إن كثيراً من الأشخاص يُسحَرون بالعنف حيث يمضون ساعات طويلة أمام الفضائيات من خلال التلفاز أو الانترنت لمشاهدة عروض السرقات المسلحة والاختطاف والقتل.
بالطبع طلاب الطب لا يهدرون وقتهم بهذه الطريقة، ولكن الجرائم تسحر الكثير من مراهقينا وشبابنا، ولكنها في نفس الوقت تسبب لنا التقزز.
بشكل عام نحن لا نحب التفكير بالجرائم في منازلنا أو في جوارنا أو حتى في مستشفياتنا. نحن نحب أن نفكر أن الجريمة لن تصيبنا، وأن المجرمين لن يكونوا مرضى لنا. ولكن المجرمين ليسوا جميعاً وراء القضبان. إنهم في الشوارع، الكثير منهم لديهم أعمال، وعندما يمرضون فإنهم يزورون عياداتنا وغرف إسعافنا ومستشفياتنا.
إنهم يصحبون أولادهم إلى طبيب الأطفال وأهلهم المتقدمين بالسن إلى العيادات. إن تصور الناس أن للمجرم عينان مائلتان وفصوص أذن متميزة أو مظهراً إجرامياً خاصاً ناتج عن مشاهدتهم لأفلام التلفزيون أو قراءة القصص.
إن مخرجي الأفلام عموما يختارون أبطالهم لهم شكل معين يميزهم والمجرمين في أفلامهم لهم سمات كأنهم من نسل الشيطان، لكن المجرمين لا يمتلكون تلك الصفات الخاصة التي تميز طبيعتهم الإجرامية، ويجب أن نتذكر دائما إنهم لا يأتون إلينا والأصفاد في أيديهم.
كذلك الأمر فإن ضحايا العنف قد يمرون دون تمييزهم. نحن لا نرى ما لا نريد أن نراه، والأطباء ربما يكونون أكثر سرعة من غيرهم في رد وجود عين عمياء أو أذن صماء إلى كونها ناشئة عن أذى شخصي.
إن مثل هذا الإنكار في تحديد السبب قد يجعل العالم أجمل مما هو في الواقع، لكن الإنكار من قبل الأطباء لا يكون في مصلحة المريض.
إن كثيراً من الإصابات الجسدية الكبيرة تُرد إلى كونها حوادث لأننا لا نستطيع التفكير بما لا يمكن التفكير به، وأن نفكر باحتمال وجود العنف كسبب.
والشخص الذي يذكر أن سيارة مرت بجانبه ودفعته وأن سائقها قام بإطلاق النار عليه قد يكون مجرماً حاول سرقة متجر ما وقام صاحب المتجر بإطلاق النار عليه.
والشاب الذي "كان يمشي في الشارع تمّ دفع برجله أسطوانة الغاز فانفجرت وسببت له الأذى"، قد يكون مصاباً بسبب انفجار قنبلة موقوتة- كان يصنعها- بشكل مبكر.
العنف في المنزل VIOLENCE IN THE HOME
إن الإصابات الناجمة عن العنف في المنزل تعزى عادة إلى حادث، سواء من قبل الفاعل أو الضحية. إن الضحية يخفي السبب الحقيقي لجراحه وتشاركه العائلة في صمته.
والطفل المصاب بكسور في رأسه "كان قد سقط من على السرير"- بينما في الحقيقة كان قد تلقى الضرب من والده. الزوجة المصابة بكسور متعددة دُفعت من أعلى الدرج من قبل زوجها. والزوج المصاب بطلق ناري "أصيب به أثناء تنظيفه لمسدسه"- لكن زوجته في الواقع التي أطلقت عليه النار. والجدة "تزحلقت على البساط" وأصيبت بكسور في حوضها ولكن ابنتها هي التي دفعتها في الحقيقة.
هذا ورغم انتشار حالات ضرب الأطفال والزوجات في العقود السابقة إلا أنها وحتى في السنوات القريبة فإنه من السهل عدم ملاحظة وجود الاعتداء ضمن العائلة عندما لا يصرح المريض بوجود العنف ويبدي شرحاً معقولاً لإصابته مع وجود شخص قريب يبدو مهتماً بالمريض.
إن صمت المصاب نابع من خوفه من التهديد بالموت أو الإيذاء الأشد من قبل المعتدي فيما لو صرح بالحقيقة. أو ربما يكون السبب هو الحرج من الاعتراف باسم المسبب.
