سر حبي فيك غامض.. سر حبي ما انكشف..
إنت تحفة صاغها الرحمن من أحلى التحف..
إنت في الدنيا قضية ما تحملها ملف..
إنت أحلى اسم في قلبي رباعي الحروف..
لا تعذبني وإلا.. سرت وتركت المكلا لك إذا ما فيك معروف!
هذه الكلمات من قصيدة للشاعر الحضرمي الشهير حسين المحضار –رحمه الله– كانت هي كل ما يلوح في خاطري عن المكلا قبل سفري إليها.. ولما ساقتني أقداري إلى هناك لأدرس العلم الشرعي في جامعة الأحقاف.. عرفت عالمها الخاص.. الذي تعلمت أن أحبه بشكل خاص أيضا!
"كل شيء متخلف في بلدكم هذه، حتى الموز صغره الشديد هو رمز آخر من رموز تخلفكم!"
هذه الكلمات الموجعة المتعالية قيلت على لسان دكتورة ((علم نفس النمو)) التي استضافتها الجامعة من إحدى الدول العربية الشقيقة.. وربما يكون هذا الانطباع لدى الكثيرين عن اليمن..
زرت المكلا لأول مرة وأنا في الثالثة والعشرين من عمري، بنفسية طالب العلم المستعد لتحمل المشاق مهما عظمت، ولذلك لم يشكل التأخر العمراني والخدماتي والمجتمعي صدمة لدي كما كان الحال عند الدكتورة التي نقلت لكم عبارتها آنفا..
وهيأت لي الحالة النفسية الخاصة التي وفدت بها على المكلا، نظرة ربما تكون أكثر عمقا وتفهما وإنسانية أيضا..
الشيوعية في جامعة الأحقاف..
بداية كان الوضع بالنسبة لي مختلفا بكل المقاييس..
فمنذ الأيام الأولى افتقدت المناخ الفكري الذي كنت أعيش في أجوائه في جدة..
لفتت نظري زميلة كانت تجلس منزوية ومعها كتيب ديني.. حاولت أن أفتح حوار معها.. فاستجابت برحابة صدر – كما هو حال أهل المكلا واليمن عموما – سألتني عن قراءاتي فأجبتها.. قالت.. نحن هنا في جنوب اليمن قد دمرنا الحكم الشيوعي.. الفقر صرف الناس إلا عن البحث عن ما يسد رمقهم.. تراجعت مكانة الكتاب بشكل كبير.. كنت دائما عطشى للقراءة فلم أجد في مكتبة أخي الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي سوى كتب ماركس ولينين.. وشراء كتب جديدة ترف لا ينبغي لأمثالنا من المطحونين.. ثم أضافت بلهجة مريرة.. والشعب كله مطحون..
في الشهر الأول لمقدمي إلى الجامعة كنت أعاني من هبوط دائم في الضغط أنهك قواي..
مما جعلني أقصر جهدي على الدراسة فحسب.. وبالتالي لم أشارك في النشاط الأول الذي أعدته طالبات الجامعة.. وكان مفاجأة بالنسبة لي.. مسرحية غنائية كتبت أيام الحكم الشيوعي.. تحكي عن شابين ربط الحب بين قلبيهما..
لكن والد الفتاة يأبى ارتباط الشاب بها للفارق الطبقي لصالحها.. فتواجه الفتاة أباها بكلمات قوية عنيفة.. فالتقاليد البالية لا مكان لها في زمن المساواة! ثم يرضخ الأب صاغرا.. ويغني الجميع للحكم الذي حرر الشعب!
وجهت كلية البنات الدعوة لحضور الحفل لزوجات الدكاترة، وأغلبهم من دول عربية شقيقة، كما حضرت الحفل منسوبات الكلية من دكتورات وإدرايات وطالبات..
أغلب الحاضرات كن يصفقن بحماسة أصابتني بالدهشة والحنق والألم معا.. كانت إحدى اللاتي مثلن في المسرحية زميلتي في الغرفة، والتي أصبحت أعز صديقة لي فيما بعد.. قلت لها.. ما هي الرسالة التي أردتن إيصالها؟ هل تؤمنين حقا بشكل العلاقة المنفتحة في المسرحية، وهل ترين مواجهة البنت أباها بهذا الأسلوب الوقح صوابا؟ الشيء الإيجابي الوحيد ربما هو قدرتكن على التعبير عن آراء مصادمة للحكومة، والمجتمع بهذه القوة، وهذه ربما شجاعة تحسب لكن!
قالت ببراءة.. بصراحة لم نفكر في شيء مما قلتِه.. ما فكرنا فيه هو أن نقدم مسرحية غنائية طريفة وحسب.. لم تفكر واحدة منا في مغزاها أبدا! ثم إنك كنت معي في الغرفة ولم تسأليني عن طبيعة النشاط، وحاولت أكثر من مرة أن أشركك معنا فكنت ترفضين، ولو فعلتِ لكنتِ نبهتنِا!
