(1)
توجه كعادته إلى مكان الأنس والصهللـة، أو بالأحرى المكان الذي اعتاد أن ينتقي منه أنسه وصهللته المعتادة كل خميـس، آخر أيام عمله. وكالعادة أيضاً وجد "نبيل السايس" في انتظاره، وللحق نبيل لا يعمل بجراج أو يعتني حتى بسيارة ليلقب بهذا اللقب، وإنما عرفه بهذا الاسم منذ لقائهما الأول، وتذكر عندما رآه هذه المرة فقط أنه لم يسأله فعلاً حتى الآن ما سبب شهرته بهذا الاسم، لكن سرعان ما تلاشت الفكرة وكأنها تبخرت عندمـا بادره نبيل بالتهليل والترحيب، وظل يثرثر بكلام المحبة والوحشة وأصول الضيافة.
ظلت تلمع أضواء الملهى في عيني خالد وهو بجوار نبيل... حقاً كثيرة أضواء الملهــى الذي يجلس فيه، وبالفعل تبدو التجديدات فائقة الجمال في غيابه من أسبوع لأسبوع.
تنبه خالد بعد شروده أثناء ثرثرة نبيل، فنظر إليه قائلاً:
_ هل من جديد؟
فابتسم نبيل وكأنه كان منتظراً السؤال:
_ الخير على قدوم الواردين.. بنت جديدة أول يوم شغل انهاردة.
فقال خالد بشيء من الخبث واللهفة:
_ حلوة؟
فبادره نبيل:
_ قمر أربعتاشر.
ثم أشار بيده إلى يسار البار، تتبع خالد إشارة نبيل ولم يرهق عينيه في البحث لأنها وجدت ضالتها بسرعة.. وجد فتاه واقفة بجانب البار شاردة الذهن، بدت وكأنها غريبـــة عن المكان، لا تنتمي إليه.. ولا يشير إلى أنها جزء منه ســــوى الكأس الذي تحمله بيدها.
حاول خالد أن يدقق في ملامح وجهها ولم يفلح، فاستدار لنبيل قائلاً:
_ لا أستطيع أن أراها جيداً!
فنظر إليه نبيل نظرة متفهمة، ثم همــس في أذن فتاة تجلس بجانبه وسرعان ما ذهبت وأحضرت" فتاة البار" إلى مجلس نبيل وخالـد... الحقيقة أن خالد قد ارتاح كثيراً لهذه الفتاة -فتاة البار- ارتاح إليها قبل حتـى رؤيته لملامح وجهها البريء التي اكتملت عندما اقتربت منه وجلست بجانبه، شعر أنها مختلفة ووقعت في قلبه موقعاً حسناً متميزاً عمن قبلها، فمال لنبيل هامساً:
_ سآخذها.
هز نبيل رأسه قائلاً:
_ أوكي.. أوكي.. أريد منك النقود.
فقال عاطف موبخاً:
_ سأعطيك ولكن ليس الآن، النقود بالمنزل.
فقال نبيل وقد اعتلت وجهه خيبة الأمل:
_ وهو كذلك، ولكن لا تنس "وحياتك".
أمسك خالد بيد فتاته حتى نهضت معه ودعاها للخروج معه متجاهلاً كلمات نبيل.. حتى وصلا للسيارة ففتح خالد لها الباب الأيمن الأمامي لتجلس بجانبه وأغلق الباب مسرعاً
واتخذ مكانه وراء عجلة القيادة. ظلّ خالد يختلس النظرات لوجهها الجميل وهو يقود السيارة متجهاً لمنزله، شعر أنه بصدد نوع جديد من النســاء، بل شعر بلا إدراك أنه لأول مرة يقابل امرأة، ثم أراد أن يكسر الصمت قائلاً:
_ لماذا لا تتحدثين؟
فأدارت رأسها إليه ببطيء قائلة:
_ ماذا أقول؟
فقال بلهجة ظافرة:
_ أي شيء.
ثم بدر منه السؤال الذي كان يلح على ذهنه منذ بدأ قيادة السيارة:
_ هل هذه المرة الأولى التي تخرجين فيها لهذا العمل؟
فأجابت مسرعة وكأنها تنفي تهمة ألقيت بها:
_ لا.. كنت أعمل من قبل.
فبادرها متسائلاً:
_ أين؟
فأجابت متفكرة:
_ في شقة قبض على صاحبتها.
