قراءة نقدية لمشروع قانون الصحة النفسية الجديد
(الحرية للمريض النفسي ولا عزاء للأصحاء)
يعيش قانون فاروق الأول حتى الآن (أكتوبر 2008):
على الرغم من التقدم الهائل الذي حدث في العقود الأخيرة في مجال علاج الأمراض النفسية، إلا أننا مازلنا في مصر نتبع القانون رقم 141 والذي صدر سنة 1944 (أي منذ 64 سنة) لتنظيم حجز المصابين بأمراض عقلية، وربما يندهش القارئ حين يطالع ديباجة القانون الذي نسير عليه حتى الآن وهي تقول:
نحن فاروق الأول ملك مصر، قرر مجلس الشيوخ ومجلس النواب القانون الآتي نصه، وقد صدقنا عليه وأصدرناه........
وفي نهاية نصوص القانون نرى الأسماء التالية مؤيدة للقانون: رئيس مجلس الوزراء مصطفى النحاس، وزير الشئون الاجتماعية ووزير الداخلية محمد فؤاد سراج الدين، وزير الصحة العمومية عبد الواحد الوكيل، وزير العدل محمد صبري أبو علم!!!!!!
وهذا القانون القديم جدا صدر قبل أن تكتشف العلاجات الحديثة للأمراض النفسية (أول مضاد للذهان وهو الكلوربرومازين اكتشف سنة 1952، وأول مضاد اكتئاب وهو الإميبرامين اكتشف سنة 1956)، وقد كان في وقت صدوره طفرة قانونية هائلة، حيث كانت دولا كثيرة في العالم لا تعرف مثله.
المواصفات المطلوبة في القانون الجديد:
إذن فصدور قانون جديد يواكب التطورات الطبية الحديثة ويواكب احتياجات المرضى وذويهم ويواكب تغيرات المجتمع، يعتبر نقلة هامة في مجال الطب النفسي (تأخرت كثيرا)، وسوف نذكر بالخير كل من ساهم في وضع القانون الجديد أو تعديله خاصة حين يستوفي ذلك القانون الخصائص التالية والتي هي بمثابة ضمانات لنجاح القانون في خدمة المرضى وذويهم وفي خدمة المجتمع على وجه العموم:
1– أن يكون قانونا أصيلا بمعنى أنه ينبع من المجتمع الذي صدر ليخدمه، وبمعنى آخر أن لا يكون مستوردا من مجتمع آخر له ظروفه وثقافته واحتياجاته التي تختلف كثيرا عن ظروفنا وثقافتنا واحتياجاتنا.
2– أن ينبع أساسا من أبناء المهنة، وخاصة الخبراء المحليين في الطب النفسي (وهم يجمعون بالطبع بين الرؤية المحلية والعالمية)، وأن يحظى بعناية وموافقة الجمعية المصرية للطب النفسي (الهيئة الأعلى الممثلة للأطباء النفسيين في مصر)، وبمعنى آخر لا يكون نصوصا قانونية وضعها خبراء في القانون ينصب همهم على القيود والعقوبات أكثر من الاهتمام بالعلاقة الطبيبية المريضية الصحيحة والتي هي أساس نجاح العلاج في الطب النفسي وفي أي فرع من الطب.
3– أن يراعي التوازن بين مصلحة المريض ومصلحة المجتمع، وبين حرية المريض وسلامة المجتمع، وبين الضوابط القانونية وحرية الطبيب في تقديم الرعاية الفعّالة.
4– أن لا يجعل رقابة المجتمع تصل إلى درجة التشكيك في سلامة قصد الطبيب، أو تجعله في موقف دفاعي ينشغل فيه طول الوقت أو أغلب الوقت بحماية نفسه من مواد القانون المتعددة والمقيدة.
5– أن يحظى بالقدر الكافي من المناقشات والمراجعات والتعديلات على مستوى أهل المهنة والمهن ذات العلاقة، وعلى مستوى المجتمع الأوسع، فكلما تعددت العقول قلت السلبيات وسدت الثغرات وتحسنت النتائج، خاصة وأن القانون الجديد ربما يسري –كعادتنا في مصر– ستون سنة أخرى.
6– أن يكون واقعيا وقابلا للتطبيق في المجتمع الذي صدر من أجله على وجه الخصوص.