هكذا كان الجو السائد بين الطالبات.. فراغ فكري حتى الثمالة.. والجامعة وسيلة للتسلية، وتمضية الوقت، أو للوظيفة فيما بعد..
قليلات من دخلن الجامعة لأجل العلم حقا.. وأحكامي هذه ليست جزافية.. فكلية البنات كانت كلية صغيرة طالبات الأقسام الثلاثة – الدراسات الإسلامية والشريعة والحاسوب – كن لا يتجاوزن المائة والخمسين طالبة في السنة الأولى التي افتتحت فيها الكلية..
هدايا الوحدة والعراق..
الصورة القاتمة التي رسمتها لكم لم تظل كذلك.. الوحدة بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي هيأت مناخا للعطاء لم يكن موجودا.. في جامعتنا تجسدت الثمرات الطيبة للوحدة مساحات متاحة للطرح الفكري المتنوع الذي لا حجر عليه.. أساتذة من مشارب مختلفة ومتباينة أحيانا.. مع سعي جاد فاعل من إدارة الجامعة للارتقاء بمستوى الطالبات وقد تم ذلك بشكل جيد عموما.. وفائق لدى بعضهن.. مكتبة صغيرة لكن غنية بكتب متنوعة في كافة التوجهات الإسلامية، والتخصصات المختلفة..
من أجمل ما تميزت به الجامعة
المناخ الفكري المنفتح.. وقد تعلمنا فيه كيف نتأنى قبل أن نأخذ برأي ما..
فالخيارات أمامنا مفتوحة وقوية.. المقررات كانت من أمهات الكتب غالبا.. أن تدرس من المتون والحواشي فهذه ميزة عالية.. أدركت فائدتها في الأسس الفقهية والأصولية المتينة التي أعطينا إياها...
كثير من الأساتذة اليمنيين عادوا إلى الجامعة بعد أن ابتعثتهم في جامعات العراق..
عادوا ليس فقط بالعلم وحده بل بروح معطاءة متحمسة لخدمة بلدهم.. والنهضة بمجتمعهم.. هذه الروح عوضتنا ما كنا نعاني منه أحيانا من قبل بعض الأساتذة العراقيين خاصة من نظرة دونية، وعدم اهتمام بإعطاء المادة العلمية حقها..
كنت أشعر أحيانا أن من أسباب ذلك هو عدم إيمانهم بالطالب اليمني.. مؤلم حقا أن يجهل المعلم أو يتجاهل أن مهمته تربوية وتعليمية معا.. ينهض بالطالب نفسيا وعلميا.. كنت أحيانا أتعمد إحراج بعض هؤلاء الأساتذة إذا قابلوا أسئلتي بإجابات واهية ليسكتوني بها.. فأحرص على بحث المسألة وإطلاعهم على نتيجة بحثي.. كانوا يكتفون فقط بترداد معلوماتهم القديمة.. وينسون أن حياة العلم مذاكرته.. كنت بتصرفي ذلك أود تذكيرهم برسالتهم التي لم يقوموا بحقها.. فغفر الله لي إن كنت خرجت عن آداب طالب العلم في ذلك... ولعل في ظروفهم المادية الطاحنة، ومعاناتهم مع أوضاع بلادهم– العراق- ما يجعل لهم نوع عذر..
ليسوا سواء..
كان وقورا مهيبا.. قد وقر كتاب الله في صدره.. وفاض نوره على محياه.. درسنا على يديه تفسير الجزء الثالث من سورة البقرة، وتفسير سورتي آل عمران والنساء.. كنا نرى فيه العراق كله علما وقوة بأس.. كان ينحو منحى أهل الظاهر في تفسير كتاب الله.. وكثيرا ما يعقّب على الإمام الصاوي- وقد كنا ندرس حاشية الصاوي على الجلالين – بأسلوب قاس.. أذكر أنه سألنا عن حكم النكاح.. فلما أجبناه بما هو مقرر في مذهب الشافعية بأنه تَرِد عليه الأحكام الخمسة.. انبرى يرد هذا القول بقوة.. وينتصر لقول ابن حزم الظاهري في وجوب النكاح.. كان أسلوبه في النقاش يختلف عما اعتدنا عليه.. فقد تعلمنا أن لا نسفه رأيا مهما اختلفنا معه.. ومع ذلك كنا نجلّه ونعرف له فضله وأمانته، ونحترم حرصه على العطاء الجاد..
عطر المكلا.. أصالة وتأصيل
في الجامعة كانت أحيانا تفوح رائحة عطر ما من هنا أو هناك.. سألت إحداهن أستاذ الفقه.. وكان مفتي المكلا وقاضيها..
ماذا تقول يا شيخنا في الطالبات اللاتي يتعطرن ويخرجن إلى الكلية.. ألا ينطبق عليهن الحديث الشريف- ما معناه- :
أيما امرأة استعطرت فخرجت فهي كذا وكذا..
