ليس الدور المتعاظم للإنترنت في حياة الإنسان اليوم منحة بلا عيوب، ولعل أحد أسوأ عيوبها هو ما نتج عن انتشارها من لوثة في الأفكار والمخيلات والسلوكيات الجنسية للكائن البشري على وجه العموم فهناك على مستوى العالم زيادة مرعبة في أعداد المواقع الإباحية والتي تعدت 500 مليون موقع حتى سنة 2005 !؛
وزيادة مرعبة مواكبة في أعداد من يقصدون باب المعالج النفسي أو النفسجنسي المتخصص كحالات مرضية طالبين العلاج من مشكلات نفسية أو علاقاتية نتجت أساسا من اعتمادية قهرية على مشاهدة المواد (الصور أو الأفلام) الإباحية على الإنترنت وبشكل تظهر فيه علامات السلوكيات القهرية وعلامات الإدمان السلوكي واضحة، بحيث تنطبق تسمية الإدمان Addiction أو الاعتمادية على المواد الإباحية Pornography dependence والحقيقة أن ما نسمعه من المرضى -أو حتى من لا يعترفون بأنهم مرضى- هو أعاني من إدمان الأفلام الجنسية أو إدمان المواقع الجنسية.
ما هي الاعتمادية على المواد الإباحية؟
وعند تأمل تلك الحالات نجد أن القاسم المشترك بين معظمها هو الانغماس ساعات يوميا في البحث عن وتحميل ومشاهدة مواد فيلمية إباحية أو صور تتعلق بموضوع جنسي معين مثل الولع بالمراهقات أو بالتوثين Fetishesm (وهو اضطراب نفسجنسي مثلا توثين الأقدام يكون اهتمام المريض فيه بالقدم هو موضوعه الجنسي الأساسي) أو بصور الشواذ أو المخنثين أو تتعلق بالجنس عموما من خلال مواقع الإنترنت المجانية غالبا والمتاحة والمفتوحة للجميع.... وحتى دون أن يحدث هذا الانحراف الجنسي فإن هذا الانغماس يؤدي إلى تأثيرات اجتماعية سلبية تؤثر على العلاقة مع شريك الحياة في المتزوجين، وعلى النمو النفسجنسي والاجتماعي في المراهقين وعلى الصحة النفسية الاجتماعية في كل الأحوال.
كيف تحدث الاعتمادية (الإدمان)؟
واقع الأمر أن مشاهدة المواد الإباحية أو الأفلام الجنسية هي في ذاتها سلوك يؤدي إلى إدمانه، فهي كالخمر والمخدرات أو هي أشد قدرة على إحداث الإدمان ولذلك أسباب عديدة منها ما تحدثه مشاهدة المواد الإباحية من تغيرات كيميائية في الدماغ وقد أثبت أن مشاهدة المشاهد الجنسية تحدث تغيرات كيميائية شديدة الشبه بما يحدث في الممارسة الجنسية الطبيعية وهو ما يمهد الطريق لإدمان كيميائي بامتياز، ومن الأسباب أيضًا ما تقوم به المواقع نفسها من جذب للزبائن وإشعال مستمر للفضول البشري؛
ليس هذا فقط بل إنك مثلا في بعض المواقع لا تستطيع الخروج من الموقع بعد دخوله من خلال حيل مثل اصطياد الفأرة Mouse-Trapping فلا تستطيع إخراجها من حدود صفحة الموقع ومثل فتح صفة كلما أغلقت صفحة، ومثل إنزال برامج خاصة بالموقع تحمل لك ما تشاء من المواد الإباحية، أو ترك أكواد معينة في المتصفح بحيث يصبح من الصعب على المتصفح عدم فتح نفس الموقع مرة أخرى، كل هذا ناهيك عن التغيير والتصنيف والاختراعات الجديدة في المواد والأشكال التي تكاد تكون يومية بحيث لا يتكون الملل في الضحية بسهولة أبدا!...