مرجعية قراءة القانون:
وقبل أن ندخل في القراءة النقدية لمشروع القانون ومناقشته أود أن أشير بأنني شاركت في ندوة في نقابة الأطباء حضرها السيد الدكتور ناصر لوزا رئيس الأمانة العامة للصحة النفسية حول القانون الجديد، وكنت قبلها قد قرأت القانونين القديم والجديد، وكتبت دراسة بعنوان:
المريض النفسي بين الوصاية والرعاية (منشورة على الإنترنت في أكثر من موقع)، وبعد ذلك قمت بمناقشة أساتذتي في الطب النفسي: الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي (والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي) والذي تحدث إليّ طويلا عن القانون وظروف صدوره وإيجابياته وسلبياته، والأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي (العالم النفسي والمفكر والفيلسوف العظيم، وقد أمدني بمادة مكتوبة استفدت منها كثيرا)، والأستاذ الدكتور محمد غانم رئيس قسم الطب النفسي بجامعة عين شمس والرئيس السابق لأمانة الصحة النفسية، والذي استمعت إليه طويلا وهو يشرح عوامل توافق أو عدم توافق القانون مع احتياجات المجتمع المصري وعن التعديلات التي أدخلت عليه حتى الآن وتقبل القائمين على المشروع للإقتراحات والتعديلات.
وسوف يكون لما سمعته وقرأته من أساتذتي وعنهم أثر كبير فيما سأذكره من نقاط حول القانون، وفي ذات الوقت لا أحملهم مسئولية بعض الآراء التي تصدر عني وربما لا يوافقونني فيها.
هل صنع فعلا في بريطانيا؟
وأول مأخذ على مشروع القانون الجديد هو أنه استيراد بريطاني (كما علمت من أكثر من مصدر)، فقد وضعه مجموعة من الخبراء الإنجليز وتمت ترجمته إلى العربية بعد ذلك، وقد جعله هذا شديد التدقيق بما لا يحتمله الوعي المصري في تلك المرحلة من النمو المهني والاجتماعي، حسن الشكل والمضمون ولكنه بعيد عن واقعية ظروف المجتمع المصري بصعوباته واحتياجاته، وفوق كل هذا جاء مستبعدا للعنصر الثقافي المصري.
والأخطر من هذا أن الخبراء المصريون من أساتذة الطب النفسي ورئيس وأعضاء الجمعية المصرية للطب النفسي – كما سمعت من بعضهم - قد استبعدوا تماما من وضع متن القانون، وإن كانوا قد شاركوا بعد ذلك في مناقشة مواده، وانتقدوا روحه الغريبة على الثقافة المصرية وبعض مواده الغريبة على الواقع المصري أو صعوبة التطبيق فيه في الظروف الحالية. وحين كان رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي يقترح بعض التعديلات كان يتم إرسالها لبريطانيا لمعرفة رأيهم في تلك التعديلات.
ولهذا قال الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء بأنه من الضروري أن تساهم الجمعية المصرية للطب النفسي في صياغة مواد القانون، واقترح السيد الدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة والسكان تشكيل لجنة من الجمعية المصرية لمناقشة القانون ووضع مرئياتها بخصوصه؛
وقد تشكلت اللجنة فعلا من كل من: الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة، والأستاذ الدكتور عماد حمدي غز، والأستاذ الدكتور إسماعيل يوسف، والأستاذ الدكتور مصطفى شاهين. وقبل هذا وبعده كانت للأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي رؤاه وإضافاته وتعديلاته حول مشروع القانون الجديد لكي يصجر مواكبا لظروف واحتياجات المجتمع.
وقد تقدمت الجمعية المصرية للطب النفسي بمشروع معدل للقانون إلى السيد الدكتور نقيب الأطباء ورئيس لجنة الصحة بمجلس الشعب مؤرخة في 29/5/2007 م ، وقد وعد سيادته أن يوضع ذلك في الاعتبار عند مناقشة القانون في مجلس الشعب.
