ووحدة الشعب الفلسطيني/ الانقلاب الثقافي الفلسطيني