فقال : اتقين الله.. لا تطلقن الأحكام هكذا جزافا.. في بعض روايات الحديث قيدت الحكم بقصد أن تفتن الرجال.. وهل منكن من تملك أن تطلع على المقاصد والنيات..
هذه الإجابات وأمثالها في مسائل الفقه المتعلق بالمرأة والأمر بالمعروف والنهي المنكر.. خلقت لدينا حسا فقهيا عاليا ليس فقط في قراءة نصوص الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء.. ولكن في صياغة فقه المرأة بشكل جديد..
في السنة الثالثة عين في الكلية مجموعة كبيرة من طلبة كلية الشريعة والقانون في الجامعة.. كان مستواهم الفائق.. وحماسهم الكبير.. ودأبهم في العطاء العلمي والبحث مبهرا لنا.. وصبرهم على تعليمنا والأخذ بأيدينا يجعلنا أكثر تقديرا وعرفانا لهم.. منهم تعلمنا أسس الإتقان لمذهب الشافعية.. ومنهجية البحث فيه.. وفتحوا لنا آفاقا في الفقه المقارن عمقت النهج الحيادي لدينا..
من المواقف التي أثرت فينا بعمق.. موقف حصل في النصف الثاني من السنة الأخيرة، وهي سنة إعداد بحث التخرج، حمل أحد هؤلاء الأساتذة الشبان الفضلاء جزءا من الكتب القيمة التي تحويها مكتبته ليودعها في مكتبة سكن الطالبات.. قال : وجودها في مكتبة السكن يجعل الانتفاع بها أكثر.. وشدة حاجتكن إليها تستلزم ذلك.. قلنا له: لكنك تحتاج إلى كتبك هذه في التحضير.. قال: سأستعيرها حال احتياجي إليها، ثم أرجعها لتظل عندكن حتى يجئ موعد تسليمكن للبحوث..
كانت مرحلة التدريب العملي في الكلية حافلة علميا.. كنت أدرس للفصل الأول ثانوي.. وكانت الفتيات كلهن يغطين وجوههن ماعدا طالبة واحدة.. كانت هدفا لضغط رهيب من قبلهن.. يجب عليك تغطية وجهك لأن الجميع يغطين وجوههن..جاءت إلي مع زميلة لها.. قالت.. لماذا يجب أن أغطي وجهي يا أستاذة؟ الشرع أعطاني فسحة من حقي الأخذ بها.. قالت زميلتها.. يا أستاذة مدرس الدين قال أنه يجب تغطية الوجه.. خاصة إذا كانت الوحيدة التي لا تغطي وجهها.. ثم أليس العرف يوجب ذلك..
قلت.. سأناقشكن في الأمر لاحقا إذ أحتاج إلى بحث مسألة ما.. وفي الجامعة حملت السؤال إلى أستاذ أصول الفقه – وكان عالما فاضلا من السودان.. هل للعرف مدخل في إلغاء بعض الوجوه المحتملة للنص؟.. فأجابني بالنفي.. وأكّد علي أن أقرأ مبحث العرف في كتاب أو أكثر من كتب أصول الفقه.. فعلت ذلك.. وليطمئن قلبي أكثر حملت السؤال ذاته إلى أساتذتي في الفقه.. فكان الجواب ذاته، وزادوا عليه.. حبذا لو تحثيها على تغطية وجهها أخذا بالسنة.. احترمت نزاهتهم العلمية كثيرا فأنا أعرف أنهم لا يرضون لنسائهم أن يخرجن كاشفات الوجوه.. (ولوضع المرأة في حضرموت خاصة حديث سأعود إليه في مقالة لاحقة -بتوفيقه تعالى-)
أحببت الجو العلمي المتميز الذي وجدته في المكلا.. وأحببت حب اليمنيين لبلدهم وتحملهم للمشاق في سبيل نهضتها..
أحببت الروح الطيبة المتواضعة التي يتفرد بها الإنسان اليمني مهما عظم منصبة..
أحببت جهود الحكومة الظاهرة والنامية رغم ما يكتنفها من سلبيات وعراقيل...
أحببت حب اليمنيين لإخوانهم العرب، وتقديرهم لمساهمتهم في تطوير بلادهم وشعبهم..
المكلا حقا بلد الحضارة الإنسانية في أرقى صورها.. حضارة أخلاقية وعلمية تتشكل أسسها متينة ببطء نعم لكن بثبات وقوة.. وإن غدا لناظره قريب..
حبي للمكلا ارتقى في نفسي لاسيما في السنتين الأخيرتين في الكلية لحد الانتماء الذي كنت أظنه كاملا..
لكني لما عدت إلى جدة علمت أن حنين المرء دوما لأول منزل..
ويتبع >>>>: حكايات صفية:المكلا .. لمحات إنسانية (2)
*اقرأ أيضاً:
حكايات صفية : التسامح .. فضيلة المتناقضات / حكايات صفية : تفاصيل صغيرة