ونحن كأطباء نفسيين لا نتحدث عن استيراد القانون بدافع الحساسية الثقافية فقد تعودنا أن نقرأ العلم في كل الثقافات وأن نستفيد من كل الرؤى الإنسانية، ولكن هناك مشكلات حقيقية ظهرت نتيجة غربة القانون عن الثقافة المصرية نذكر منها على سبيل المثال فقط:
1– النزوع إلى الفردية في القرارات التي تخص المريض النفسي وكأنه مقطوع الصلة تماما عن عائلته، وهي سمة المجتمع الغربي، في حين أننا في المجتمع المصري ما زلنا نعيش في الإطار العائلي وما زالت العائلة ترعى وتحمي وتساند وربما تمارس بعض الوصاية على أبنائها مقابل كل هذا، وهذا ليس عيبا فينا ولا ميزة عندهم.
2– وكف يد العائلة، وإعطاء الحرية المطلقة للمريض في تقبل العلاج أو رفضه وفي دخول المستشفى أو الخروج منها، لا يضع في الاعتبار غياب مؤسسات رعوية تتلقى المريض الرافض للعلاج وترعاه، وغياب مجتمع مدني قوي يحل محل رعاية العائلة أو وصايتها حين يحتاج المريض إلى هذا أو ذاك في ظروف بعينها (وهذا ما يوجد بالتحديد في المجتمع الغربي).
3– غياب تعبيرات ثقافية مهمة مثل الحجر على السفيه، والولاية على المجنون حتى يشفى، والوصاية على الصغير حتى يكبر، وغيرها مما ورد في كتب الفقه والشريعة والقانون بتفصيلات كثيرة، وهي أشياء شديدة الصلة بالجانب النفسي.
ونخشى –مع الاحتفاظ بحسن النوايا والمقاصد– أن يكون هذا القانون تكملة للمنظومة القانونية الخاصة بالمرأة والطفل وغيرها، والتي تأتينا من الخارج، لكي نتواءم مع تقاليد وأعراف المجتمعات الأخرى سعيا للذوبان في النموذج الغربي.
ولكن مع كل ما ذكرنا لا يسعنا إلا شكر من قاموا على صياغة أو تعديل أو مناقشة هذا القانون الهام، ولا يعيبهم نقص هنا أو هناك فتلك طبيعة أي عمل بشري، ويكفيهم شرف المبادرة والمتابعة والإنجاز، ولا نغفل أبدا ما بالقانون من إيجابيات.
حجم المشكلة:
يوجد في مصر على الأقل 700000 (سبعمائة ألف) مريض فصامي، وثلاثة أضعافهم حالات اضطراب وجداني، إضافة إلى حالات الاضطرابات الذهانية الحادة، وحالات الإدمان، وهذه الأعداد تستلزم وجود 2 مليون سرير للمرضى النفسيين، يوجد منهم الآن فقط 10000 (عشرة آلاف) سرير.
والنقص ليس فقط في عدد الأسرة بل أيضا في عدد الأطباء النفسيين وعدد طاقم التمريض المتخصص في الأمراض النفسية، وضعف الإمكانات المتاحة بشكل كبير، فالمريض النفسي في مصر يدفع ثمن علاجه من جيبه في أغلب الأحيان على الرغم من فقره واحتياجه وضعف إنتاجيته خاصة في فترات المرض النشط. ومن الأمثلة الصارخة محافظة الدقهلية والتي يبلغ تعدادها خمسة ملايين وبها سريرين فقط للأمراض النفسية تابعين لوزارة الصحة في مستشفى المنصورة العام.
ولو كنت تعمل في العيادات النفسية الحكومية فسوف ينفطر قلبك كل يوم وأنت ترى أما أو زوجة تبكي لمرض ابنها أو زوجها مرضا يستدعي حجزه في مستشفى، وهي لا تجد له سريرا في مستشفى حكومي ولا تقدر على علاجه في المستشفيات الخاصة، وسلوكه المضطرب يجعله رافضا للعلاج، فتزداد حالته سوءا وربما يصبح عدوانيا على أسرته أو جيرانه، وربما تحدث كارثة بسبب ذلك.
