ركن سيارة الأجرة بجانب المنزل، دلف إلى الداخل والعرق يتحدر من أصول شعره الكثيف، الصيف أشد حرارة من السابق، والعمل جيد هذه الأوقات والربح وافر، شعر بابتسامة تكاد تنطلق من شفتيه وهو يتلمس النقود بيده اليمنى... انتبه إلى أمه وأبيه وهما واجمان، الصينية فوق المائدة... البخار يتصاعد من البراد وآنية زيت الزيتون وبعض الخبز البارد.
ألقى التحية وهو لا يخفي امتعاضه من هذا الجو المكهرب، غالبا ما يجد أن حربا ضروسا قد نشبت بين الجانبين. لم يعد يسأل ماذا حصل؟ مل ّ سماع نفس السيناريو الذي يكاد يتكرر لأسباب واهية. دخل غرفة النوم، وجد فاطمة باكية، صدرها يعلو وينخفض وكأنها أنهت سباقا مارطونيا قبل قليل، شعر داخله أن لا حاجة إلى السؤال. فالقصة هي القصة!
دار على عقبيه، رمى بالمفاتيح على الطاولة، جلس مادا رجليه أمامه، أخذ يأكل في صمت، تنحنح أبوه قليلا وهو يتكلف النهوض... فهو يشكو المرض هذه الأيام، والطب لم يسعفه بشيء مع أنه زار الاختصاصيين بمدينة مكناس. وماذا عساهم سيفعلون والعمر يتقدم به نحو النهاية... والشيب الناصع يشهد على ذلك.
خرج وهو لا يلوي على شيء، في الخارج يتنفس الصعداء.... صار مدمنا على الجلوس في المقهى، أراد نسيان مشاكله فخاض في مواضيع شتى مع بعض أصدقائه العاطلين من أصحاب الشواهد... تكلموا عن رؤساء الطوائف الحاليين أحفاد ملوك الطوائف بامتياز، عن نوايا ابن آوى بوش والعروش التي لا تتبدل... عن الكبار الذين يحكمون في الأرض ويتطلعون إلى الحكم في السماء... عن الشباب الضائع.. الهائم في موسيقى الرّاب ونغمات الكليبات أو ساندويشات الأذن كما يسميها أحمد... عن الأخوين قابيل وهابيل بفلسطين المغتصبة... عن كرة قناة الجزيرة التي تغوص إلى الأعماق لتنتهي في زاوية ما بغوانتانامو...
جفت الحلوق أخيرا، انفض الجمع إلا من اثنين. ابتدره صديقه علي قائلا:
- ما بك كنت تناقش بعصبية؟ معكـّر المزاج؟
حرك رأسه في صمت، ألقى نظرات حاقدة على كل شيء يتحرك أمامه ثم أجاب:
- كل إناء بما فيه ينضح.
- آه ! لعلها حرب أخرى؟ اسمعْ يا أخي، لست الوحيد الذي يعاني من هذا النوع من المشاكل.
صرخ من غير شعور: إلا أنا... أنا نصيبي زائد عن الحد!
انتبه إلى بعض الوجوه التي استدارت نحوه، صمت قليلا قبل أن يضيف في شيء من الهدوء المصطنع:
تصوّرْ.. تصوّر أني أعيش المشكل من وقت لآخر، هل هذه حياة؟ أنا يا أخي بين نارين محرقتين، فتلك أم أولادي، وذينك أبويّ وهما ضعيفان الآن... في حاجة إلى من يرعاهما ويخدمهما.
حرك علي رأسه موافقا على كلامه ثم قال:
- استقل يا أخي، استقل وارْع َ أبويك في نفس الوقت.
- لا، والديّ لا يستحقان هذا.. يجب أن أكون بجوارهما دائما. ثم لا تنس أنه باع أرضه ليشتري السيارة التي بها نحصل على لقمة العيش، أبعـْـد هذا أهجره؟ وأمي المسكينة التي تبكي أكثر مما تتكلم؟ تحترق كشمعة في صمت...
- إ ن أبغض الحلال الطلاق.
