دخل مدير الشركة المشهورة مكتبه وهو غضبان... سيما القلق بادية على محياه، دخل الخادم أحمد وحياه بانحناءة لطيفة، وضع فنجان القهوة على المكتب كعادته بعناية، رنا إليه المدير نظرة خاطفة، وبحركة ميكانيكية رفع جهاز الهاتف وأخذ يتكلم فجأة بعصبية:
- ألو.. السي فؤاد؟ اسمع، احجز لي كل ما يمكن من العلب وكيفما كانت. ماذا؟ نفذت؟ أوف.. طيب طيب، مع السلامة.
أشعل المدير المتأفف نصف سيجارة كانت بيده، كغصن في مهب الريح بدت ترتعش، أخذ نفسا عميقا... نفث الدخان وهو يغمض عينيه. الخادم الجالس قرب الباب من الخارج التفت إليه بحذر، تذكر الواقعة التي نزلت كالصاعقة على المدخنين، حدث نفسه: لكم الله أيها الإخوان المسلون، تحرقون المصانع المنتجة للتبغ كلها في يوم واحد؟ ليتكم حرقتمونا نحن في الخارج...، أصاب الجزء الكبير من المجتمع غضب عارم... علبهم المدخرة نفذت تقريبا... كان أحدهم لا يدخن إلا سيجارة واحدة جزءا جزءا... ظهرت أفواج من الشحاذين للسجائر... لأجزاء السجائر.
بعد شهرين كادت تتعطل بعض المؤسسات، الحكومة تطالب المدخنين بالالتحاق فورا بعد أن وعدتهم باستيراد أكبر كمية من الدول المجاورة في أقرب وقت ممكن. لكن عملية الاستيراد تتأخر لظروف مجهولة... المدخنون يزدادون تنمرا وغضبا، صارت المقاهي عبارة عن قبور... الجالسون أموات صامتون كأهل الكهف... والمارة من غير المدخنين يتجنبون المرور بمحاذاتها....
وبمرور الأيام، صارت حوادث القتل متفشية... عدة زوجات ضربن حتى أشرفن على الموت، ومنهن من طلقن... امتلأت السجون على إثر هذه الفوضى حتى لم تعد تستوعب المتهمين والمجرمين، فيما امتلأت المستشفيات بالجرحى.
الصحف تلتمس من الزوجات الطاعة مهما كانت أوامر أزواجهن المدخنين... تطالب الآباء بالخضوع لرغبات أبنائهم المدمنين... الإذاعة تطالب بمعاملة المدخنين بالتي هي أحسن "أفسحوا لهم في المجالس... اسمحوا لهم مهما فرطوا في حقوقكم... تسامحوا معهم أكثر... لينوا الكلام... أحسنوا الجدال... لا تذكروا السجائر في أحاديثكم... اجتنبوا الضحك... لا تشمتوا بإخوانكم، نرجوكم، كونوا عقلاء.. فأنتم الجسم السليم وأنتم العقل السليم".
في الساحات والشوارع، بزغت مظاهرات تطالب بالدخان... رفعت لافتات تقول: "الدخان أولا ثم الحرية ثانيا" "بيعوا القمح وهاتوا الدخان" "ويل للإخوان المسلمين" ثم... ثم حدثت مواجهات بين المدخنين والمصلين الخارجين من أحد المساجد. امحت اللحى بعد ذلك من الوجوه... صار الرجل يخشى على نفسه أن يقصد المسجد... لم يذكر أحمد كيف سمع بخبر الرجل الذي يصنع التبغ، سأل عنه حتى وجده، اشترى منه كيلو من الحشائش الميبّسة والمقطعة أجزاء صغيرة، التقطه كما يأخذ الفقير كيلو من الدقيق في السنوات العجاف، وهرع إلى منزله وهو يخفي بضاعته بين ثوبه وجلده.
أخذ أحمد ورقة رقيقة بيضاء، ثم أخذ مسكة أصبعين من تلك الحشائش ووضعها على الورقة، بالإبهامين برمها، وبطرف لسانه بلل حرفها وبرمها حتى استوت في يده سيجارة، ثم أشعل سيجارته الجديدة بفرح كبير، سحب نفسا عميقا ثم زم شفتيه تاركا ثقبا ضيقا لطرد الدخان، وأخذ يدخن في شره وهو ينظر إلى باقي الحشائش المفروشة أمامه كأنما ينظر إلى كنز... كان طعمها مر المذاق... أحس بسعال قوي، بدأ يسعل بشدة، أرادت زوجته أن تمد له كأس ماء فداست الحشائش المفروشة، رفع أحمد عينين حمراوين، وبدون تفكير، رماها بالكأس على وجهها، أطلقت صرخة قوية وهي تفر كقطة مذعورة... فيما أحمد كان يلعن ويصيح:
- لعنة الله علي... أنا الخادم التعس... لو كنت غنيا لكنت سافرت إلى الخارج وهناك سأجد ما أدخنه... تفو..! ثم أخذ يلوك بقية الكلام وهو يجمع الحشائش المتناثرة، عندما انتهى، وضعها في قطعة ثوب وعقد حولها عقدة محكمة وخبأها في مكان أمين وخرج.
طوال الزقاق، كان أحمد يسمع أحيانا خصومات عنيفة هنا وهناك، وتارة كان لا يكاد يسمع ولو أنّة واحدة، لكأن حربا قد هدأت قبل قليل.. أصحاب الأسنان الصفراء والمسوسة والعيون الزائغة تفرض على الآخرين اتخاذ الحيطة والحذر.. حكّ جبهته بكفه ثم اتجه رأسا إلى مقهى.
ذات صباح، ألفى الناس يتسابقون لشراء الجرائد، تذكر أنه أمي، همس: لابد أنهم يريدون التعرف على مجريات الأمور.. وما لبث أن لاحظ الجرائد تتطاير فجأة هنا وهناك... تأوﱠه بعمق، ولم يلبث أن تناهى إليه صوت من ورائه:
- إحدى الصحف تقول بأن الدول الكبرى هي التي حظرت عملية تصدير السجائر إلى بلادنا..
عقب عليه صوت آخر في غضب وثورة:
تبا للدول الكبرى.. البيع حرام يا ناس؟ نحن نكاد نختنق وهم لا يأبهون؟ أي حق في هذا العصر وأين هي حقوق اﻹنسان؟
- أي حق؟ إنهم يريدون أن يعرفوا اﻷثار التي يمكن أن تخلفها أزمة اختفاء السجائر لمدة طويلة... هكذا ألح علماء الاجتماع وعلماء النفس في ندوات عقدوها مباشرة بعد استفحال اﻷمر عندنا. نحن نكاد نجن فيما هم يعقدون الندوات ويطالبون حكوماتهم بعدم تصدير السجائر...؟
دق أحمد الطاولة بقبضته، فيما رجل يصيح بقوة في الشارع: أريد دخانا.. أريد دخانا... رأسي سوف تنفجر...
بدأ أحمد يشعر باختناق... بضيق... فلم يشعر حتى استدار في جنون وطفق يهرول إلى منزله... إلى الحشائش الميبسة...
واقرأ أيضا:ً
خـرج ولـــم يـــعــد / تجربة / قنبلة موقوتة / ركلة العمر / بـيـن نـاريـن / حالة غضب