وكثيرون من مديري المستشفيات العامة ربما يفتقدون –للأسف الشديد- الوعي بطبيعة المرضى النفسيين واحتياجاتهم (عانيت كثيرا بشكل شخصي في محاولات إقناع بعضهم لإنشاء أقسام للطب النفسي في المستشفيات)، ولهذا يرفضون تهيئة أماكن أو أقسام بالمستشفيات العامة أو الجامعية لعلاجهم تجنبا للمشكلات التي يتوقعونها ويبالغون في تضخيمها (بسبب ضعف إلمامهم بالطب النفسي لأنهم لم يتعرضوا له بشكل جيد إبان دراستهم في كليات الطب بمصر دون غيرها من بلاد العالم؛
وهذا أمر مأساوي آخر يستحق مناقشات مستفيضة لأنه يسبب كوارث في الممارسة الطبية التي تهتم بالجسد فقط دون النفس وكأننا نعالج حيوانات وليس بشرا)، ولهذا السبب تخلو أغلب المستشفيات من أقسام للطب النفسي، وهذا مخالف للاتجاه العالمي الحديث والذي يميل إلى تفكيك المستشفيات العقلية الكبيرة وإلى علاج المرضى النفسيين في أقسام للطب النفسي ملحقة بالمستشفيات العامة مثلهم مثل بقية المرضى في التخصصات الأخرى.
عنوان مشروع القانون ودلالاته وإشكالياته:
القانون الجديد يحمل عنوان: "قانون الصحة النفسية"، بينما القانون القديم يحمل عنوان: "نص القانون 141 لسنة 1944 بشأن حجز المصابين بأمراض عقلية"، بينما العنوان المقترح لمسودة القانون المقدمة من الجمعية المصرية للطب النفسي هو: "مشروع قانون رعاية وحماية المرضى النفسيين الذين يعالجون رغما عنهم".
ويرى البعض أن عمل قانون للصحة النفسية بالذات هو اعتراف ضمني بغرابة وشذوذ الأمراض النفسية عن أي مرض آخر، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز الوصمة الموجودة أصلا تجاه هذه الأمراض، وهذا ضد الاتجاه العالمي والمحلي لتقليل وإزالة الوصمة المتصلة بالمرض النفسي والمريض النفسي، وجعل المرض النفسي مثل بقية الأمراض، والمريض النفسي مثل بقية المرضى (كما ذكرنا ونذكر دائما). وإذا كانت فئة معينة من المرضى النفسيين لهم ظروف خاصة تستدعي علاجهم بشكل لا إرادي فيجب أن يقتصر القانون على هذه الفئة دون سواها، وهي فئة تمثل نسبة قليلة في علاج المرضى النفسيين.
وبعبارة أخرى فإن التمييز تجاه المرض النفسي والمريض النفسي (خارج إطار حالات الاضطرار الاستثنائية) هو بمثابة وصم وإهانة للمريض النفسي وللمرض النفسي وربما للطبيب النفسي. إذ ما معنى أن أعالج مريض اكتئاب أو قلق أو وسواس قهري أو رهاب أو اضطرابات نفسجسمية تحت مظلة قانون خاص أو في مكان منعزل عن بقية المرضى.
ويرى أصحاب هذا الرأي أنه لا يوجد قانون ينظم الجراحة أسمه "الصحة الجراحية"، ولا يوجد قانون ينظم صحة العيون أسمه "الصحة العيونية"، ولا يوجد قانون للصحة الكلوية أو القلبية أو العظامية، وأن الطبيب النفسي – شأنه شأن بقية الأطباء - محكوم بعدة ضوابط كافية وهي:
1– لائحة آداب المهنة في النقابة
2– لوائح وقوانين وزارة الصحة وإشرافها
3– القانون العام
4– قانون حجز المرضى النفسيين ضد إرادتهم في الحالات الاستثنائية التي تستوجب ذلك
ولا يستدعي الأمر وضع وصاية خاصة على الطبيب النفسي، أو الإفراط في التشكيك في قصده ونواياه، وإصدار قانون يصاحبه في كل حركاته وسكناته ويقيد قراراته بواسطة مواد متعددة ومجالس وصاية كثيرة.
أما أصحاب قانون الصحة النفسية فيرون أن القانون الجديد يهتم بكل جزئيات الصحة النفسية ولا يقتصر على موضوع الحجز والإفراج عن المرضى المصابين بأمراض عقلية (كما هو الحال في القانون القديم)، بينما يرى المعارضون لهم أن اقتصار القانون على حالات الحجز اللاإرادي أفضل، وذلك لكي نترك بقية المساحة في التعامل مع المرض النفسي مثل كل الأمراض الأخرى دون تمييز، وفي هذا إعادة لجدارة المريض النفسي واستحقاقه للتعامل الكريم مثل أي مريض، واعتباره إنسانا مسئولا مثل أي إنسان طالما أنه خارج إطار الحالات القليلة التي تستدعي الحجز اللاإرادي المشار إليها سابقا والتي نشأ من أجلها القانون.
