في طريقه إلى المنزل، كان يسير بخطى متثاقلة... يتأرجح يمينا ويسارا... يردد أغنية بالأمازيغية، لا أحد يفهم ما يقول... يتوقف أحيانا و كأنه يتأمل موضوعا ما، وأحيانا أخرى يكلم من يمر بجانبه... أو يلعن ويشتم كل شيء يركل قطة أو وعاءا فارغا يصادفه في طريقه. لما وصل ،أخذ يبحث بحركات ثقيلة في جيوبه يبحث أكثر من جيب، المفاتيح؟ أين المفاتيح؟ فكرفي أن يطرق الباب، لكنه سمع صوت ارتطام شيء بالأرض، بعينين شبه مغلقتين، نظر إلى مصدر الصوت، انحنى ببطء وأخذ المفاتيح ثم فتح الباب بصعوبة كبيرة، دلف وهو يتهاوى... كل شيء مظلم في الداخل... أضاء المدخل، جال ببصره في الأبواب... أين غرفة النوم؟ آه! هناك! دفع الباب بقوة كاد يسقط على إثرها على الأرض، أضاء المصباح من جديد... جحظ بعينيه يتفحص الغرفة وهو يكاد لا يستطيع الوقوف على رجليه... رجلاه خائرتان... العقل مدوّخ، شعر بالجوع، اتجه صوب زوجته التي استيقظت على التو، انتفضت في غضب وصاحت في وجهه:
- ما بك؟ ما هذا الضجيج؟
- أريد أن آكل.
- وهل تركت لنا شيئا؟ نقودك تصرفها; في تلك القاذورات من خمر وحشيش وباغيات كلْ دَبَ جنابكْ تْـفو على راجلْ كِـيف دايْر. واستلقت بقوة على السرير ثم غطت وجهها.
نزع معطفه بصعوبة، كانت رائحة الخمر تفوح منه استلقى بجوارها دون أن يغطي جسمه المتهالك... وسرعان ما غط في نوم عميق.
- فِـيقْ فـيقْ.. اتْـباركْ الله عليكْ. إوَ خْـدَمْـتي على ْولادكْ! بْحالكْ ماخْـصوشْ إتْـزوجْ.
فتح عينيه... كان وجه المرأة الغاضبة يطلّ عليه من فوق... عيناها زائغتان... شفتاها الغليظتان ترتعشان وقد اتخذت يداها شكل المثلث على خصرها. تلعثم قليلا... لم يدْر بما يجيب، فهو يدرك أن حماقاته لا تنتهي، دائما يشرب الخمر، يدخن الحشيش، فما عساه سيقوله لها، انتشلته من حيرته قائلة:
- إِ يوَ هْـدَرْ! مالكْ ساكتْ؟ صافي... تْهَـنّيتِـي دَابَا؟
تذكر أيام العز والهناء... أيام كان يشتغل في دكانه... كان دكانه مشهورا في ذلك الحي، يبيع كل شيء تقريبا، أرباحه كانت تزيد شهرا بعد آخر... بدأ بدكان صغير وانتهى بدكان كبير، فقد أحبه الناس لأنه كان يحسن معاملتهم أُكايْـدِيرْ الخاطَـْر للناسْ. اشترى منزلا جديدا... أثـثه بكل ما يلزم. كانت الفتيات يخطبن ودّه... كنّ يتمنين الزواج منه. كيف لا وهو شاب ناجح... ذو أخلاق حميدة... والأكثر من ذلك أنه كان وحيدا، وهذا هو الجو العائلي الذي تتمناه المرأة اليوم.
لم يكن يتفرج على الأحداث بغباء، فقد اختار قلبه فتاة هيفاء بيضاء... كانت تقصده من وقت لآخر... تحييه في صوت رقيق: صباح الخيرْ أسِّي محمد...هات الزيت أسِّّي محمد... وكانت تتصنع في إخراج الحروف... تبتسم دائما... تمشي أمامه في دلال... ذات يوم، نسي السّي محمد نفسه ولم ينتبه إلى زبون واقِفٍ أمامه... فقد شرد ببصره إلى ذلك الزقاق الذي يمتد قبالة دكانه، لقد خطفت قلبه وذهبت بعقله، ولم تتركْ فيه إلا جسدا واقفا بلا روح.
ولم يطل الأمر، فقد قرر ألا يترك فاطمة تفلت من يده، أما هي فقد أجابته وهي تتصنع الدلال كعادتها إمعانا في إغرائه:
- مرحْبَ أسي محمد، ما غادِيشْ لْـقى احْـسنْ منَّكْ.
