ما وقد صدر القانون الخاص بإنشاء محكمة خاصة للأسرة تختص بفض المنازعات الأسرية وهي خطوة لإعطاء دفعة حتى لا يطول أمد هذه المنازعات وتصبح خطوات التقاضي جزءا من المعاناة الإضافية التي تعصف بكيان الأسرة التي تمر بأزمة وصلت إلى حد النزاع... فلأنه بحكم عملي وتعاملي مع المشاكل الأسرية والاجتماعية سواء كطبيب نفسي أو كمستشار اجتماعي فإنه يبقى لدي بعض الملاحظات التي لابد أن تستلهمها روح القانون أو ينظر المجتمع في كيفية معالجتها حتى لا يتحول الأمر إلى مجرد أشكال ومسميات فارغة من المضمون:
أولاً: أن النزاع الأسري ليس مثل النزاعات الأخرى التي تنشأ في المجتمع سواء من حيث أطرافه أو من حيث ما يترتب عليه من نتائج... فطرفا النزاع هما الزوج والزوجة، وهما طرفان قد قامت بينهما عشرة وحياة مشتركة تنتج في معظم الأحيان أولاد......
ولذا فإنه مع حدوث النزاع يظل المدخل الأول هو محاولة الإصلاح وهو الخطوة الغائبة والتي بسببها تتفاقم الأمور لأن الأمر حين يصل إلى أقسام البوليس والنيابة ويتدخل فيه المحامون يصبح من الصعب رأبه.....
لأن كل هذه الجهات تتعامل معه بنفس منطق النزاع العادي من حيث إثبات الحالة ومحاولة كل طرف إثبات حقه والنيل من الطرف الآخر قدر الإمكان في حين أنه لو وجد من يقف للشاكي من أول لحظة مهما كانت ظروف الشكوى وأحداثها خاصة وأن الأمر أصبح ميسر مع انفصال نيابة الأحوال الشخصية ومحكمتها في كيان خاص بل ويجب أن يكون هذا الإجراء حتى في قسم الشرطة بمعنى أن تكون هناك تعليمات ونظام بحيث أن أي نزاع طرفاه هما الزوجان سواء زوج يشكو زوجته أو العكس فلا يأخذ الخطوات العادية بل يبدأ بالإحالة إلى هذه الجهة التي تستدعي طرفي النزاع ليس لاتخاذ إجراء ضد أحدهما ولكن لمحاولة الإصلاح بينهما والأولى بذلك أيضا وكلاء النيابة قبل شروعهم في إجراءات التحقيق الرسمية أن يكون هناك مجال لدراسة المسألة بعيدا عن الإجراءات القانونية الجافة ونصوصها الجامدة التي لا تصلح للتعامل مع لبنة المجتمع الأولى –الأسرة- بهذا النوع من الجمود والبرود,
وبذلك يمكن أن تحل كثير من الخلافات في مهدها.. ونكون بذلك قد ضربنا عصفورين بحجر واحد... الأول هو الحفاظ على كيان الأسرة قبل أن تأتي الإجراءات القانونية لتقضي على أي أمل في الإبقاء عليه, والثاني هو تخفيف العبء على جهات التقاضي لتصبح أكثر قدرة على دراسة ما تبقى من منازعات بصورة تفصيلية أيضا تحتاجها الأسرة، وتؤدي زيادة أعداد القضايا إلى نوع من الضغط الذي يجعل قراراتها غير المدروسة جيدا سببا في تفاقم النزاعات وتصعيدها لأعلى درجات التقاضي مضيفة أعباءً ثقيلة على الجميع.
ثانيا: حتى لو استمر النزاع فإن إجراءات حله أيضا لابد من إعادة النظر فيها, وسأضرب مثالا واحدا مما رأيته واحتككت به عن قرب حتى يتضح ما أرمي إليه...
إختلف زوج وزوجة وحدث خلاف على حضانة الأولاد... ترفع الأم دعوى للحضانة... تتقدم للنيابة بطلب لإصدار قرار مؤقت لضم الأطفال لحضانتها لمصلحتهم أو لأنهم ما زالوا في سن حضانتها...
