كيف يتعايش الناس برغم اختلاف شخصياتهم؟
أنماط طبيعية من الشخصيات
من المعروف أن شخصيات البشر، الأسوياء منهم والمرضى، تختلف وتتباين بحسب ما تحمل من سمات مختلفة، تختلط مع بعضها بنسب مختلفة أيضاً لتكوِّن ما نقابله في حياتنا من أشخاص يختلفون أو يتوافقون في العديد من الصفات والسمات.
وعندما تطغى بعض السمات في الظهور لتأخذ الحيز الأكبر من التركيبة الشخصية تتلون الشخصية بهذه السمات الطاغية لتنتج نوعاً معيناً من الشخصيات الطبيعية المعروفة لدينا مثل الشخصية المرحة والانبساطية والنـّوّابية والنرجسية والانطوائية، والشخصية الوسواسة... إلخ.
فمن الطبيعي أن يكون عند كل الناس بعض السمات الطبيعية من الهوس أو المرح، لا تصل إلى درجة المرض وتخلو من الخروج عن المألوف كما تخلو من الأعراض الذهانية.
فنجد بعض السمات الطبيعية مثل الاندفاعية والمزاج المنبسط، والنشاط الحركي والذهني، وكثرة الكلام والارتباط بالقافية، والبذخ في استخدام الألوان والسلوك الاجتماعي المنفتح، والميل للدعابة موجودة في الكثير من الأسوياء. لكن عندما تطغى مثل هذه السمات على السمات الشخصية الأخرى فتأخذ المساحة الأكبر تؤدي إلى تكوين ما يسمى بالشخصية الانبساطية.
وعندما تطغى بعض صفات الاكتئاب مثل الانطواء والميل للعزلة، والتشاؤم عند بعض الناس الأسوياء فتكون الشخصية الاكتئابية.
وتتجمع كل هذه الصفات في ما يسمى بالشخصية النـَّوابية، حيث تتناوب فترات من الانبساط مع فترات الاكتئاب (غير المرضي) بشكل دوري واضح ويوصف مثل ذلك الشخص الطبيعي بالشخص متقلب المزاج.
والشخصية الوسواسية، على سبيل المثال، هي نوع من الألوان الطبيعية للشخصية تتميز بالدقة والميل للإتقان والترتيب، وبعض الطقوس والتكرار الممل أحياناً، والاهتمام بالتفاصيل المزعجة، والتردد في الأداء خوفاً من الخطأ.
أما الشخصية الهستيرية فتتميز بحب الظهور، والمبالغة في إظهار المشاعر، والاعتماد على التأثير العاطفي عن الآخرين.
والشخصية الانطوائية على عكس ذلك من ميل للعزلة، وكبت المشاعر، وانحباس في الأفكار...
ويرجع هذا الاختلاف أو التباين للعديد من العوامل والأسباب التي لم تخلُ من جدل العلماء وكانت وستظل خاضعة للبحث والتحليل، مثل الوراثة والبيئة المحيطة، والمجتمع، والصحة والمرض، والقوانين والشرائع وما غير ذلك من أسباب أُلِّفـَت فيها كتب ومجلدات.
ولكن من المتفق عليه هو وجود ما يسمى بالشخصية السوية، والشخصية المضطربة أو المريضة، وإن كان الخلاف الجدلي ما زال قائماً حول ما هو السواء، وما هو الاضطراب أو المرض في الشخصية.
فالشخصية السوية هي تلك الشخصية التي تستطيع التوافق مع كل من حولها من تغيرات بأقل قدر من الصراع أو المجهود بالرغم من وجود الاختلاف في الصفات والسمات، ويستطيع الآخرون التكيف معها بالرغم من اختلافهم أيضاً.
فلا تتسبب سماتها المختلفة في إلحاق أي أذىً أو ضرر بذاتها أو بالآخرين، ويكون ما تبذله من مجهود منصبّاً على راحة النفس مع عدم الإضرار بالآخرين، ويتأتى ذلك بالالتزام بالقوانين واللوائح والشرائع التي تنظم حياة البشر، والالتزام بما يُناط إليها من مسؤوليات وواجبات مع الاحتفاظ بما لها من حقوق. وأن تتوافر بعض السمات والصفات في شخصية ما، بما لا يؤدي إلى مخالفة تلك المواصفات، فذلك نمط طبيعي من أنماط الشخصيات السوي المختلفة الأشكال.