- الطلاق.. الطلاق! وأولادي؟ أأرميهم إلى التشرد وهم بعد فراخ؟ ثم هل نسيت أن زوجتي مريضة بالأعصاب؟ ذلك المرض الخبيث...
تأفف.. أخرج نفسا حارا من أعماق صدره، غرس عينين جاحظتين في عيني صديقه وكأنما ينتظر منه جوابا شافيا. أطرق علي برأسه إلى الأرض، مد يده ورشف قليلا من الماء، انطلق صوت آذان العشاء فقاما إلى الصلاة.
في الصباح، لاح على زوجته شيء من الهدوء، خرج لتناول الفطور مع أبويه، كانت ابنته الصغيرة في حضن أمه.. هي دائما تنام معها.. تأكل في أحضانها.. تذكّـر أن أمه تحب تلك الصغيرة وأخاها الأكبر ذي السنوات العشر... قبل أن يخرج للعمل، اقترب من أمه وقبـّل رأسها. نظرت إلي باب الغرفة المغلقة ثم قالت:
- هي يا ولدي الظالمة، أنت تعلم طبعها السيئ... هل تدري ماذا حصل؟
رنتْ إلى الباب من جديد وكأنها خافت أن تسمعها فتقوم حرب جديدة. خفـّـضت صوتها وأضافتْ وهي تنظر إلى البنت:
- لقد لطمتـْها بقوة على خدها... نهرتـُها، فقامتْ ترغي وتزبد... تسب وتلعن... ذكرتِ الطلاق.. الموت.. الحظ العاثر.. ثم طفقت تجهش بالبكاء كعادتها... أنت تعرف لسانها السيئ يا ولدي.
حرك أحمد رأسه موافقا، أطرق هنيهة يتذكر.. قال في نفسه: تفعل ذلك وأكثر.. هي دائما تغضب لأتفه الأسباب... تثور إذا قدمت لها نصيحة أو لاحظت عليها شيئا.. ثم تذكر هجرها له في الفراش... لا تقيم وزنا للحب والجماع... تهجره أسبوعا كاملا وأكثر... وهو كان يذهب إلى حي "جاجْ إغـْـرَمْ" يتسلل بين الدروب الضيقة، يستعرض الوجوه الجائعة إلى الحب والمال... يختار واحدة، يدخل يطفئ عطشه ثم يخرج. في المنزل يغتسل ويصلي ركعتين.. يرفع أكف الضراعة: اللهم اغفر لي ولا تبالي.. أنت القائل فمن اضطر غير عاد ولا باغ فلا إثم عليه. انتشلته أمه من حيرته:
- هيا.. قم إلى عملك واصبر يا ولدي.. اصبر!
رفع رأسه يتفرّس في البنت، كانت تفطر في براءة... أخوها محفظتُه بين يديه، تساءل من غير جواب.. لم يدْر كيف تذكر النفقة، فالطلاق يعني النفقة الشهرية.. يعني أن المرأة قد تسقط في الرذيلة.. فبعض أولاد الحرام متخصصون في هذا النوع من النساء... يعني هذا أن الأولاد قد ينحرفون... فماذا سيربح إن خسر فلذتيْ كـبده إذن؟
قبـّـل بنته في حنان، ربت على كتف أمه فقام وقال: سأوقظها، يجب أن..
اعترضتـْهُ أمه متوسلة:
- لا.. دعـْها في سلام... لا تهتمّ، سأقوم أنا بالواجب.
تسمّر في مكانه وهو ينظر إلى الغرفة نظرات غاضبة، تذكر هذه العادة السيئة، إذا غضبت لا تفعل شيئا تقريبا... بل تمرض.. وربما تدّعي المرض.. ولا تستعيد حيويتها إلا بعد حين! ثم لا تكاد تمر مدة قصيرة حتى يتكرر المشهد البائس... لم يستسغ هذا النوع من النساء العصبيّات.. وما أكثرهن، فالحياة معهن جحيم لا يُطاق....
واقرأ أيضا:ً
خـرج ولـــم يـــعــد / تجربة / قنبلة موقوتة / أيام سوداء / ركلة العمر / حالة غضب