هناك حالات اعتداء المراهقين على أهلهم. وهناك حالات ضرب لرجال من قبل زوجاتهم لكن الرجل يشعر بالخجل من التصريح بالسبب.
والدراسات تظهر أن نسبة الضرب للزوجات أعلى من نسب الضرب للأزواج، كما أن الأذيات الجسدية هي في النساء أكثر من الرجال بسبب السلوك العدواني الأشد عند الرجال.
كما أن النساء يلجأن إلى تحمل الإهانة والصبر على الأذى لأنهن مقيدات بالزواج لأسباب نفسية واجتماعية ومادية وغيرها.
أيضا إن المسنين قد يكونون كالأطفال الصغار متعبين ومسببين للغيظ. فالبنت قد تسحب أمها المسنة التي تأخرت بالقدوم إلى مائدة الطعام من يدها مسببة لها خلعاً كتفياً. وفي غرفة الإسعاف لا تذكر الوالدة أي شيء عن دور ابنتها في ذلك لأنها تخاف من ردة فعل ابنتها عندما تعود إلى المنزل، أو أن ترسلها ابنتها إلى مأوى العجزة. إن استجواباً دقيقاً من قبل الطبيب أو الممرضة قد يظهر المصدر الحقيقي للإصابات ويحمي ذلك بالتالي المريض من العودة بعد عدة أشهر إلى المشفى وقد أصيب بكسر آخر.
إن محاولات الانتحار ومحاولات القتل قد تلتبس أيضاً مع "الحوادث" و"الاعتداء". فكثيرا ما نخبر من قبل إحدى النسوة ادعائها "أن لصاً قد أطلق عليها النار بعد أن اقتتلت معه عندما حاول اغتصابها"- لكن الحقيقة أنها حاولت قتل نفسها بإطلاق النار على صدرها.
راجع أحد الشباب المشفى بسبب جروح قاطعة في يديه مدعياً أن السبب هو إصابته بسبب نافذة مكسورة. وأثناء وجوده في المشفى ألقت الشرطة القبض عليه بسبب قيامه بقتل والديه طعناً بالسكين وكان السبب في جروحه هو السكين التي استعملها في الجريمة.
إن عدداً كبيراً من المرضى الذين يدخلون بسبب الحروق، تسببوا بهذه الحروق بشكل متعمد لشد انتباه الآخرين أو كمحاولة للانتحار أو لأسباب أخرى. بعضهم يذكر أن السبب هو "حادث عفوي". وقد يكون هناك حادث في الواقع. فإحدى ربات البيوت ذكرت أنها "كانت تستعمل مادة بترولية مع الدهان فسقط عليها رماد السيجارة مما تسبب في اشتعال المادة وحدوث الحريق".
ولكنها في الواقع كانت تخطط لإحراق غرفة الجلوس للحصول على تعويض من شركة التأمين بسبب الحريق الذي كان سببه "ماس كهربائي". لكن النار اشتعلت بأسرع مما توقعت فوقعت هي ضحية لما كانت تنوي فعله. (هناك مقولة بين مفتعلي الحرائق "أن يجب على الإنسان أن يعرف ماذا يفعل وإلا سيكون هو الأول الذي سيحترق").
بشكل عام ورغم أن المريض يخبر الطبيب عن العنف أو التهديد بالعنف في المنزل فإن هذه الرسالة الهامة لا تعطى حق قدرها من قبله. رجل غاضب من زوجته إلى درجة يهدد فيها بإحراق المنزل عندما تكون زوجته نائمة.
فرد الطبيب "لا، أنت لن تفعل ذلك... هل ما زلت تعاني من آلام القرحة؟" وقد يهمل الطبيب استجواب المريض حول أسباب إصابات كبيرة أو حتى محاولة قتل بأن يستجيب لقول المريض: "لقد تشاجرت مع زوجتي" بقوله: "قل لي كيف بدأ الشجار".
ينتبه المريض للتلميح وتجري مناقشة عقلية عن عدم الانسجام الزوجي بدلاً من إجراء حساب مخيف لاستعمال العنف. كان على الطبيب أن يجيب "هل ضربتها؟ هل سببت لها عيناً سوداء؟ هل حطمت عظامها؟ هل يحدث ذلك كثيراً؟" إن المرضى سريعو الانتباه لكراهية الطبيب وترفعه عن التحدث عن العنف أو لعدم قبوله لمثل هذه التصرفات من خلال نظراته وأقواله.