أما اضطراب الشخصية هو أن تكون السمات الشخصية مرضاً في حد ذاتها إذا لم تتوافر فيها تلك المواصفات فتسبب معاناة شديدة لصاحبها فتوقعه في مستنقع الإدمان مثلاً، أو توقعه في الجريمة، أو أنها تسبب معاناة أشد لمن حوله والمتعاملين معه.
وفي حالة وصف نمط طبيعي في الشخصية، لا تـُستخدم كلمة "اضطراب"، كما أن نقول الشخصية الهستيرية، أما في حالة وصف هذه السمات على أنها مرض فنحن نقول "اضطراب الشخصية الهستيري". ويعتمد تشخيص اضطراب الشخصية على عوامل كثيرة أهمها أنها تكون أعراضاً وسمات تبدأ منذ الطفولة وتستمر مشاكلها إلى كل مراحل الحياة.
الصراع بين الأنماط المختلفة للشخصية طبيعي ويحتاج للتنظيم
وينتج عن هذا الاختلاف أو الخلاف في الشخصيات العديد من الصراعات والتناحر الطبيعي، الذي لو أطلق له العنان لأكل القوي منهم الضعيف ولانتهُكت الخصوصيات واغتصبت الحقوق، ولتحولت حياة البشر على الأرض لتصبح بيئة حيوانية مفترسة ليس فيها مكان للرحمة أو الشفقة أو الاستقرار.
اختلاف السمات الشخصيية يتطلب وجود ما ينظمه
ولكي لا يحدث ذلك، فإنه يتطلب أن تعيش هذه الشخصيات المختلفة والمتباينة مع بعضها في حالة من التكيف والتعاون حتى تستمر الحياة، وذلك على مستوى الأفراد، والأسرة والمجتمع والدول.
ومن هنا كان الاحتياج لوجود قوانين وتشريعات ونظم للوصول لهذه الغاية، ولكن من الذي يضع تلك القوانين وتلك النظم؟
أيضعها من هم مختلفون في الصفات والسمات من البشر، فتنقلب الأحوال من حيث انتهت إلى حيث بدأت، أو أن يطلق العنان للأقوياء منهم (على اختلاف تركيباتهم الشخصية أيضاً) فيتحول الصراع لما هو أكثر ضراوة وشراسة، ويخضع الجنس البشري مثله مثل الكائنات الدونية الأخرى، لنظرية البقاء للأصلح والانتخاب البيولوجي.
أم أن يكون الحل أن يلجأ البشر إلى من هو أكثر قدرة يلتمسون منه وضع مثل هذه النظم، وآليات تنفيذها، مع قدرته على متابعة من يخالفها؟ ومن يكون لديه هذه القدرة؟ ومن الذي يدل البشر على الطريق الصحيح؟.
رحلة الإنسان في البحث عن منظومة القانون
ونظراً للضرورة المُلحّة لوجود مثل هذه النظم كان الإنسان منذ بدء الخليقة وما يزال في حالة من البحث والمحاولة للوصول لهذه الغاية التي لا غنى عنها.
ولكن في النهاية فإن الإنسان هو الإنسان، فهو أفضل المخلوقات وأذكاها على الإطلاق، ولن يجد من المخلوقات الأخرى من هو مؤهل لوضع التشريعات والنظم له، فتبدأ قصة الصراع من جديد.
وما أضَّل الإنسان وما أجهله على مرّ العصور عندما وصل لاستنتاج هذه الحالة المُلِحّة من ضرورة الوصول إلى الاستقرار على الأرض، فأخذ يصنع أو يخلق بنفسه الأصنام لكي يتبع ما يمليها عليه هو من قوانين يتوسم فيها الفائدة... ولم تختلف الأصنام مع بعضها، ولن تختلف، فهي أصنام مخلوقة من الجماد، ولكن صُنـّاع الأصنام هم من يختلفون مع بعضهم بعضاً تحت راية ما يصنعون من أصنام، ويعود الصراع ليكون أكثر ضراوة.