مجالس الصحة النفسية المقترحة:
حسب القانون الجديد يشكل مجلس مركزي للصحة النفسية في وزارة الصحة وتشكل مجالس فرعية في كل محافظة، ويغلب في تشكيل هذه المجالس رجال قانون وشئون اجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ويقل تمثيل الأطباء فيه مما يضعف من صوتهم وتأثيرهم فيه (على عكس مجلس المراقبة في القانون القديم والذي كان يرأسه وكيل وزارة الصحة العمومية)، وسيخلق هذا مشكلات كثيرة في التطبيق خاصة في المنظومة المصرية التي تشكل فيها شخصية رئيس أي مجلس العنصر الحاسم في القرارات (رئيس مجلس الصحة النفسية المقترح في القانون الجديد هو أحد نواب رئيس محكمة النقض).
والأكثر من هذا تلك الضبطية القضائية المخولة لممثلي مجلس الصحة النفسية الرئيسي أو الفرعي وما ينتج عن تلك السلطة حين يساء استخدامها (والواقع يشهد بشيوع سوء الاستخدام للسلطة)، فنتخيل مثلا أنهم يزورون مركز الطب النفسي بجامعة عين شمس أو قسم الطب النفسي بجامعة القاهرة أو الأزهر، ويساءلون أساتذة عظام في هذه المراكز والأقسام وربما يحاسبونهم أو يلومونهم أو يعاقبونهم، أو على الأقل يشككون في أمانتهم ومسئوليتهم، وتلك أشياء يرعاها هؤلاء الأساتذة بداهة ويعلمونها لتلاميذهم وللمجتمع.
وهل بالمقابل نتخيل موظفا حديثا أو طبيبا ناشئا يمثل مجلس الصحة الجراحية يقتحم غرفة العمليات (بحكم حق الضبطية القضائية) في أحد المستشفيات الجامعية المحترمة ليتأكد كيف يقوم أساتذة الجراحة بعملهم بالشكل السليم حسب قانون الصحة الجراحية المفترض؟؟!!!
وهذه الوصاية من رجال القانون ورجال الحكم المحلي وأعضاء الجمعيات الأهلية والأطباء الشرعيين وغيرهم تظهر الطبيب النفسي وكأنه وحش سيفترس المريض النفسي إن ترك له وحده، وفي هذه الحالة ستكون العلاقة بين الطبيب والمريض مسكونة بالشك والمحاذير، وسينفق الطبيب الكثير من وقته وجهده في محاولات تأمين نفسه قانونيا –كما يحدث في أمريكا– ونفقد تلك العلاقة الإنسانية البريئة والعميقة والمتسامحة بين الطرفين.
ومع هذا القانون ستحتاج كل منشأة طبية نفسية إلى عدد من المحامين والسكرتارية ليقوموا بإجراءات الاتصال بجهات الرقابة (مجالس الصحة النفسية والشرطة والنيابة)، وترتيب الأمور القانونية وسد الثغرات.
ولما كان لزاما على الأطباء النفسيين إبلاغ أسماء المرضى الذين أدخلوا إلى المنشآت الطبية النفسية، فإن ذلك يعد افتئاتا على حق المريض في السرية، إذ من يضمن كل مسئولي تلك المجالس أن لا يفشوا أسرار المريض وخصوصيته، وهل يبلغ المرضى الآخرون مجالس أخرى حين دخولهم لإجراء عملية جراحية أو عملية ولادة مثلا؟؟!!.
الوصاية على الطبيب النفسي وترك الأدعياء أحرارا:
تشكل كثيرا من مواد القانون تشكيكا في سلامة قصد ونية الطبيب النفسي في رعاية المرضى النفسيين (يظهر هذا في التشديد على أخذ رأي طبي مستقل في كثير من المواقف)، وتضع قوانين عقابية شديدة يصل أغلبها إلى السجن، مع أن الطبيب النفسي ليس بحاجة إلى كل ذلك فهو –كما ذكرنا– محكوم بالنقابة ومحكوم بوزارة الصحة ومحكوم بالجامعة التي يعمل تحت مظلتها ومحكوم بالقانون العام ومحكوم بالقانون الخاص الذي ينظم الدخول الإجباري، وهو قبل ذلك –بحكم تعليمه وتدريبه– حريص على سلامة مريضه وسلامة أدائه المهني.