لا نتحدث هنا عن مضمون الخلاف أو أحقية أي طرف لحضانة أطفاله فهذا سنعرض له لاحقا... ولكن سنتحدث في إجراء بسيط وهو كيفية تنفيذ قرار الحضانة سواء من النيابة أو من المحكمة... هل يعقل أن يكون المنوط بذلك هو قسم الشرطة بمعنى أنه على من صدر له قرار الحضانة أن يتجه إلي قسم الشرطة التابع له ليقوم القسم بإرسال استدعاء للطرف الآخر للحضور بأطفاله إلى قسم الشرطة لتنفيذ القرار، وإلا فستحضر قوة من القسم للمنزل لتنفيذ الأمر بالقوة....
لنتخيل الموقف في الحالتين...
على الأطفال أن يواجهوا هذا الموقف والذي قد يمضي أحد الطرفين في تفاقمه كيدا في الطرف الآخر فيتم بصورة فيها نوع من التصعيد... ألا يحتاج هذا الإجراء البسيط والمقصود به مصلحة الأطفال أولا وأخيرا أن يتم بصورة صحية وعن طريق جهة تحسن التمهيد له.. فلا مكان الإجراء ولا طريقته ولا مفاجأته تصلح للتعامل مع أطفال.. وحتى لو تجاوزنا عن مسألة الطريقة والمكان...
فإنه لا يصح بأي شكل أن يتم ذلك بدون مراعاة لنفسية هؤلاء الأطفال بحيث تتدخل هذه الجهة للتمهيد وللأمر والإعداد النفسي للأطفال لتقبله حتى ولو كان طفلا صغيرا أو حتى رضيعا, فهذا الطفل الذي اعتاد أحد أبويه لفترة قصرت أو طالت حسب مدة النزاع هل يصح أن ينزع قسرا وفجأة إلى الطرف الآخر دون أي تمهيد, إن جهة ما غير قسم البوليس وغير أفراده غير مؤهلين للقيام بهذا الدور هي المطلوب منها أن تقوم بما يمكن تسميته التطبيع في العلاقات ودراسة الموقف النفسي للأطفال واتخاذ الخطوات المتدرجة لهذا الانتقال وهذا ليس بدعة ولكنه هو ما يتم في مجتمعات غربية حفاظا على هؤلاء الأطفال إن كنا ندعي حرصنا على مصلحتهم.
ثالثاً: نعود إلى نقطة الحضانة ثانية والتي ذكرناها كمثال لقصور الإجراءات وخطورتها في التنفيذ فإننا نقف الآن مع مضمون قضية الحضانة, فالأمر يحتاج إلى إعادة نظر قد تصل إلى اجتهاد شرعي يتناسب مع مقتضيات العصر ومتطلباته...
لأن فقهاءنا الكرام وهم يتحدثون في هذه القضية الاجتماعية ذات البعد الشرعي إنما كانوا يستلهمون روح عصرهم... فعندما يتحدث الإمام أبو حنيفة عن الطفل الرضيع أو غيره ويقول الحضانة للنساء والحضانة للأم ولو كانت كافرة....
فإن الأمر في مجتمعاتنا وقد اختلت صورة المرأة وطبيعة الأم يحتاج إلى دراسة نفسية واجتماعية لكل حالة على حدة وهذا أيضا ما يتم في الغرب وهو ليس بعيدا عن روح الإسلام...
فقاعدة المصلحة هي قاعدة شرعية ذهبيه, والأمر أصبح أكثر تعقيدا من مجرد إستيفاء شكلي لشروط الحضانة.. ولكن الأمر يحتاج أيضا إلى جهات تقوم بدراسة هذه الشروط على أرض الواقع خلال مدى زمني مناسب تتم فيها دراسة ميدانية تعتمد على الزيارات لكل من طرفي المشكلة ودراسة حقيقية لظروف كل منهما بل وكذلك اختبارات نفسية وشخصية بحيث يكون القرار في النهاية ليس معتمدا على قاعدة ثابتة وضعت لغير زماننا خاصة وأن للفقهاء في هذا اختلافا كبيرا يمكننا أن نتحرك في إطاره.