وقد لا يشتكي المريض من العنف أو الأذى ولكن الأعراض قد توجه الطبيب وكمثال، ضائعات مهبلية أو حمل عند فتاة عمرها 14 سنة. قد تشير الفتاة أنها حامل بسبب ابن الجيران أو صديقها، ولكنها في الحقيقة ضحية لاعتداء والدها الذي هدد بقتلها فيما لو أباحت بالحقيقة.
كثيرا ما تراجع الزوجات اللواتي يتعرضن للضرب، ولكن يأتين بشكاوى مثل الصداع، حس الاختناق، الربو، ألم الصدر، أعراض هضمية، آلام حوضية، ألرجيا. هذه الأعراض قد تكون ذات علاقة مع قصة ضرب قديمة ولكنها ليست بذات علاقة مع عملية الضرب الحديثة.
وقد تعود المريضة لمرات بحالة سكري غير مضبوط أو صرع غير مسيطر عليه. إنهم لا يأخذن الأنسولين أو الأدوية المضادة للصرع كما وصفت لهم من قبل الطبيب لأنهن يعلمن أنها الطريقة الوحيدة للنجاة من أزواجهن والذهاب إلى المشفى.
وكما هو الحال في كل المقابلات علينا أن نستمع بأذن ثالثة. ولنفكر أن غشيان المحارم (سفاح القربى) والعنف هي أشيع مما يتصور الكثير منّا.
العنف في الطرق السريعة VIOLENCE ON HIGHWAY
إن حوادث السيارات التي تعود إلى محاولات الانتحار أو محاولات قتل الآخرين كثيراً ما ترد إلى القيادة بدون انتباه أو السُكر أو فقد السيطرة بالسرعات الكبيرة أو النوم أثناء القيادة. وهذا ليس أمراً غريباً لأنه من الطبيعي بالنسبة للشخص الذي نجا من الحادث أن يخفي دوافعه عن الشرطة.
فإذا مات الشخص في مثل هذه الحوادث فإنه ليس من الممكن معرفة دافع الانتحار أو القتل إذا لم يترك المتوفى إشارة إلى ذلك، كورقة مثلاً، أو إذا لم يتواجد ضبط شرطة يشير إلى محاولة سابقة بهذا الشأن.
إحدى مريضات الفصام وعمرها 32 سنة كانت تقود السيارة ومعها زوجها وأطفالها الخمسة، عندما سمعت صوتاً يقول لها: أن عليها أن تُوْلَد من جديد، وفي سبيل أن تولد من جديد فإن عليها أن تموت وهكذا قامت بصدم سيارتها مع سيارة أخرى عندما كانت تسير بسرعة 120 كم/سا. ولحسن الحظ فإن أحداً لم يصب بأذى كبير وضمدت جراحهم البسيطة في مشفى خاص.
وتوانى الزوج عن تسجيل الحادث وإخبار الشرطة خوفا على حجز السيارة إذ أسرع بإرسالها إلى المنطقة الصناعية لتصويجها وإعادة صيانتها في مدينة أخرى. بالطبع الخطر كبير جدا من هذه المريضة على نفسها وأطفالها وكان يجب أن تراجع طبيبا نفسيا أو تدخل مشفى فورا للعلاج..
عندما يَرد أي مريض إلى غرفة الإسعاف بسبب حادث سيارة فإن احتمال كون الحالة حادثاً غير عفوي يجب أن يبقى في الحسبان. وبدون ذلك فإن المريض يمكن بعد شفائه أنه يتسبب في أذى نفسه والآخرين معه. والمسافرون المصابون بالحادث والذين يعلمون سبب الحادث لكنهم بسبب قربهم من الموت قد لا يستطيعون إخبار الطبيب أو رجال التحقيق أو الشرطة.
شاب غاضب من زوجته حاول قتل نفسه وقتل زوجته من خلال صدم سيارتهما بشجرة، وهكذا اندفع بسرعة جنونية وصدم الشجرة جوار الطريق.
كانت الزوجة تبكي بشكل عادي وحزينة وافترضت أن سبب ذلك هو الصدمة التي أصيبت بها والآلام التي تعاني منها.
وقال الشرطي محاولا التخفيف عن الرجل وإظهار ذكائه "الحمد لله على سلامتكم، أنا أعرف ما حصل معكم... لقد انفجر الإطار الأمامي وفقدت سيطرتك على السيارة وهذا ما أدى إلى اصطدامها بالشجرة".