وبعد صمت ليس بطويل تساءلت:
_ هل المكان الذي سنذهب إليه بعيداً؟
_ لا.. بل ها نحن تقريباً وصلنا.
أضاء خالد ضوء الصالة في شقته ثم أشار إليها بالجلوس فجلست، كانت تبدو مرتبكـة رغم محاولاتها إخفاء ذلك... ذهب خالد للثلاجة وأحضر زجاجة الخمر التي اشـــتراها كعادته خصيصاً ليوم الخميس ثم ذهب إلى المطبخ وأحضر كأسين ووضع في كل منهما قدراً من الخمر ثم أعطاها واحداً، مدت يدها دون تردد وارتشفت من كأسها رشفتين ثم بدى الاشمئزاز الخفي على ملامـــح وجهها يغلفه تصنع بالتعود، فبــادرها خالد بسخرية وقد ضاق من تصنعها:
_ هل هذه أول مرة تشربين فيها الخمر؟
فقالت وقد تملكها الغضب هي الأخرى:
_ ما الذي يعنيك في ذلك؟.. إفعل ما تريده مني واتركني أنطلق.
فتغيرت ملامح وجهه وقد استفزت كلماتها رجولته، ووصلت بضيقه إلى غايته، فهجم عليها هجمة شرسة وحملها إلى غرفة النوم وألقاها بعنف على السرير ثم خلع قميصه مسرعاً، وانكب فوقها كعادته في مطارحة الغرام بل وبشــكل أكثر حدة نتيجة لغضبه السابق. أخذ يلتهم شفتيها ويمطرها بالقبلات في وجهها وعنقها وقـد شعر بارتعاش أطرافها واشمئزازها الذي لم يعد خافياً الآن، فوضح نفورها منه دون كلمة واحــدة ورفضها لقبلاته ولمساته، للعلاقة التي أصبحت طرفاً فيها دون حركة واحدة. ولـم يدري خالد إلا ويده تصفع وجهها صفعة قوية قائلاً:
_ "إنتي هتستهبلي يا روح أمك"!!.
تلقت صفعته دون أن تنظر إليه نظرة واحدة، وقد وضعت يدها على خدها وهي تحاول حبس دموعها، فاستطرد خالد:
_ أكره التمثيل.. فلا داعي لأن تستمري في لعب دور البريئة المغلوبة على أمرها، لا بد أن تتذكري أني أدفع لك، وبقدر ما سأدفع لا بد أن تعطيني.
ظلت تستمع إلى كلماته وهي صامتة، وعندما انتهى بادرته دون أن تنظر إليه:
_ أنا آسفة.
فنهض خالد من الفراش، وجلس على كرسي مقابلها وأخرج علبة السجائر من قميصه الملقى على الأرض وأشعل سيجارة وأسند رأسه إلى الدولاب الذي يلي الكرسـي
ثم قال ملوحاَ بيديه:
_ اذهبي اذهبي... شكراً لقد انتهت خدماتك.
فنهضت من الفراش وقد أصابها الذعر:
- إني آسفة.. حقاً آسفة، لم أقصد شيئاً، لن أكررها ثانية.
فنظر إليها متعجباً ثم قال:
_ "خلاص انتهينا"... الآن أطلب منك أن تذهبي.
فبادرته وقد غلبت نبرة الترجي على صوتها:
_ آسفة أرجوك.. اعتبر ما حدث شيئاً لم يكن.
ظل خالد صامتاً يندهش في داخله من تلك الفتاة العجيبة التي لم يجد لتصرفاتها تفسيراً، وظلت هي ترجوه حتى بلغت منها خيبة الأمل حدها، فهمّت بالذهاب.. ثم عادت ونظرت صوب خالد في صمت فترة ليست طويلة ثم اقتربت منه فطبعت على رأسه قبلة ثم قالت وقد تمكنت الدموع من عينيها:
_ أرجوك سامحني فأنا أحتاج إلى... أحتاج بشدة إلى نقـــ...
لم ينتبه خالد لتلعثمها وإنما كان شغله الشاغل تلك القبلة التي حلّت على رأسه محل الصاعقة، خرّ لها قلبه راقصاً، وجسده مرتعداً، وعقله مغيباً، فظل ينظر لوجهها الذي غطته الدموع وناله الاحمرار، وجده جميـــلاً مشرقاً وقد خيّل إليه في هذه اللحظة أنها أجمل فتاة رآها في حياته، فنهض من كرسيـه ثم جذبها من يديها إليه قاطعاً تلعثمها، ثم وضع كفيه على خديها وقبلها قبلة طويلة شعر فيها بذوبانهما معاً وانتقال روح كل منهما إلى الآخر.