واستمر الإنسان -الأكثر حكمة وفطنة– فبدأ عملية البحث عن واضع للقوانبن لينظم للبشر تواجدهم على الأرض، ولما أدرك أن كل من على الأرض هو في حالة أشد منه تعاسة، ولا يستطيع تنظيم نفسه، فما باله بالآخرين، بدأ الإنسان في النظر لأعلى، ملتمساً القوة فيما هو فوق حدود البشر.
ولما كانت رؤية عين الإنسان محدودة ومقصورة على مجال ومدى معين، لم يجد أمامه ما يفكر فيه غير النجوم، والشمس، والقمر، وما إلى ذلك من ظواهر كونية يراها ويحس بها... لكن الإنسان الباحث عن القوة الحقيقية، سرعان ما يكتشف أن هذه الأشياء بما فيها من قوة، لا تستطيع الاستجابة له في إصدار تشريعات ونظم تحميه من اختلافه على نفسه، فيبدأ رحلة البحث من جديد.. ليستمر الصراع والتناحر بين الشخصيات المختلفة في معركة البقاء.
إلى أن ينتبه الإنسان فجأة إلى أن تلك المخلوقات التي كان يظن أنه يستطيع استمداد القوانين والتشريعات التي تضمن بقاءه منها، مثل الكواكب والنجوم والقمر، هي نفسها تعيش في منظومة تشريعية ثابتة ومتجانسة تضمن لها البقاء والاستمرار بمنتهى السلاسة، بالرغم من اختلافاتها الجوهرية وتباينها، ولن تفنى إلا أن يفنى الكون كله.
ما هذا... من هذه... ما تلك... لا بد من وجود قوة تفوق كل هذه القوة تستطيع تنظيم العمل فيها، وتسن قوانين غير قابلة للفساد، وأن تكون لها من السيطرة والنفوذ ما يضمن التزام هذه الأشياء– المختلفة السمات والصفات– بتلك القوانين.
لا بد أنه الخالق... خالق تلك الأشياء... هو الوحيد من يمتلك تلك القوة، وذلك النفوذ، وهو أيضاً الذي منع عنها القدرة على مخالفة الأوامر... الخالق... القوي... العليم بما صنعه هو من خلائق... الله، وهو الذي منع عنها القدرة على التفكير والعقل...
الله أكبر... الله واحد... وإلا فكيف يمكن الوصول لهذه النتيجة من التوافق والانسجام بالرغم من وجود الاختلافات؟ ألا يتطلب ذلك أن يكون واضعها واحد، وإلا استمر الصراع وانقلبت الأمور؟ ألا يتطلب ذلك القدرة الفائقة المطلقة بلا منازع أو منافس أو شريك، وإلا اختلف الشركاء، واستمر النزاع إلى الفناء؟.
الله واحد لا شريك له...
يا الله! أليس من خلـَق هذه الأشياء هو نفسُه من خلـَق البشر؟ أليس البشر مختلفون في الأشكال وفي الصفات وفي السِمات؟ إذن لماذا يترك الخالق البشر بلا قوانين تنظم معيشتهم على الأرض مثل سائر من خلق من مخلوقات؟
أيكون هذا معقولاً... بالتأكيد لا... فهناك شرائع وقوانين ونظم إلـَهية.
أليست هذه الأشياء المخلوقات جميعها مُسـَّخرة لخدمة البشر... ألا تدل كل الحقائق والظواهر من حولنا على ذلك الأمر... أليس الخالق واحد؟ ألم يخلق القوانين والنظم التي تنظم مسيرة تلك المخلوقات؟.
إذن لا بد من وجود قوانين وشرائع تنظم حياة البشر، وتضمن استمرارهم بالرغم من اختلافهم واختلافاتهم على هذه الأرض التي هي أيضاً من خلق الله.
ولكن الوضع مختلف قليلاً هذه المرة، فإن الخالق قد ترك للإنسان بعض القدرة في أن يلتزم بتلك التشريعات أو لا يلتزم بها، على أن تكون كل هذه الأشياء مسخرة لخدمته، بناء على ما سنَّه الله من قوانين لها ولكنها لا تمتلك تلك القدرة على الالتزام من عدمه.