لكن الزوجة والزوج لم يخبرا الشرطي أن الإطار قد انفجر لأنه اصطدم بالرصيف والسيارة تسير بسرعة كبيرة لأن الرجل أراد قتل نفسه وزوجته.
العنف في المستشفيات VIOLENCE IN HOSPITALS
تفيد الإحصاءات في معظم دول العالم أنه في كل شهر هناك ما يقارب ثلاث أو أربع اعتداءات على فرق المستشفيات في غرفة الإسعاف المزدحمة في مشافي المدن الكبرى من قبل المرضى الواقعين تحت تأثير الكحول أو المهلسات مثل الفنيل سيكليدين (غبار الملائكة). وفي العيادات قد يصبح المريض الذي يهذي بسبب متلازمة ذهانية عضوية حادة عدوانياً بسبب تخيلات زورية أو إهلاسات من طبيعة مخيفة.
كذلك فإن المرضى الذهانيين وخاصة الذين يعانون من تخيلات زورية وذهانية مزمنة قد يصبحوا عنيفين. كذلك فإن الشخصيات المعادية للمجتمع (المستهينة بالمجتمع) والشخصيات المرضية التي لا تتحمل الإحباط قد تشارك في الاعتداءات الجسدية في المستشفيات. والشخص الذي يعاني من اكتئاب ذهاني قد يتصور أن الحياة لا أمل فيها وأن الحل الوحيد هو بالموت له ولأفراد أسرته.
والطبيب الذي يرغب في إبعاد خطر الأذى، عليه أن يعامل هؤلاء المرضى باحترام وأدب وبتفهم وليس بقلة الصبر والثورة والانتقاد أو الغضب. إن المرضى حساسون جداً للمشاعر السلبية سواء نقلت لهم عن طريق الكلمات أو عن طريق لغة الجسد وتعابير الوجه.
وقبل كل شيء علينا أن لا نعلق أي تعليق ينعكس على رجولة المريض وأن ننتبه إلى كون المريض واقعاً تحت تأثير الكحول أو الأدوية أو الغضب، أو كونه مريضاً زورياً.
في العقود الأخيرة انتشرت ظاهرة الوشم في أميركا وأوربا ووجود وشم معين على أيدي بعض الأشخاص قد تشير إلى الانتماء إلى عصابة معينة أو مجموعة مخالفة للقانون وبدأت تنتشر هذه الظاهرة بشكل لافت في أوساط المراهقين في مجتمعاتنا العربية إضافة إلى ظاهرة ما يدعى (بالتاتو)..
على كل وجود هكذا أنواع من الوشم أو التاتو أو وجود آثار الطعنات القديمة أو نديات الأسلحة النارية يجب أن تنبه الطبيب إلى أن هذا الشخص يعيش حياة تختلف في أسلوبها عن تلك التي يحياها الطبيب.
أيضاً قد يعطي المريض معلومات تشير إلى أن العنف في ذهنه. فأحلام الاغتصاب والقتل يجب عدم تجاوزها ببساطة من قبل الطبيب. تطالعنا الأخبار بالعديد من الجرائم في المدارس في الغرب وهناك قصة شهيرة لمراهق في الخامسة عشرة من عمره كتب إلى أحد الأساتذة على أحد الكتب: "هذا الكتاب لا يحمل عنواناً، ولكنه قصة شاب، اسمه غير مهم، إنه سيفعل شيئاً سيهزك... في يوم ما.. عندما يذهب والداه للنوم سيأتي بمسدسه ويطلق النار على والديه".. وفي نفس اليوم قام هذا المراهق بإطلاق النار على والديه.
إن هذه الحالة درامية وغير عادية ولكن الأحلام والتهديدات والأفعال الرمزية للعنف تنبه إلى الحاجة إلى تقييم واعٍ.
فالتهديد بالقتل واليد التي تمتد باتجاه العنق والطعنات في الوسائد قد تكون رسائل العنف. ويجب الانتباه إلى أن الأفعال السابقة للعنف قد تكون مؤشرات للعنف المستقبلي.
رغم أن المرضى قد يستحون من هذه الأفعال فإن التفاخر قد يغطي الحياء.
عند التحدث مع هؤلاء المرضى فإنه من الأفضل الابتعاد عن كلمات مثل الاغتصاب، الإجرام.
إن التلميح مثل القَطع بدل الطعن تجعل من الأسهل على هؤلاء المرضى أن يظهروا أنفسهم على حقيقتها.