وبينما نقول في البلدان الغربية أن اعتياد مشاهدة مثل هذه المواد كثيرا ما ينأى بالضحية عن العلاقات الحقيقية الطبيعية مساهما في زيادة إدمانه وإبعاده عن الطبيعي، فإن الأمر في مجتمعاتنا مختلف لأن كثيرين لا توجد لديهم أصلا فرص لعلاقات طبيعية فتصبح المواد الإباحية هي كل ما يستطيعون الوصول إليه من مواد جنسية بما يجعل وقوعهم في الإدمان والشذوذات أسهل وأسرع مما يحدث في الغرب.
ما هي العواقب على مستوى الفرد؟
لا تقف مشكلة مشاهدي أو مدمني المواد الإباحية فقط عند مجرد الوقوع في الذنب ولا فقط عند مجرد الاضطرار للاستمناء (في الذكور) أو الاسترجاز (في الإناث) وإنما تمتد لما هو أخطر وأفدح بكثير فهناك التأثير الآسر للمخيلة الجنسية بحيث يصبح الشعور بالرضا الجنسي بمثابة المستحيل مستقبلا وسبب ذلك هو أن صور المشاهد الجنسية المثيرة تنطبع في المخ وتجعل الشخص أسيرا لها بشكل أو بآخر، وهناك أيضًا النزوع الملح للتغيير والرغبة الدائمة في تعدد المثيرات وغير ذلك مما يجعل الحياة الجنسية مع شريك مستقبلي واحد عملية محفوفة بالمخاطر، وهناك ما هو أسوأ منقلبا من كل ما سبق وهو الوقوع في شرك مواقع الشذوذات الجنسية Paraphilias ( اضطرابات التفضيل الجنسي Sexual Preference Disorders ) بكل غرائبها وعجائبها المختلفة وهو ما يجعل العلاقة الجنسية السوية أمرا يعجز الضحية عنه تماما.
وقد أثبتت أبحاث علماء نفس كثيرين (Rachman, 1968) و (Evans, 1968) وأيضًا (Marquis, 1970) منذ عقود طويلة أن من السهل جدا حصول تشريط Conditioning جنسي منحرف (أو شاذ) في الذكور باستخدام المثيرات الجنسية ومتغيرات كالعنف أو الأطفال أو غير ذلك من صور الشذوذات الجنسية (اضطرابات التفضيل الجنسي)... ومعنى هذا أن شخصا طبيعي يمكن أن يتحول إلى مريض بأحد اضطرابات التفضيل الجنسي بعد عدة زيارات لموقع يعرض مواد عنها، وبالتالي فإن تفسير الزيادة التي نلمسها في عملنا في معدلات تلك الاضطرابات التي طالما وصفت بأنها نادرة يصبح واضحا.
ولعل من المفيد تأمل ما قام به راكمان في دراسته حيث أنه قام في المعمل بإحداث نوعٍ من أنواع اضطراب التوثين Fetishism في 100 رجل في تجربتين بحيث ارتبطت الإثارة الجنسية لديهم شرطيا بالشيء الموثن، ثم قام بعد ذلك بإزالة ذلك التشريط ففاجأه أن إزالة هذا النوع من التشريط أصعب بمراحل مما توقع وكان بعض الرجال يرتدون إلى ذلك الانحراف المحدث معمليا.
وكذلك لا تقف المشكلة عند حد الإدمان حيث يصف أحد خبراء إدمان الجنس (Cline, 2000) أربعة تغيرات أو مراحل تحدث لمدمني المواد الإباحية هي:
1- الإدمان Pornography Addiction : حيث يتسبب التعرض المتكرر لإدمان التغيرات الجسدية والنفسية التي تنتج عنه كما بينا من قبل، وليس هذا فقط بل يحدث ما يشبه التحمل Tolerance فيحتاج الشخص بمرور الوقت إلى قضاء فترات أطول في مشاهدة المواد الإباحية للحصول على الإشباع.
2- التصعيد Escalation : ويقصد به ما يلاحظ من احتياج مدمني المواد الإباحية إلى مواد أكثر عنفا أو انحرافا أو غرابة، فبعد فترة من الإدمان يشعر المدمن بالملل من المواد الجنسية العادية أو الطبيعية ويستشعر الحاجة مثلا إلى مشاهدة الجنس العنيف أو الجنس مع الأطفال أو بين الشواذ أو بين المحارم أو مع المخنثين.... وهكذا.