وإن تقييد الطبيب النفسي بمواد كثيرة وإجراءات إدارية عديدة خاصة في المستشفيات النفسية، يستنزف جهده في أعمال ورقية كتابية، ويجعله في حالة دفاعية يحاول حماية نفسه طول الوقت من الوقوع في خطأ قانوني يعرضه للحبس أو الغرامية أو كليهما معا، وهذا يؤثر كثيرا على علاقته العلاجية بالمريض، وتلك مشكلة شائعة في أمريكا وأوروبا، ولا يجب أن نستدرك إليها نحن تحت وهم أنهم الأفضل في وضع القوانين وتطبيقها، ولو كانوا هكذا دائما لما حدث ما نراه في أسواق المال العالمية بسبب أخطاء رهيبة في سياسات سوق المال.
وفي المقابل سكت القانون تماما عن الممارسات العلاجية غير المنضبطة مثل إخراج الجن، والدجل والشعوذة والسحر، والطب البديل والطب التكميلي وما يحدث تحت هذه المسيات من تجاوزات خطيرة قد تودي بحياة المريض. وقد يقول قائل بأن هذه الممارسات لها مواد في القانون العام تجرمها، ولكن في الحقيقة وفي الواقع لا نرى مواجهة لهذه الممارسات، بل نجد انتشارا وترويجا علنيا لها في كل مكان، وكان جدير بالقانون الجديد أن يضع تلك المشكلة في الحسبان بدلا من ملاحقة الطبيب النفسي بعقوبات الحبس (في الوقت الذي يسعى فيه الصحفيون لإلغاء عقوبة الحبس في الممارسة الصحفية).
وإن التضييق الشديد على الطبيب النفسي وجعل الممارسة الطبية النفسية بهذه الصعوبة، ووضع المحاذير الكثيرة حولها يدفع إلى هجر الأطباء لهذا التخصص ونقص عدد الأطباء النفسيين أكثر مما هو موجود الآن خاصة وأن العائد المادي من هذا التخصص ضعيف مقارنة بالتخصصات الأخرى.
إذن فالقانون شكله الخارجي أنه يحافظ على حقوق المريض النفسي ويدقق في ذلك كثيرا، ولكن في جوهره يعوق العملية العلاجية حين يجعل الطبيب ذو مصداقية أدنى من أعضاء وممثلي مجالس الصحة النفسية.
مدى واقعية القانون:
قد يبدو القانون الجديد براقا وإنسانيا ودقيقا في كل شيء (كما ذكرنا)، ولكن هذا لا يعني نجاحه في التطبيق، بل قد تكون مثاليته وتفاصيله الدقيقة هي سبب فشله، حيث أن الحياة اليومية المصرية تحكمها ظروف غاية في الصعوبة، وقد يضطر المتعاملون مع القانون إلى التحايل لموافقة احتياجات القانون دون أن يضيف هذا التحايل شيئا حقيقيا يصب في مصلحة رعاية المريض، فالعاملون في مجال الصحة النفسية سوف يتفرغون لرعاية القانون بدلا من رعاية مرضاهم.
وإن تصعيب إجراءات الدخول والخروج في المنشآت النفسية، وضرورة إبلاغ مجالس الصحة النفسية عن المريض الذي أدخل المنشأة، كل ذلك قد يدفع المرضى النفسيين للبحث عن العلاج في أماكن أكثر بساطة فيفضلون المعالجات الشعبية أو الدينية غير المتخصصة على العلاج في المستشفيات. وكلما كان القانون متشددا كلما كان تطبيقه صعبا في الواقع، والمثال الأقرب لذلك هو قانون المرور الذي بالغوا في تشديده، فلم ينجح في حل مشكلات المرور.
مشكلة الإدمان والمدمنين:
لم يوضح القانون موقفه من مشكلات الإدمان والمدمنين، ولكن وردت إشارة في المادة الثالثة تستبعد تعاطي الكحول أو العقاقير من الاضطرابات النفسية بما يوحي بقبول هذه الأشياء ضمن السلوكيات المقبولة!!!.