( 2 )
شعر خالد بما شعرت به فتاته أثناء مطارحتهما الغرام، فنظر إليها بدهشة واستنكار وقد حاولت أن تهرب هي من عينيه، فابتعد عنها وهو ينظر إليها نفس النظــرة وقد لمح أخيراً الحسرة والموت في ملامحها، فقال وقد تمكن الضيق مــن نبرات صوته:
_ لماذا؟.. لماذا؟... لماذا تفعلين ذلك؟.
فارتفع نحيبها واخترق أذنيه، فقال وهو ينظر لقطرات الدماء التي لوثت الفراش
وقد علا صوته متحسراً:
_ لماذا لم تخبريني؟ لماذا لم تخبريني؟... أمجنونة أنت؟.
لم تجبه أو حتى تنظر إليه، بينما ظلت مستغرقة في نحيبها، فنهض من الفراش وقد جنّ جنونه واتجه للدولاب وفتح أحد أدراجه وهو يقول:
_ لماذا فعلت ذلك؟ لأجل النقود؟! كل هذا من أجل النقود؟!.
وأخرج رزمة من المال من درج الدولاب وأخذ يبعثرها على الفراش وهو يقول:
_ هذه هي النقود... تفضلي وانظري إليها... هذه هي النقود التي فعلت من أجلها ذلك.
ظلت تنتحب في أنّات مسموعة تكاد أن تخرج معها روحها، أنّات اهتزت لها جدران الغرفة، أنّات انفطر لها قلب خالد فضمها إليـه بقوة دافناً رأسـها في صدره فارتفع أنينها إلى صرخات وآهات موجعة، وقد شــعرت بأمان غريب في حضنه، أمان افتقدته منذ زمن، أمان كانت تحتاج إليه كثيراً قبل هذه الليلــة، أمان لم يعد يعنيها بعد هذه الليلة. شعر وهي بين يديه أنها تخصـــه، أنها مسؤولة منه، شعر أنه وجد شيئاً يفتقده، شيئاً كـــان يبحث عنـه كثيراً قبل تلك الليلة، شيئاً سيظل يبحث عنه أكثر بعد هذه الليلة.
وفجأة كتمت نحيبها وحبست دموعها ثم نظرت إليه نظره أحبها، ألفها، نظرة لم ينسها أبداً بعد، نظرة لم يفهم لها معنى... هل هي نظرة شكر؟ أم نظرة عتاب على تأخر اللقاء؟ أم نظرة وداع قبل الفراق؟ أم نظرة حب تمكن من قلب قد تحطم منذ سنوات؟.
ظلت تنظر إليه حتى تنبهت لشيء لم يفهمه ثم نهضت من الفراش وارتدت ملابسهــا ثم انكبت ململمة النقود المبعثرة على الأرض وعلى الفراش واضعة إياها في حقيبتها، بينما ظل هو مغيباً شارداً كأنه في حلم لا يعلم متى ينتهي، كأنه اعتزل الدنيا عامداً للحظــات، وقد رآها أمامـــه تنظر إليه بكامل هيئتها استعـداداً للذهاب، وسمع كلاماً يشبه صدى الصوت في أذنيه يظل يأتيه من وقت لآخر كل حين حتى الآن:
_ لن أنسى صنيعك أبداً.
وظل يفكر في هذه الجملة فيما بعد، فهو لم يعي حتى الآن أي صنيع تقصد؟ ولكن أقرب الخيارت لديه كانت النقود.
ها هي تذهب.. تفتح الباب وتذهب.. ها قد ذهبت، شعر بكل ذلك دون أي رد فعل من جانبه وكأنه قد قيد في هذه اللحظة التي ندم على عدم تحركه فيها طوال حياتـه بسلاسل غليظة محكمة تطبق على عظامه وتكاد تكسر ضلوعه، ولكنه كان يعود بعد ندمه ليسال نفسه هل إذا عاد به الزمن إلى هذه اللحظة كان سيتحرك ليمنعها من الذهاب؟.
واقرأ أيضًا :
عِندَ السقوطْ ! / رسائلُ إلى ريم / وجوهٌ شتى !! / حَــيْـضٌ ! / بِـلالُ العِشقِ ! / مَعْـشوقَةُ الأحزانِ !! / أعظَـمُ منْ حبٍّ !