حفظت نكتة أكررها لأنها شديدة الدلالة عميقة المعنى: مرة واحد راح يكشف نظر فسأله طبيب الرمد: قول لي في أي اتجاه تقع فتحة هذه الدائرة، رد المفحوص بقوله: أية فتحة، وأية دائرة يا دكتور؟!
رد الطبيب الفتحة اللي في الدائرة التي أشير عليها في السطر الرابع من اللوحة؟!
سأل المريض المفحوص: أية لوحة وأي سطر؟! رد الطبيب: اللوحة المضاءة بفانوس الكشف!!
رد المفحوص: أي فانوس يا سيدي؟! صرخ الطبيب: الفانوس المعلق أمامك على الحائط؟!
صرخ المفحوص قائلا: هوه كمان فيه حيطة؟!! وأنا أتوصل تدريجيا، وأكتشف عبثية أن أشرح تفاصيل مواضيع لا توجد خلفياتها ولا بديهاتها ولا مقدماتها لدى السامعين!!
ويتضاعف المشكل حين يوقن المستمع أو يعتقد أنه يعرف ويلم ويدرك بل ويفهم ولديه وجهة نظر، بينما معلوماته ومعرفته وإلمامه وإحاطته بما يتكلم عنه أو يسمعه معيوبة أو ناقصة جدا، أو مشوهة للغاية، وهو يعتقدها أكثر من كافية ليفتي، أو ليدلي بدلوه في هذا الشأن أو ذاك!! أي أنه يجهل حقيقة جهله!!
يعني هو في هوة جهل سحيقة، ومصيدة غشاوة وفقر معلوماتي وتحليلي وإدراكي وذهني، بينما يعتقد نفسه قد بلغ درجة النظر، ويطالبك بأن تسمع رأيه، أو تحترم وجهة نظره!!
وهو يعتبر محاولتك لنقد حاله أو حالته، أو التنبيه لحظورة وفداحة نقص معرفته أو تشوهات تفكيره أو خلل موقفه المبني على هذا أو ذاك، يعتبر هذا من قبيل الهجوم الشخصي عليه أو التقليل من شأنه أو إحباطه، أو نهش تفاؤله، وإصابته بالإكتئاب!! وربما يهاجمك ليستعيد الثقة بجهله!!
فهو لا يرى نفسه إلا صاحب معرفة معقولة، ويمارس حريته في التعبير، وإبداء الرأي!!!
ويذهلني تواضع الخلفية التي تستند أغلبيتنا إليها وهي تمارس ما تعتقد أنه حوار، بينما هو أقل من حوار الطرشان حتى إذا كنا سنستخدم الطرش هنا بمعنى القيء (كما يستخدمه المصريون أحيانا)، وليس بمعنى الصمم!! أو حتى نستخدم الطرش مشتقا من الطرشي!!
"إنهم يتقيأون ومعتقدين أنهم يتحاورون"!!!
هكذا علق صديق على إحدى حوارات النت!! حيث لا منطق ولا فكرة ولا رأي، فقط قيء!!
وأمامنا الآن فرصة جيدة جدا لمثال صارخ على ما أقول: منذ مجيء "أوباما" والإدارة الأمريكية تسلك مسلكا يبدو مختلفا عما كانت تعمله أيام "بوش" الصغير، والحقيقة أن جوهر هذه السياسات لم يتغير قط، ولكن جرى الانتقال مما يسمى أساليب القوة الصلبة إلى أساليب القوة الناعمة، ومنها: الجهود الدبلوماسية، وأعمال العلاقات العامة، والتصريحات المريحة، والبروباجندا الإعلامية، والجهود الثقافية، وخطط تحسين الصورة والضغوط المستمرة وتجميلها، وجهود التسويق والصفقات الكبرى التي يظن الزبون المشتري معها أنه الرابح جدا، بينما هو مجرد مغفل مضحوك عليه!!!
ابحثوا مثلا عن غزة، والعدوان الوحشي عليها!! حاولوا فهم ما يجري على الأرض في فلسطين حاليا كيف تبخر المشهد السابق وتصدر غيره؟!
لماذا جاء أوباما إلى مصر، وليس غيرها؟!!
ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟!!
هل سمع أحد عن افتتاح مركز عسكري للتدريب على ما يسمى بمكافحة الإرهاب في الأردن بتكلفة ملايين كثيرة من الدولارات؟! ما الهدف؟ ولماذا الأردن؟!
من لا يدرك طبيعة ومعنى وجوهر التحولات في طريقة الإدارة الأمريكية، وأساليب إدارتها للصراعات والملفات، وأوباما مجرد شخص ماهر يؤدي دوره في منظومة تعمل في خدمة مصالح دولة، وبخطط من عمل مؤسسات دولة، ومن لا يفهم مغزى ومعاني ما يقال من كلامه، ولا يفهم أن الخطورة تكمن في أن أغلبيتنا لا يفهمون، وهم يعتقدون أنهم فاهمون!!!
بل ويدخلون في حمى نقاشات وحوارات!!
كلمتني صحفية ذات يوم مستنكرة لرأي صادر عن دار الإفتاء المصرية، وسألتني عن رأيي فقلت لها: أنا متفق مع هذا الرأي، ولكن هل تريدين أخذ تصريح، أم فهم الموضوع؟! قالت: أريد أن أفهم... وسألتها: هل عندك وقت الآن وتركيز، قالت: أهلا وسهلا، مستعدة.
واستغرق الشرح زهاء الساعة، وصاحت بعدها: الآن فهمت، شكرا لك!!
ترى كم تحتاج أمتنا من وقت لتفهم وتقتنع وتصدق وترى أن هناك في الأمور التي تجهلها حائط معلق عليه فانوس، وعلى الفانوس لوحة فيها صفوف علامات على شكل دوائر، وفي كل دائرة فتحة في اتجاه ما؟! ما زلت أحاول أن أتعلم وأن أفهم، وأتساءل: ترى من لديه منا الاستعداد للاعتراف بحجم جهله وقلة معرفته، ثم توابع فهمه لو فهم؟!!
من منا لديه الإرادة والعزيمة ليتعب نفسه كثيرا حتى يفهم بجد قبل أن يندفع لمساحة الإفتاء، أو إبداء الآراء الفارغة غير القائمة على برهان أو معرفة أو إلمام بتاريخ أو جغرافية أو جذور مسائل، أو تطور أفكار، أو منظومات تفاعل، وتوازنات، أو تطورات؟!!
بدون هذا الجهد الذي أراه غائبا ضائعا وسط ضجيج الطحن غير المنتج من حولنا، بدون بناء حائط الوعي المتين، وعقلية المعرفة والفهم والفعل، سنبقى نبدد الطاقة فيما لا نفع فيه، وسيبقى الجدار الإسرائيلي يشق فلسطين طالما عار الجهل يجللنا دون أن نشعر بأي خزي!!
ودون أن نعترف أصلا بهذا الجهل!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: الدار والإعمار/ رأسنا ونعالنا، معروفنا ومنكرنا مشاركات