وعموما فإن الموقف الحالي من المدمنين يعطيهم الحق في رفض العلاج إذا أرادوا، على الرغم من أن هؤلاء المدمنين تضطرب سلوكياتهم جدا تحت تأثير التعاطي ويشكلون عبئا ثقيلا على أسرهم بسبب سلوكياتهم المضطربة، إذن فما الحل في مدمن يبتز أسرته ويسرق أموالهم ويقضي على استقرارهم وفي نفس الوقت يرفض العلاج، هل تلقيه أسرته في الشارع، وإذا فعلت الأسرة هذا، أين الجمعيات أو المؤسسات التي ترعاه في المجتمع؟. إذن فالمدمنون في حال رفضهم للعلاج، ورغبة الأهل في علاجهم يستحقون علاجا إجباريا حتى يفيقوا ويتخلصوا من آثار العقاقير عليهم.
ومعروف واقعيا أن غالبية المدمنين يرفضون العلاج، وإذا قبلوه في البداية فإنهم سرعان ما يغيرون رأيهم تحت تأثير أعراض الانسحاب أو اللهفة على المخدر، فإذا أعطيت لهم الحرية المطلقة في الخروج فإنهم لن يستمروا في العلاج، وتعود المعاناة على ذويهم وعلى المجتمع كله بسبب السلوكيات الطائشة والخطرة والمضطربة للمدمن.
حقوق المريض النفسي:
لا أحد ينكر وجوب حصول المريض النفسي على كامل حقوقه واحترامه كإنسان، ولكن القانون الحالي يبالغ في هذه الحقوق بما يؤدي ربما إلى الإضرار بالمريض النفسي ذاته، وسنأخذ فقط بعض الأمثلة لبيان ذلك، ففي المادة رقم 40 مثلا نجد:
* يحق للمريض رفض مناظرته أو علاجه بمعرفة أي من أفراد الفريق العلاجي (إذن ماذا نفعل إذا رفض كل يوم أحد الأفراد أو رفضهم جميعا وهو في حاجة حقيقية إلى مساعدتهم).
* يحق للمريض الاطلاع على صورة ملفه الطبي وأن يحصل على نسخة كاملة منه ( وماذا لو كان في هذا الملف معلومات تجمعت من زوجة المريض أو أحد أقاربه، ومعرفته بذلك تؤدي إلى مشكلات عائلية جسيمة. ألا يكفي ما يعطيه القانون الطبي من حق في الحصول على تقرير بحالته مكتوب فيه ما يفيده معرفته أو يفيده عند تقديمه لأي جهة رسمية).
* يحق له طلب الخروج من المستشفى دون مصاحبة أحد من ذويه متى انتهت فترة إدخاله لا إراديا (فكيف إذا أصابه مكروه في الطريق وهو تحت تأثير العلاج، وماذا سيفعل أهله تجاه المستشفي التي تركته يخرج هكذا دون ترتيب مع الأسرة؟، والأسرة في مصر لن تقبل من أي مستشفى تركها لابنها أو ابنتها تخرج هكذا بعد فترة علاج نفسي).
* حرية الحصول على خدمة البريد والهاتف والإنترنت حال توافرها بالمستشفى (ماذا لو أساء استخدامها أحد المدمنين فاستغلها في جلب المخدرات أو الهرب أو إدارة عمليات تهريب أو غيرها؟)
ونرى في المادة 30 ما يلي: يلتزم الطبيب النفسي بعدم إعطاء أي علاج لمريض الدخول الإرادي دون الحصول على موافقته المسبقة المبنية على إرادة حرة مستنيرة، كما يلزم إثبات ذلك في الملف الطبي (ماذا لو رفض علاجا ضروريا لحالته؟).
ومن حسنات ذلك القانون أنه سيفتح شهية كافة الطبقات للحرية المطلقة، فنتوقع حين يطبق أن تخرج المسيرات وتظهر الاحتجاجات من الأصحاء الذين يطالبون بمنحهم الحرية أسوة بالمرضى النفسيين، وربما يحقق هذا المثل القائل: "المجانين في نعيم".
واقرأ أيضًا:
حدوتة قبل الموت / أسبانيا من... إلى... (2) / انتصار أخلاقي / سيكولوجية النصب والاحتيال2 / حقوق المريض النفسي بين الرعاية والوصاية