كما أن الله فد منحه أيضاً قدرة التفكير والعقل... والإحساس بمتعة الحياة، فهو تكريم البشر إذن على سائر المخلوقات... ومن شكر فله الأجر، ومن كفر فعليه الوزر.
وهنا ندرك أن تلك المنظومة المنشودة، التي لا يستطيع الإنسان العيش الشريف بين أقرانه دونها، على اختلاف سماته، وسماتهم الشخصية هي ما يـُسـمى بالدين المنـّزل من السماء، وذلك الدين لا بد أن يكون من صنع الخالق، ويهدف للهداية إلى الحق والخير والسعادة، واستمرار الحياة واستقرارها بالرغم من وجود الاختلاف في الصفات والسمات عند البشر.
ولا بد أن يكون هذا الدين شاملاً لكل نواحي الحياة عند البشر، ولا بد له من أن يمتلك من الآليات ما يعطيه القدرة على فهم النفس البشرية، كما أن تكون لديه من الآليات التي تجعل منه منهجاً ومِنهاجاً قابلاً للتنفيذ ومخاطباً لما لدى البشر من عقل ومنطق.
وهذه المواصفات إنما تتوفر بمنتهى الدقة والإتقان في منهج الإسلام الحنيف وفي شريعته السمحة، المبنية على عبادة الله الواحد، ودستورها مستمد من وحي الخالق الواحد، ممثلاً في كتاب الله العظيم –القرآن الكريم– وفي سنة النبي العظيم– محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، القدرة الإلهية المعجزة في تفسير وتوضيح ما خـُلق عليه البشر من اختلاف في سمات الشخصية، ما ذكر على لسان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال: {تجدون الناس معادنَ، خِيارهم في الجاهلية خِيارهم في الإسلام}، مما يدل على اختلاف التركيبات الشخصية والسمات بغض النظر عن معتقداتهم.
فلنقُم بتطبيق عملي بسيط ومطابقة لما هو ثابت في علم الأمراض النفسية، من أن ظهور الأعراض والأمراض النفسية، أو مضاعفاتها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتوفر العوامل والظروف السلبية التي تـُتـرجَم في النهاية إلى ضغوط تـُظهر ما يمكن كمونه وتفاديه من هذه الأمراض عند من لديه الاستعداد من وراثة وعوامل أخرى.
فالمواد أو المعادن (التي وصف بها الحديث الشريف الناس) تختلف في درجة انصهارها أو درجة غليانها، فنجد أن النحاس مثلاً ينصهر عند درجة حرارة معينة، ثم يغلي عند درجة أخرى، ثم يتبخر عند درجة حرارة معينة ومعروفة أيضاً، بينما نجد أن الحديد مثلاً ينصهر ثم يغلي ثم يتبخر عند درجات أعلى، وتختلف هذه الدرجات في حالة النحاس أو الذهب أو الفضة أو أي معدن آخر، وهكذا... لكن بالتأكيد كلما زادت درجات الحرارة زاد عدد المواد التي تغلي أو تتبخر أو تنصهر إلى أن نصل لدرجة ينصهر أو يغلي أو يتبخر فيها كل شيء.
وبالتأكيد هناك درجة من الحرارة تحول كل شيء إلى شعلة ملتهبة من الأخلاط المختلفة كما هو الحال في قرص الشمس، كما أن توفر الضغوط وزيادتها في زماننا قد أدى إلى انتشار ظهور الأمراض النفسية والعقلية، وإلى تفاقم الأعراض حيث أن هذه الضغوط تصل بعدد أكبر من البشر إلى نقطة الانهيار والمرض، التي تشبه نقطة الانصهار في المعادن.
وكما أن المعادن منها ما هو نفيس وما هو غير ذلك، كذلك البشر، فمنهم النفيس ومنهم الخبيث، ومنهم الصالح ومنهم الطالح
<<بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ>>
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}
واقرأ أيضاً:
الشخصية الهستيرية Histrionic personality / أنواع اضطرابات الشخصية / تصنيف اضطرابات الشخصية(2) / هل اضطراب الشخصية له علاج (2)