أصول السلوك العنيف ORIGINS OF VIOLENCE BEHAVIOR
لقد وجّه علماء الاجتماع الأنظار نحو طبيعة العنف في المدن الكبيرة. ولاحظ ولفغانغ أن اللكمة على الوجه عندما تُقبَل بشكل عادي كرد فعل طبيعي لتنبيه معين، وعندما تُحمل السكاكين بشكل عام للحماية الشخصية، وعندما يكون القتل شائعاً، فإن السيطرة الاجتماعية على العنف تكون ضعيفة. إن الملاحظة التالية المكتوبة على جدار أحد المقاهي في مدينة (دنفر) تلمح إلى المستوى العالي من العنف في جوار هذه المنطقة:
"من فضلكم أيها الأخوة، دون أسلحة!
إذا لم تحملوا معكم أسلحة فإن أخي ليس بحاجة لحمل سلاحه.
عندئذٍ تشعر أمهاتنا وأخواتنا بالحرية للقدوم وتناول ما يريدون من شراب أو الطعام.
بدون خوف من أن يُطعنوا أو تطلق عليهم النار بالخطأ.
شكراً لكونكم إخوة وأخوات.
الحب والسلام، كلها عظيمة".
هناك عدة عوامل في الطفولة قد تساهم في العنف. إن استرسال الأهل بالملذات والرفض والخداع والعنف كلها تولد العدوانية في الطفل، وتشكل له نموذجاً سلبياً للتصرف المستقبلي ولكن هذا ليس صحيحاً دائماً. لاحظ سيغموند فرويد Sigmund Freud أنه كلما تتبعنا تطور الفرد نحو الوراء فإن سلسلة الأحداث تبدو مستمرة ونحس أننا نفهم تصرف المريض. ولكن فرويد Freud أضاف إلى هذه الملاحظة ملاحظة ثانية وهي أننا إذا تتبعنا المريض بالاتجاه المعاكس أي إذا بدأنا في البداية منذ ولادة المريض فإننا لن نحمل عندئذٍ الانطباع بتتالي الأحداث الذي لا يمكن منعه.
وهكذا فإن طفلاً ضُرب بصورة متكررة ووحشية من قبل والده فإنه قد يقتل شخصاً ما في مستقبله أو قد يرتكب جرائم عنف أخرى. وقد يقوم بضرب ابنه بطريقة وحشية كما فعل والده معه، أو أنه قد يصبح عاملاً اجتماعياً في برنامج لمساعدة الأطفال الذين يُضربون، أو قد يصبح مؤلفاً يروي رواياته متعاطفاً مع الأطفال المضطهدين، أو عن أب محب. إن أياً من الاتجاهات السابقة قد يُرد إلى كونه هذا الإنسان قد ضُرب في طفولته.
إن النتيجة النهائية تعتمد على تأثير تجارب كثيرة أخرى في الحياة.
إن طبائع وتصرفات أخرى للأهل قد تشارك في جعل الطفل يكبر وهو بحاجة غير عادية للاهتمام، والرفقة والتطمين حول رجولته أو أنوثته. إن بعضاً من هذه الحاجات قد يمكن الحصول عليها من خلال العنف إن الرجل غير المتأكد من رجولته إما بسبب الضعف الجسدي، أو قصر القامة، أو بسبب تصرفات الأهل التي تشجع على الخنوثة، قد يحاول إثبات رجولته من خلال السلوك العدواني.
إن الربح الضعيف والمفزع الذي يكتسبه الشخص بقوة مسدس ضخم- يخيل إليه وكأنه يمنح قوة الحياة أو الموت للآخرين. إن الحاجة للاهتمام من قبل الآخرين لمثل هؤلاء يمكن الحصول عليها من قبل هيئات ومؤسسات في الدولة بدل أن لا تكون أبداً.
إن الدوافع الأخرى للعنف قد تتضمن بعض المشاعر الواعية كالغضب، والانتقام، والغيرة، والرغبة الجنسية. وكثيراً ما يكون هناك في الواقع إشارات واضحة لمثل هذه العوامل ولكن حتى عندما تكون موجودة، فإنها نادراً ما تشكل شرحاً كافياً للعنف. وقد يحاول المعتدي أن يشرح سلوكه بهذه الطريقة. ومع ذلك فإن منابع السلوك الإنساني الرئيسة معقدة إلى درجة لا يمكن معها الاكتفاء بهذه التفسيرات البسيطة. وقد تكون هناك دوافع كامنة في لا شعور المعتدي.