وتم الزواج بسرعة... وعاش لتوه لحظات هانئة وأياما سعيدة... ومع أن حي جاجْ إغْـرَمْ يغصّ ببائعات الهوى، فإن قلبه لم يكن يخفق إلا لفاطمة. فاطمة التي كانت تبادله حبا بحب... تطيعه ولا تناقشه... تتزين كل ليلة تخفف عنه أعباء العمل بهمسات الحب ولمسات الوفاء... لا تخرج إلا بإذنه ولا تأتمر إلا بأمره... هكذا عاش حتى كان ذلك اليوم! حين تعرف على ابن أحد الأعيان، شيطان في صورة إنسان. بدأ بالجلوس معه في دكانه، ثم انتقل به إلى الجلوس في المقاهي... و... وَدُوِرِ البغاء بعد محاولات إيقاع متكررة. تردّدَ السّي محمد في البداية...
ذات يوم في دار من تلك الدور، وضعت عائشة يديها على ركبته وقد أسدلت شعرها الفاحم حتى كاد يغطي وجهها البض قائلة:
- ما بك؟ فيم تفكر؟
استحيى أن يقول في زوجتي فاطمة، فهو الآن في جو آخر، جو النشاطْ أمُولاها رْبِّي. قدم له المعطي كأس خمر وقال: اشربْ! فبدأ المعطي وشرب الأول ثم عائشة فنوال، كلهم شربوا إلا هو، استحى أن يقال متخلف.. مْعقـّد ... فرشف رشفة فثانية ثم أكمل الكأس، شعر بدوخة طفيفة، ضحك السفلة الثلاثة.. بدأ يضحك بدوره وبصوت مرتفع، ثم ارتمى على عائشة يحتضنها بقوة. ناوله الشيطان سيجارة محشوة ب "جْوانْ"، دخن النصف ومد الباقي للمعطي أو إبليس اللعين كما يسميه. منذ ذلك الحين تغير السي محمد... صار يتغيب عن الدكان.. عن الدار والأولاد.. عبثاً كانت فاطمة تحاول رده إلى سابق عهده... كان يتذكر في أسى حتى نهرته فاطمة:
أشْـنُو دَبَ نمْشي نفْسدْ باشْ نْجيبْ لكْ الفلوسْ؟
- ......
- كـْـْليتِ فلوسْ الحانوتْ... الخدْمه والُـو... العْقلْ والـُو... أشبْقى ما نْديرْ مْعاكْ؟
وصمت... دائما يصمت... وهي تكاد تجنّ بصمته... ليته يقول لها شيئا... هي دائما تصرخ في وجهه، وهو دائما يحني رأسه في صمت، ومع ذلك لم تهجره. لفاطمة بنت في العاشرة من عمرها، وولد له ثلاث سنوات.
في الصباح الموالي، نهضت، أعـّدت فطورا عاديا من شاي وخبز شبه يابس. أيقظت الرجل الذي كان يغط في نومه، تناولا الفطور في صمت، ثم لبست جلبابها لتذهب إلى الدكان. فهي التي تتولى العمل فيه منذ مدة... منذ كان يصرف كل ما يربحه في شراء الخمر والحشيش، ومذ كان أحيانا يقايض تلك السموم ببعض المواد الغذائية لمّا لا يبقى معه درهم واحد.
وقفت في شيء من الأسى وقالت:
- إلى فاقْ الولدْ عْطِـيهْ إفطرْ، ُ..
ولم تكد تكملْ كلامها حتى سمعت أنينه، هرولتْ إليه في ذعر. لقد عاوده المرض من جديد، منذ أيام وهو مريض. حسبته تعافى... تسمّـرت عند رأسه وهي غارقة في التفكير، تُـرى ماذا ستفعل؟ شعرتْ برغبة شديدة في البكاء، رفعتْ رأسها إلى حيث يجلس زوجها، ألْـفتْـهُ صامتا كالصّـخر، هو الآخر يتأمّـل حاله... مرة أخرى تذكر ما قالته حماتُـه ذات يوم:
اسمع أولْـدْ الناسْ، إذا كنتِ راجلْ، طلّـقْ فاطمة أسمعت؟
لم يجبها في ذلك الوقت، لقد كان سكرانا... نشوانا كعادته، يردّد أغنيته المفضلة في لامبالاة واضحة. دارتْ حوله وتسمّرت أمامه كأنما لتمنعه من المشي، أو لتضطرّه إلى أن يستمع لكلامها جيدا وأضافتْ وهي تضرب الهواء بيديها في حركات عنيفة:
- طلّـقـها أسيرْ تشمْـكرْ فالزناقي... سيرْ تـْصاحبْ مْع مهْـنِي أمهْمومَه هدوكْ مْعاشْ غدي تْـفاهمْ!
انتشله من سهوه صراخ الطفل من جديد، قام فانتعل حذاءه، نظر إلى الولد الذي يئنّ نظرات غريبة... أجال ببصره قليلا في كل زاوية، أحس أنه لم يعدْ يساوي شيئا.. كالوردة الذابلة... كشمعة محترقة... دون أن ينْـبس ببنت شفة، خرج... لكنه خرج ولم يعد.
واقرأ أيضا:
تجربة / قنبلة موقوتة / أيام سوداء / ركلة العمر / بـيـن نـاريـن / حالة غضب