3- التحصين أو إزالة التحسس Desensitization : ويقصد به التغيرات التي تطرأ على رد فعل المدمن لما يشاهده فما كان يُعتبرُ في أول الأمر صادما أو منفرا أو مزعجا أو مرفوضا أو محرما يصبح بالتدريج مقبولا وعاديا جدا!
4- التفعيل الجنسي Acting out : ويعني زيادة الميل مع الوقت إلى تجريب ما شاهده في حياته الواقعية فيتورط في سلوكيات مثل الاستعراء Exhibitionism أو التلصص Voyeurism أو الجنس الجماعي Group Sex أو ممارسة الجنس مع الأطفال أو الاغتصاب أو العنف مع الشريك الجنسي.. إلخ.
من وكم الذين يرتادون المواقع الإباحية؟
تشير الإحصاءات العالمية إلى أن خبرة الدخول إلى هذه المواقع تكاد تكون خبرة عامة لدى قطاع كبير من مستخدمي الإنترنت على مستوى العالم وإن كانت أكثر مناطق العالم دخولا على المواقع الإباحية هي للأسف دول عربية وإسلامية (مصر وباكستان وإيران حسب إحصاءات موقع جوجل) وللأسف هذا القطاع أغلبه من صغار السن ففي الولايات المتحدة الأمريكية تبين الإحصاءات أن تسعين بالمائة من الأطفال يتعرضون لمواد إباحية على الإنترنت قبل سن السابعة عشر وغالبا أثناء أدائهم واجباتهم المدرسية في المنزل.
وإذا فكَّرنا في مجتمعاتنا فإن قليلين من أطفالنا ومراهقينا يؤدون الواجب المدرسي على الإنترنت لكن أكثر دخولهم الإنترنت يكون لمواقع الألعاب الإليكترونية..... ومن المضحك أنه بينما يعرف كل من دخل الإنترنت من الكبار مدى الإغواء والإغراء الذي يتعرض له من خلال الصور التي تفرض نفسها عليه حتى من داخل صناديق البريد الإليكتروني -التي يظنها أغلب الناس محايدة- ويعرفون كذلك أن تتبع مثل هذه الصور والدخول إلى أحد المواقع الإباحية هو خبرة تحدث على الأقل مرة واحدة، بالرغم من ذلك فإننا نجلس مطمئنين تماما وأطفالنا على مواقع الألعاب وكأننا نفترض ونصدق أن الحفاظ على أطفالنا هو مسئولية تلك المواقع ومن المؤسف أن هذا غير صحيح بالمرة فمعظم مواقع الألعاب مع الأسف أصبحت تضع إعلانات للمواقع الإباحية ولا يتوقع من طفل على مشارف البلوغ ولا من مراهق أن يكون أقدر على مقاومة الإغواء من الكبار الذين نادرا ما يقاومونه خاصة في المرة الأولى.
ما هي العواقب على مستوى المجتمع؟
ومن عواقب مثل هذا أيضًا في مجتمعاتنا العربية ما نشاهده في أثناء عملنا كأطباء نفسانيين من زيادة في معدلات الشكوى من اضطرابات التفضيل الجنسي المختلفة (لأن أطفالا في مرحلة تشكل التوجهات الجنسية تأخذهم أقدارهم إلى أي موقع بأي مستوى من الشذوذ وكثيرا ما يصبحون أسرى لنوع ما من الشذوذ عن المألوف جنسيا).... مثلا توثين القدم أو السادية (الارتباط بين إحداث الألم أو الإهانة في الشريك الجنسي والقدرة على الأداء الجنسي) أو المازوخية (الارتباط بين تلقي الألم أو الإهانة من الشريك الجنسي والقدرة على الأداء الجنسي) ففي غياب الألم أو الإهانة يصبح السادي أو المازوخي عاجزا عن القيام بدوره الجنسي.
ومن عواقب ارتياد المواقع الإباحية التي يلمسها الأطباء النفسانيون كذلك زيادة مشكلات تشوش التوجه الجنسي Sexual Disorientation أو خلل الميول الجنسية بما يؤدي إلى بروز كثيرين يظنون في أنفسهم الشذوذ ويقعون في فخ توهمه وأحيانا ممارسته، وكذلك زيادة معدلات مشكلات اضطراب الهوية الجنسية Gender Identity Disorders والراغبين في تغيير جنسهم من ذكر إلى أنثى وبالعكس... كل هذه المشكلات التي زادت معدلات حدوثها في السنوات العشر الأخيرة خاصة في مجتمعاتنا العربية تواكبت مع الانتشار الوبائي لإدمان المواقع الإباحية.
