نعم عادت الروح للشعب المصري بعد طول رقاد ظنه البعض مواتا, واستيقظ الديناصور الهائل وبدت حركته في البداية بطيئة نظرا لضخامته, ولكنه بدأ يتمدد من ميدان التحرير إلى الإسكندرية والسويس والمنصورة والفيوم والعريش والمنيا وأسيوط. لقد جاءت الصحوة من أكثر الأماكن اخضرارا ونقاءً وبراءة وتمردا, من جيل لم يتشبع بعد بأخلاق العبيد كما تشبع آباؤه وأجداده, جيل لم يستجب للكهنة حين أمروه بالسجود للفرعون الإله, جيل جلس ساعات على البلاي ستيشن يخوض معارك كبيرة فتعود على التخطيط والحشد وعشق المغامرة, جيل لم يرتعد من أفلام الرعب بل عشقها واستمتع بها, جيل تواصل مع نفسه ومع غيره عبر الشبكة العنكبوتية العالمية الجبارة فتعود السباحة في البحار المفتوحة وفي السماوات المفتوحة, جيل خلق لنفسه لغة جديدة مختصرة وسريعة وساخرة ليتمرد بها على المفردات المعلبة التي سممت وعي مجتمعه وخدرته.
واستجاب الجسد المصري في البداية على حذر, ثم أيقن بعد وقت قصير أن الروح عادت فعلا فاستجاب وتغير وكسر حاجز الخوف وخرج في البداية إلى الشارع بالمئات ثم بالآلاف ثم كسر حاجز الملايين وكسر قبلها شوكة الشرطة التي أرهبته وقمعته لسنوات طويلة, ثم كسر حاجز الخوف من الفوضى الذي طالما هددوه به إن هو ثار أو تحرك, فقد تأكد من قدرته على تنظيم المرور بنفسه وحفظ الأمن بنفسه في غياب الشرطة.
ونبتت زهور جميلة في ميدان التحرير وفي ميدان المنشية وفي ميدان الشون وفي ميدان المحافظة وفي أغلب ميادين مصر. واستجاب الناس وتدافعوا لري تلك الزهور والثورة على الأشواك التي طالما مزقت أجسادهم, وفرح الجميع بأن التغيير أصبح وشيكا, وهنا دارت آلة التزييف الجهنمية التي تدربت على اللعبة وأجادتها على مدى عقود طويلة فلعبت على مشاعر الجماهير مستغلة في ذلك بعض كلمات ووعود في خطاب رئاسي ومحركة خلايا نائمة أو مستيقظة على قنوات تليفزيونية حكومية وقنوات أخرى تابعة, وتحرك المزيفون بهمة ليلعبوا على أوتار ضعيفة لدى الشعب المصري, ولعبوا على احتياج الأمان فأثاروا خوفه الدفين من الفوضى بانسحاب الشرطة المقصود من الشارع لمدة ثلاث أيام, ولعبوا على عنصر الاحتياجات الأساسية فأنهكوه بعدم صرف المرتبات وإغلاق البنوك ونقص البنزين وارتفاع أسعار المواد الغذائية, وأوهموه بأن الثوار ينتمون لجماعات محظورة ويتحركون بأجندة أجنبية وتم تدريبهم على أيدي خبراء يهود, وأن ثمة عناصر أجنبية مندسة بين الشباب الثائر.
هنا وقع كثير من الناس في الفخ ونجح المتلاعبون بالعقول في تحريك مظاهرات مضادة تهتف باسم النظام وتطالب بعودة الأب الذي صوروه أبا راعيا حافظا رحيما. وهنا ظهرت أزمة الوعي التي مازالت قائمة لدى قطاعات كبيرة من المصريين, وظهرت أزمة الذاكرة المصرية الضعيفة التي لا تختزن أحداثا أو مواقف أو وعود, وظهرت أزمة العقل المصري الذي لا يستطيع أن يفكر باستقلال كاف وتغيب عنه كثيرا الملكة النقدية التي تمكنه من تمحيص ما يرى ويسمع. وافترق المعارضون التقليديون من رؤساء الأحزاب وقادة الرأي حول جني مكاسب الثورة التي لم يتعبوا فيها وراحت نزعات الزعامة والمكاسب الشخصية تسيطر على المشهد.
كل هذه الآفات التي ذكرناها باتت تهدد عودة الروح خاصة وأن هناك عقولا شيطانية تحاول رؤية أي ثغرة في البناء الثوري والبناء المجتمعي تتسلل منها لتقتل تلك الروح الناشئة وتعيد عجلة الحياة في مصر إلى الوراء. إذن فبراءة الثورة ونقائها, وحماس شبابها لا يضمن استمرارها خاصة مع محاولات قوية ومستميتة للالتفاف حولها وتفريغها من مضمونها ومحو آثارها.
ثمة قطاع كبير من الشعب لم يتعلم (وهذه مسئولية الجميع), وحتى المتعلمين منهم تلقوا تعليما سطحيا مشوها, وثمة بطون خاوية ترضى بأي شيء مقابل وجبة طعام (وهذه مسئولية الجميع), وثمة نفوس خائفة من المجهول, وثمة متطلعين للانتفاع بما يجري وتحقيق ثروات ومكاسب على حساب دم الشهداء, فانتبهوا يا أولي الألباب.
واقرأ أيضاً:
المصريون.. أهل نكتة.. حتى في المحنة!/ ساخن من مصر: أيام الغضب جمعة الزحف/ الباشا عبد المأمور