ففي الاغتصاب على سبيل المثال فإن هناك كرهاً واحتقاراً عميق للمرأة في نفس المعتدي ربما تكون ناتجة عن علاقة سيئة مع الأم (الضرب) في الطفولة أكثر بكثير مما تكون عن رغبة جنسية. وإضافة لذلك فإن فهم عمل العنف يجب أن يتضمن بشكل أو آخر مراجعة لدور الضحية.
ضحايا العنف VICTIMS OF VIOLENCE
بعض الأشخاص يصبحون ضحايا للعنف بالصدمة وحدها وبشكل أبسط لأنهم في المكان الخطأ في الوقت أو الزمن الخطأ إذا صح التعبير. فالمريض الذي يمشي في غرفة الإسعاف لا يتوقع أنه سيكون ضحية لشخص مصاب في دماغه، مصاب باضطراب في التوجه، مريض هاذٍ، يظنه أنه المعتدي المخيف.
الوفيات بين الضحايا تتضمن الأطفال، الشيوخ، العاجزين جسدياً، الذين يحتاجون المساعدة في قطع الشوارع أو الطرقات لشيخوخة أو عجز أو عمى أو غيرها، سائقوا السيارات العامة (التكسي – سيارة الاجرة) في المناطق خارج المدن، الكحوليين، بائعي المخدرات ومستعمليها، الأشخاص في أماكن تفشي الجرائم، الذين يعملون في متاجرهم في الليل لوحدهم، العاهرات، زبائن العاهرات، وغيرهم... هؤلاء الأشخاص إما غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم أو أنهم يحشرون أنفسهم في مواضع الخطر.
هناك أيضاً ضحايا يحرضون على العنف. في حوالي الثلث من 578 جريمة قتل في بالتيمور، كان المقتول هو البادئ في الشجار أو أول من استعمل السلاح.
أيضا يجب الانتباه إلى أن النظرات والكلمات قد تجرح كاللكمات والرصاص. إن النقد اللاذع أو التهم أو نظرات الازدراء في لحظات الغضب قد تحرض معتدياً إلى ارتكاب جريمة..
أما النساء اللواتي يهددهن أزواجهن بالأسلحة النارية يستعملن عبارات التحريض مثل "ماذا ستفعل، هل ستكون رجلاً، هيا اقتلني". و"أنت لا تملك القدرة على قتلي". كما أن بعض الرجال يحرضون زوجاتهم على قتلهم من خلال الضرب المبرح خلال سنوات.
بقي أن أشير إلى إن بعض الضحايا لا يتخذون الإجراءات الكافية لحماية أنفسهم، فإحدى الشابات قالت لصديقها: "لا تطلق النار على رأسي" فاستجاب لها وأطلق النار على صدرها... وهنا نلاحظ أن الطفل قد يجيب أمه التي تهدده بالقتل بسبب حالة اكتئاب شديدة: "كلا يا أمي أنت لن تفعلي ذلك". وبكلام آخر فإن كثيراً من الضحايا هم ملومون في الواقع بشكل أو آخر.
التحامل PREJUDICE
وأريد أن أنهي حديثي في هذا الموضوع بتعليق قصير على ظاهرة تقف وراء كثير من العنف في هذه الأيام، التحامل يمكن أن يعرف ككره لا عقلاني لشخص، جماعة، عرق، دين، طائفة، أو وطنية. والشخص المتحامل قد أو قد لا يعمل خارج تحاملاته.. وكما قال ألبورت فإن التمييز العنصري كنتيجة للتحامل له نتائج اجتماعية خطرة وآنية أكثر من التحامل لوحده.
إن أصل التحامل هو فكرة كبش الفداء Scapegoating حيث تحوّل الأنظار عن أخطاء الفرد إلى أخطاء الآخرين. فالعدوانية الممنوعة والدوافع الجنسية تسقط على الآخرين الذين يصبحون أعداء وخطرين وقذرين وغير عاقلين.
إن المجموعات ذات الأوضاع والظروف السيئة تعتبر أنها مستحقة لهذا الوضع، والفقراء فقراء لأنهم جاهلون، كسالى، يضيعون أموالهم، ولأنهم لا يحافظون على بيوتهم بوضع جيد. حقيقة إن مشاعر العدائية بين المجموعات تزداد في أوقات المصاعب الاقتصادية والنكبات والحروب.
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
المريض الغاضب / المريض المغوي / تحليل لمقابلة مع مريض / مقاطع من دراسة تحليلية / مدخل إلى الطبع والشخصية