رابعا: لتصبح النقطة الأخيرة في من يقوم بإصدار القرار الوقتي بإعطاء الحضانة لأحد الطرفين فهل يصلح وكيل نيابة حديث التخرج أعزب لم يتزوج بعد لا يعرف الحياة الزوجية والأسرية ولا خبرة له بالزواج أو الأولاد أو الطبيعة النفسية لهؤلاء الأزواج، هل يتسنى لهذا الشاب أن يصدر قرارا ينظر فيه إلى الأوراق دون أن يمتلك الخبرة الكافية سواء القانونية أو الاجتماعية لإصدار هذا القرار فضلا عن غيره من القضايا الأخطر, في هذا المجال لا يصلح السلم الطبيعي لوكلاء النيابة طالما أننا سنقوم بإنشاء نيابات خاصة ومحاكم خاصة للأسرة...
وليس هناك مجال أيضا للتحيز لجنس دون آخر فنقول أن المرأة مثلا هي الأقدر, فهذا تحيز لا مبرر له ولكن الأمر ببساطة هو في كم الخبرة الإنسانية والقانونية التي تؤهله لإصدار قرارات تمس كيان الأسرة بناء أو هدما فلا يصلح أن يكون مجالا للتجربة أو اكتساب الخبرة وأيضا لابد من وجود فريق معاون قوي من الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين المؤهلين لمساعدته في اتخاذ القرار الصحيح.
هذه ملاحظات سريعة استدعاها إصدار قرار إنشاء محكمة الأسرة يجب أن توضع في الاعتبار ونحن نضع الصورة التنفيذية حتى لا نكتفي بالأشكال ونترك الممارسة العملية تـئـد كل ما تصورنا أننا نحققه من خلال هذه القرارات والقوانين.
إنني لا ألقي هذا العبء على جهات التقاضي وحدها وإن كان العبء الأكبر عليها سيكون في تنظيم هذه الأمور ولكنني أيضا استلهاما من التجربة الغربية التي سبقتنا في هذا المجال أدعو إلى الاستعانة بمؤسسات المجتمع المدني للقيام بالدور الأكبر في ذلك فإن من يقوم بدور محاولة الإصلاح أو دراسة المواقف الاجتماعية والنفسية أو تنفيذ الإجراءات بصورة إنسانية هو جمعيات متخصصة...، يختص كل منها بتأهيل فرق كاملة للقيام بالأدوار المختلفة وتمنح سلطات تنفيذية تبدأ بإحالة الأمر إليها وتنتهي بالاستعانة بتوصياتها في اتخاذ القرار...
إن المجتمع كله مطلوب منه أن ينهض للقيام يدوره في هذه المسائل.. فإننا كنا قد ضربنا مثالا واحدا بالحضانة.. فإن الرؤية والنفقة وغيرها من التفاصيل تحتاج لجهد اجتماعي أكبر من مجرد جهد قانوني خاصة وأن هذه الأمور يعيشها المجتمع ليل ونهار ولن تنتهي فهي جزء من حياة البشر.
إن المجلس القومي للمرأة هو المرشح الأول للقيام بهذه الأدوار فليس المطلوب منه التوعية القانونية للمرأة بحقوقها أو تقديم العون القانوني المجاني فهناك مساحات أخرى أخطر وأهم قبل أن نصل للقانون والوعي به ودعم النزاع لصالح أحد الأطراف...
الكل مدعو للإدلاء برأيه فهذه تعتبر ورقة مبدئية تحتاج للمشاركة والعمل عليها حتى تتبلور رؤية خاصة بنا.... نعم أمامنا تجربة إنسانية سبقتنا نستطيع الاستفادة منها ولكن خصوصيتنا تحتاج منا جهود متظافرة.
الخلاصة أننا نريد أن تسود روح الإصلاح بدلا من روح النزاع وأن يتم الاهتمام بالخدمات والمؤسسات المعاونة التي تحافظ على كيان الأسرة وروحها.
اقرأ أيضاً:
صمت الأزواج.. طلقات في جسد الزوجات / سيكولوجية الخصوصية الزوجية(2) / التراكمات في الحياة الزوجية(2) / الصمت الزوجي