نعم، ثقافتنا (ثقافة قلقة)... لا أحسب أن هنالك توصيفاً أدق من ذلك، وسأروي لكم الحكاية من البداية... في خضم تأملاتي المتواصلة ومحاولاتي التشخيصية للثقافة العربية المعاصرة في ضوء ما نسميه بـ (التشخيص الثقافي الحضاري)، ظل تفكيري مشدوداً ومنشغلاً بالبحث عن وصف يعبر عن رؤيتي (التشخيصية) المتواضعة لواقع تلك الثقافة.
مرت بضع سنين دون أن أظفر بوصف يعكس الصورة المرتسمة في ذهني، تلك الصورة التي جعلت أجزاءها تتضح بشكل متزايد بمرور الوقت... ولكن هيهات للعقل الإنساني أن ينشط ويشتغل في قضايا معقدة بدون وقود كافٍ... هذا الوقود يتمثل بمصطلحات عميقة، أو لنقل مصطلحات (انعكاسية) لما يدور في الذهن وما يتقلب به العقل من صور أو ارتسامات أو تجسيدات لقضايا فلسفية أو فكرية أو تجريبية؛
فالمصطلح الانعكاسي العميق يمثل لبنة أساسية من لبنات التفكير الإنساني؛ بل قد يقتحم ويعبر الإنسان بمثل هذه المصطلحات (مفاوز) فلسفية كانت منهكة وربما مهلكة لمئات العقول من قبله، فضلاً عن كون تلك المصطلحات (مُكثفات) لعشرات الأفكار المنطبعة في جدار الذهن والمرتسمة على صفحة الواقع... أي أن المصطلح الانعكاسي أشبه ما يكون بمغناطيس يجذب ذرات حديد متناثرة!
نزل عليّ وصف (الثقافة القلقة) وأنا أتحدث مع صديق عزيز عليّ -الأستاذ أحمد الكبير- عبر الهاتف الجوال... لا أعرف من أين أتى هذا الوصف؟ ولا أدري لماذا قررت آنذاك -قبل نحو سنتين- أنه هو ما كنت أبحث عنه.. هو بالضبط؟ قطعت حديثي معه لأخبره بأن ثمة شيئاً مهماً حدث لي هذه اللحظة... ن عم إنها (الثقافة القلقة)، استوقفته من غير شعور؛ مستأذناً إياه أن أُمسكه طرفاً من أطراف الموضوع، ورحت أكشف له بكلمات مُتدافعة بعض زوايا الموضوع، مستحضراً بعض الأمثلة والشواهد التي تعزز هذه النتيجة.
أعود لموضوعنا حول الثقافة القلقة، والذي أحاول من خلال هذا المقال وما يتبعه أن أجيب على بعض الأسئلة المحورية، علها تعيننا على تلمس سبل الخلاص من أزمتنا الثقافية الكبرى التي نعيشها ونتعايش معها وربما نغذيها أحياناً بما يضخمها ويجعلها تتفاقم، شعرنا بذلك أم لم نشعر. هذه الأسئلة تشمل الآتي:
- ماذا نقصد بمصطلح (الثقافة القلقة)؟ لماذا الثقافة القلقة؟
- وما هي أبرز سمات الثقافة القلقة؟
القلق في اللغة يدور حول معان تتمحور حول الانزعاج وعدم الاستقرار، وأقلق الشيء أي حركه من مكانه، فالقلق يعكس حالة الاستقرار، وفي هذا المعنى نجد في محكم التنزيل قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} أي فارغاً من مشاعر الانزعاج والاضطراب والخوف على رضيعها -عليه السلام-؛
ممتلئاً بمشاعر الطُّمَأْنينة والسكينة. ونحسب أنه سيكون من المفيد منهجياً أن نعتمد على المدخل السيكولوجي في تعريفنا للثقافة القلقة وتشخيصنا لها، لاسيما أن ذلك المدخل هو القاعدة الفكرية التي أوصلتنا لذلك الوصف، أي أن تفكيرنا كان مشبعاً بالتحيزات المنبثقة منه، وينضاف إلى ذلك أن المدخل السيكولوجي قد أفلح إلى حد كبير -على الرغم من تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر- في تشخيص القلق وفي قياسه وتحديد أسبابه واقتراح طرائق فعالة للعلاج. ونحن هنا لن نمارس عملية (استيراد بالجملة) من علم النفس كما لن نتورط في إطاره التفصيلي، بل هي استعارة لتوصيفاته وملامحه العامة.
ينظر علم النفس للقلق على أنه حالة انفعالية مؤلمة مصحوبة بالخوف من خطر غير محدد، وإن أردنا مزيداً من الدقة فإنه يمكننا القول بأن القلق حالة (مزمنة) أو (مؤقتة) من الخوف (الغامض) الذي لا يعرف الإنسان أسبابه، أي أن ذلك الخوف ينبع من تهديدات غير محددة؛ مع الإحساس بالعجز عن مواجهتها.