وإذا افترضنا أن كل هذا لم يحدث فإن أحد أسوأ عواقب المواد الإباحية بوجه عام هو ما يحدث من تغير لتوجه الرجل نحو المرأة حيث تساهم مشاهدة تلك المواد في حصر نظرة الرجل إلى المرأة على أنها مجرد ماكينة للجنس وأن كل ما عليها هو الاستجابة لاحتياجات الرجل الجنسية كذلك توحي تلك الأفلام بأن كل امرأة هي مشروع شريكة في الجنس دون كثير تمييز ويصبح امتناعها عن ذلك لا قبولها به هو ما يحتاج إلى تفسير، زيادة على ذلك تتسبب مشاهدة المواد الإباحية في زيادة الميل والنزوع إلى استخدام العنف في الممارسة الجنسية واعتبار الاغتصاب أمرا عاديا غالبا ما ترحب به المرأة ولو دون اعتراف بذلك، وقد تم إثبات ذلك التغير في التوجهات والميول نحو المرأة في كثير من الدراسات.
ولعل من أهم مساوئ هذا النوع من الإدمان أن المتورط فيه يحيط نفسه بالسرية فترات طويلة وذلك حتى في المجتمعات الغربية لأن مشاهدة المواد الإباحية غالبا ما تكون مصحوبة بمشاعر الخجل فتدفع صاحبها إلى إخفاء تورطه... وفي السر غالبا ما تطول مدة الاعتمادية تلك حتى تؤدي إلى مشكلات حقيقية في حياة الشخص، ولا يحفز الشخص لطلب العلاج إلا التأثير السلبي لإدمان المواد الإباحية على مزاجه وعلاقاته وعمله في كثير من الأحيان.
هل هناك حل؟
تنطلق الآن صيحات متعددة في الغرب لإيقاف إدمان مشاهدة المواد الإباحية ويعتبره كثيرون بمثابة الوباء الصامت، وغير المسبوق ليس فقط في نوعيته وإنما أيضًا في آثاره الإنسانية المدمرة وغير المعتادة والتي تحتاج إلى ابتكار طرق جديدة للتعامل معها، وأما بالنسبة لنا في الدول العربية فإن المشكلة للأسف أعمق كثيرا منها في الغرب ولذلك عدة أسباب من أهمها وجود احتياج جنسي متعاظم عند فئات عريضة من الشباب غير القادرين على الزواج وهو ما يعني أن المواد الإباحية ستكون هي المصدر الوحيد للإشباع الجنسي ولسنوات، وهذا يمهد الطريق لمشكلات لا حصر لها، ومنها أيضًا ما اعتادته مجتمعاتنا من وضع الرؤوس في الرمال وإنكار وجود أي مشكلة وهو ما يعني أننا لن نتحرك قبل أن تتوالى الكوارث في العلاقات وفي سلوك الناس الجنسي.... وأخيرا ... نبقى في انتظار أن تتحرك مجتمعاتنا لننقذ ما تبقى، لكنني أبدأ بالهمس في الآذان: على المتورطين أن يطلبوا المساعدة من المعالج النفساني وكلما تحركت مبكرا كلما كانت مهمة العلاج أسهل.
المراجع:
1- Cline, V. B. (2000): Pornography's effects on adults and children. New York: Morality in Media.
2- Rachman, S. (1968): Experimentally induced sexual fetishism. Psychological Record, 18, 25.
3- Evans, D. R. (1968): Masturbatory fantasy and sexual deviation. Behavior Research and Therapy, 6, 17.
4- Marquis, J. N. (1970): Orgasmic reconditioning: Changing sexual object choice through controlling masturbation fantasies. Journal of Behavior Therapy and Experimental Psychiatry, 1, 263-71.
واقرأ أيضًا:
نفسجنسي PsychoSexual جنس إليكتروني Electronic sex / نفسجنسي PsychoSexual أفلام جنسية Porno Exposure