والقلق هو استجابة انفعالية يتعلمها الفرد في سياقه الاجتماعي وفق مفهوم ارتباط المثير بالاستجابة (أي الارتباط الشرطي)، والقلق قد يكون (حالة) أو (سمة)، فقلق الحالة مؤقت ومرتبط بمواقف محددة وهو خبرة شائعة بين عموم الناس، لا يكاد ينفك منها أي إنسان البتة؛
أما قلق السمة فثابت نسبياً ومرتبط بنمط الشخصية للإنسان المصاب بعصاب القلق، وقد يتطور القلق كحالة ليصبح قلقا كسمة ملازمة للإنسان، وهنا الخطورة، وهذا هو (القلق العميق) وهو ما يعنينا في هذا التشخيص. القلق العميق يشتد بالإنسان؛ بل يستبد به إلى درجة يتولد معها شعور بالبلبلة الفكرية والذعر النفسي؛
شعور يجتاح الوعي؛ وتغذيه اجترارات فكرية ازدرائية تشاؤمية، فثمة ازدراء للماضي مطبوع بالأسف، وثمة تشاؤم من المستقبل وخوف منه ممزوج بشعور عميق بالعجز والشك والتردد والدونية وعدم الكفاءة وعدم الأمن والضيق والتشتت والأرق، فالحاضر غير مؤكد والمستقبل مشكوك فيه، بل أشياء كثيرة حول الإنسان تبعث على الشك والتردد في الإقدام أو الإحجام، مع أمزجة حادة غير مستقرة، والصدور عن ردود أفعال غير مدروسة، وهذا يعني أن القلق لا يوصل الإنسان إلى مستوى (الارتياح) و (السكون) الذي لا يتحقق إلا بعزيمة أو يأس، بل هو يتجلجل في ما بينهما، فلا عزيمة تمضيه لغايته ولا يأس يقعده عنها، فاليأس إحدى الراحتين كما يقال.
ومن أهم أسباب القلق التهديدات المحتملة للأهداف أو المصالح، والشعور بعدم القدرة على إظهار الرغبات أو إشباعها، والشعور بالذنب والخوف من العقاب، ووجود مواقف تتطلب اتخاذ قرارات خطيرة، ويتغذى القلق ويتجذر بالجانب التراكمي، أي بتكرار المواقف والخبرات المؤلمة والباعثة على القلق.
وتأسيساً على ما سبق يمكننا القول بأن الثقافة القلقة هي تلك الثقافة المضطربة الخائفة من (معلوم يشبه المجهول) أو (مجهول يشبه المعلوم)... إنها تلك الثقافة التي يكتنفها قدر كبير من اللاطمأنينة واللاستقرار واللاحسم واللاثقة، إنها الثقافة التي يعتريها حالة من الاضطراب في الشعور، ودونية في تقييم الذات، وتكلس في التفكير، وضعف في الأداء، ونقص في الفعالية، وضمور في الطموح، وتردد في القرار...
ومن هنا يمكننا تقرير أن الثقافة القلقة ليست (وصفاً) أو (حالة) عابرة، بل هي سمة مرتبطة بظروف الزمان والمكان، إذ أنها تمثل ترمومتر بالغ الدقة والحساسية تجاه كل ما يعج به المشهد الثقافي من أفعال ورمزيات وأحداث وملابسات، بما في ذلك الفضاءات الممنوحة للثقافة والمثقفين من قبل (السياسي) و(الاجتماعي)، برغبة حقيقية أو بدونها، فضلاً عن التراكمات الفكرية المحسوبة -بحق أو بدونه- على (الديني) بمنهجه وأهدافه ومنطلقاته وآلياته ومؤسساته.
وتلك الفضاءات تشير إلى أقدار الحرية والوجاهة والتأثير التي يتمتع بها المثقف العربي في المشهد الثقافي، وهذا له دلالات كبيرة وانعكاسات على فعالية الثقافة العربية المعاصرة.
الفضاء الصحفي لا يتيح لنا معالجة الأسئلة ذات البعد المعرفي -الإبستمولوجي- مما يجعلنا نكتفي هنا بطرحها دون الإجابة عنها، ومن تلك الأسئلة ما يلي:
حين نصم ثقافتنا بأنها (قلقة): هل يعني ذلك أننا كبشر قمنا بإنتاج القلق ومن ثم تصديره لتلك الثقافة؟
أم أن الثقافة لها قابلية إنتاج القلق أيضاً -بطريقة تشبه أو لا تشبه طريقتنا- لتقوم بعد إنتاجه بتصديره لنا من خلال بعض الأدوات الثقافية كالتفكير الجمعي والذاكرة الجمعية؟ أم أن هنالك خياراً ثالثاً يذهب إلى أن التأثير تبادلي تفاعلي؟ وفي هذه الحالة نتساءل: من يسبق من في التأثير والتأثر؟
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟ / القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية! / وعينا متوعك!! / المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون! / ما وراء (التشخيص الثقافي)!